وزير الدفاع يلتقي حاكم ولاية إنديانا الأمريكية    مؤتمر ومعرض دولي للتمور    أمير منطقة تبوك يستقبل وزير البلديات والإسكان ويستعرضان المشاريع    أمين عام التحالف الإسلامي يستقبل وزير الدولة لشؤون الدفاع النيجيري    أصول الصناديق الاستثمارية الوقفية بالمملكة ترتفع إلى مليار ريال    "ماونتن ڤيو" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب العالمي 2024" بإطلاق أول مشروع لها بالرياض ونجاح يُعزز حضورها الباهر    السعودية وعُمان.. أنموذج للتكامل والترابط وعلاقات تاريخية وطيدة    أرامكو السعودية و"سينوبك" و "فوجيان للبتروكيميائيات" تضع حجر الأساس لمشروع جديد للتكرير والبتروكيميائيات في الصين    مستشفى الحرجة يُفعّل التطعيم ضد الحصبة و الأسبوع الخليجي للسكري    سعود بن طلال يطلق عددا من الكائنات الفطرية في متنزه الأحساء الوطني    «الإحصاء»: السمنة بين سكان المملكة 15 سنة فأكثر 23.1%    أمير الشرقية يطلق هوية مشروع برج المياه بالخبر    رينارد يتحدث عن مانشيني ونقاط ضعف المنتخب السعودي    قسطرة قلبية نادرة تنقذ طفلًا يمنيًا بمركز الأمير سلطان بالقصيم    مستشفيات دله تحصد جائزة تقديم خدمات الرعاية الصحية المتكاملة في السعودية 2024    «التعليم»: إلغاء ربط العلاوة بالرخصة المهنية    9300 مستفيد من صندوق النفقة خلال 2024    القبض على باكستاني لترويجه 6.6 كلجم من الشبو بمنطقة الرياض    الكتابة على الجدران.. ظاهرة سلبية يدعو المختصون للبحث عن أسبابها وعلاجها    مهرجان وادي السلف يختتم فعالياته بأكثر من 150 ألف زائر    الملتقى البحري السعودي الدولي الثالث ينطلق غدًا    قمة مجموعة العشرين تنطلق نحو تدشين تحالف عالمي لمكافحة الفقر والجوع    النسخة الصينية من موسوعة "سعوديبيديا" في بكين    سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    "سلمان للإغاثة" يوزع 1.600 سلة غذائية في إقليم شاري باقرمي بجمهورية تشاد    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    مع انطلاقة الفصل الثاني.. «التعليم» تشدّد على انضباط المدارس    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    كونان أوبراين.. يقدم حفل الأوسكار لأول مرة في 2025    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    المملكة ونصرة فلسطين ولبنان    عدوان الاحتلال يواصل حصد الأرواح الفلسطينية    حسابات ال «ثريد»    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    لغز البيتكوين!    الله عليه أخضر عنيد    أعاصير تضرب المركب الألماني    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفاتيح خريطة الجنوب العرقية - القبلية تحدد إحداثيات ما هو متوقع . علامات انفصال جنوب السودان كانت ظاهرة قبل توقيع اتفاق نيفاشا !
نشر في الحياة يوم 16 - 01 - 2008

عند الحديث عن جنوب السودان واحتمالات استمراره كجزء من الوطن السوداني الأم أو انفصاله، يحضرني مشهدان مسكونان بدلالات توحي بأن الانفصال تقرر قبل التوقيع على اتفاق نيفاشا عام 2005 القاضي بمنح السودان فترة انتقالية مدتها ست سنوات، يقرر بعدها الجنوب مصيره بالوحدة أو بالانفصال.
ولنبدأ بالمشهد الأول الذي كان مسرحه دولة جنوب أفريقيا في عام 2004، حين كنت أعمل مراسلاً لجريدة"الأهرام"المصرية، ففي تلك الفترة التقيت ديبلوماسيين سودانيين جنوبيين يتلقون دورات تدريبية في الخارجية الجنوب أفريقية. في البداية، كان الظن أن المتدربين يتم تأهيلهم للعمل في حكومة الوحدة المركزية، لكنني علمت انهم يعدون لتمثيل دولة الجنوب المستقبلية في الخارج! ووصل الأمر إلى حد أنه كان معروفاً خلال الدورة مَنْ مِنَ المتدربين سيمثل الكيان الجنوبي في الولايات المتحدة، ومَنْ سيكون ممثلا له في بريطانيا وغيرهما من دول الغرب! لم تكلف القيادة الجنوبية نفسها - ولا داعميها من دول الغرب ولا دول أفريقيا جنوب الصحراء - مشقة انتظار نتيجة استفتاء عام 2011 للشروع في بناء مؤسسات وكوادر دولة مستقلة عن الوطن الأم.
وبعيداً من التصعيد الأخير لأزمات بدت مفتعلة من جانب الحركة الشعبية ضد شريكها في حكومة الوحدة حزب التجمع الوطني، فإن التاريخ يقول إن كيانا مثل جنوب السودان يتميز بقدر كبير من القبلية والعرقية، إذا وضع أمام خيار البقاء داخل جسد الوطن الأم أو الانفصال عنه، فإنه سيتجه تلقائيا نحو الانفصال. وهناك العديد من التجارب في حياة الأمم يؤكد هذه الفرضية، ولعل الأقرب جغرافيا وتاريخيا للسودان هو السودان نفسه!
فعلى رغم أن مزايا البقاء في جسد واحد مع مصر لم تكن تخفى على العامة ناهيك عن الخاصة في السودان، إلا أنه عندما قررت قيادة ثورة عام 1952 في مصر - لأسباب ليس هنا مقام ذكرها - استفتاء الأخوة السودانيين بين البقاء كجزء من جسد وروح الدولة المصرية أو الانفصال عنها، فإنهم قرروا على الفور الانفصال، وهو ما تم في كانون الثاني يناير 1956! وإذا كان قرار الانفصال عن مصر يعد مسؤولية القوى السياسية الشمالية السودانية في المقام الأول، تلك القوى التي تزعم وبحق أنها تنتمي إلى مجتمع تحرر نسبياً وفي شكل كبير من عصبيته القبلية والعرقية، فما بالنا بجنوب ما زال يعترف بحاكمية هذه العصبيات؟!
ولتوضيح مدى تأثير الحاكمية القبلية والعرقية في تحديد المصير، فإنه يجب رسم خريطة توضح التعدد القبلي والعرقي والسياسي وتقاطعات كل ذلك في جنوب السودان، وهي التقاطعات التي تشكل إحداثيات الانفصال القادم الذي يستشرفه كل من يملك مفاتيح الخريطة.
الامتداد الجغرافي للخريطة:
يحتل جنوب السودان700 ألف كلم مربع، بنسبة 28 في المئة من المساحة الكلية للسودان البالغة 2.5 مليون كلم مربع- وتمتد حدود الجنوب إلى ألفي كيلومتر مع كل من إثيوبيا وكينيا وأوغندا والكونغو وأفريقيا الوسطى.
الوجه الطبيعي للجغرافيا:
تشكل المراعي 40 في المئة من جنوب السودان، في حين تمثل الأراضي الزراعية 30 في المئة ، بينما تشغل الغابات 23 في المئة، أما المسطحات المائية فتحتل 7 في المئة من مساحة الجنوب.
الملامح الإدارية للجغرافيا:
ينقسم جنوب السودان إلى عشر ولايات هي: أعالي النيل - جونجلي - الوحدة الولايات الثلاث كانت تسمى من قبل إقليم أعالي النيل - ولاية البحيرات - وأراب - شمال بحر الغزال - غرب بحر الغزال الولايات الأربع كانت تسمى من قبل إقليم بحر الغزال - ولاية غرب الاستوائية - بحر الجبل - شرق الاستوائية.
وتضم هذه الولايات الجنوبية 30 محافظة.
الملامح السكانية للجغرافيا:
على رغم أن جنوب السودان يمثل 28 في المئة من مساحة السودان، إلا أن الكثافة السكانية في الإقليم لا تزيد عن 10 في المئة من التعداد الكلي للسكان البالغ 21.6 مليون نسمة طبقا لآخر تعداد سكاني جرى في عام 1983.
الملامح اللغوية للخريطة السكانية:
يصل عدد اللهجات الجنوبية إلى 12 لهجة، وإن كانت العربية باللهجة السودانية، والتي تنطق بلَحْن إفريقي، هي اللغة التي يفهمها غالبية سكان الجنوب.
الملامح الدينية للخريطة:
لم يجر إحصاء سكاني علمي في الجنوب سوى في عامي 1956 و1983، وخلا إحصاء 1983 من السؤال عن الانتماء الديني، وهو ما يجعل إحصاء 1956 المرجع الوحيد المتاح حتى الآن بشأن التركيبة الدينية للسكان، وهي كالآتي: 18 في المئة مسلمون - 17 في المئة مسيحيون - 65 في المئة غير دينيين وثنيون.
الملامح العرقية للخريطة:
ينحدر سكان جنوب السودان من ثلاث مجموعات سلالية رئيسة تشكل نسيجا اجتماعيا معقدا، وهي:
1- النيليون: وينتمي إلى هذه المجموعة ثلاث قبائل هي المسيطرة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا على جنوب السودان، وهذه القبائل هي: أ- قبيلة الدينكا: ويقدر تعدادها بثلاثة ملايين نسمة، وهي كبرى المجموعات الإثنية في جنوب السودان? ويفترش أبناء الدينكا المساحة الجغرافية الممتدة من شمال مديريات الإقليم الجنوبي بحر الغزال والنيل الأعلى إلى جنوب كردفان حول مجرى النيل حيث يقع خط تماسهم مع قبائل البَقَارة. ويُعَرف علماء الأجناس المركب العرقي - الثقافي الذي تنتمي إليه الدينكا بمجموعة الشعوب الممتدة في أقاليم شرق أفريقيا، تلك الشعوب التي تجمع قبائل الماساي في كينيا والتوتسي في كل من رواندا وبوروندي، وبعض المجموعات العرقية في مالي والسنغال المشهورة بطول القامة وسواد البشرة الداكن. وتعد نجوك - أبوك - أدوت - دينكا بور - نويك ملوال، من أهم بطون الدينكا.
ونتيجة التركيبة العرقية القبلية المعقدة في الجنوب، فإنه كثيراً ما تمردت قبائل أخرى ضد سيطرة قبيلة الدينكا على مقدرات الجنوب. ولعل أبرز حركات التمرد تلك التي قام بها أبناء قبيلة النوير بقيادة رياك مشار القائد الجنوبي الشهير.
ب- قبيلة النوير: يحتل النوير فضاء جغرافيا يتمثل في إقليم أعالي النيل الذي يضم مناطق: السوباط - الناصر - ميورد - أيود - اللير مع امتداد طبيعي لهم داخل حدود الحبشة. ونتيجة اسباب من بينها كثرة المستنقعات في مناطقهم، تميز النوير بنزوعهم إلى العزلة والاستقلال والاعتزاز بالنفس، وذلك بقدر تمتع مناطقهم بمنعة أمام أي اختراق بسبب المستنقعات الخطيرة التي تنتشر في أراضيهم. وأدت تلك الخصوصية الجغرافية والبيئية إلى توحيد لسان النوير، بالإضافة إلى توحد أسلوب معيشتهم بالمقارنة مع الدينكا.
ج- قبيلة الشلُك وهي أقل القبائل النيلية عدداً، وتحتل شريطاً ضيقاً على الضفة الغربية للنيل الأبيض من كاكا في الشمال إلى بحيرة نو في الجنوب. وقبيلة الشلُك تنتظم منذ زمن بعيد في نظام سياسي مركزي بقيادة ملك أو سلطان يطلقون عليه لقب"الريث"، وهو يجمع بين السلطتين الزمنية والروحية. ومن أبرز سياسيي الشلك لام أكول الذي انشق عام 1990 عن جون قرنق وأصبح وزيراً للنقل في حكومة البشير قبل أن يعود عام 2003 من جديد إلى صفوف الجيش الشعبي لتحرير السودان، وذلك قبل أن يشغل منصب وزير الخارجية في الحكومة الاتحادية حتى شهر تشرين الأول أكتوبر الماضي.
2 - النيليون الحاميون: أطلق الاسم على هذه السلالة لاشتراكها مع المجموعة النيلية في كثير من السمات العرقية والثقافية اللغوية وفي نمط الحياة الاقتصادية، من حيث الاعتماد على تربية الماشية خصوصاً البقر والاعتزاز بها، إلا أن الفارق الرئيس بين السلالتين هو أن الحاميين يتميزون بلون بشرة أقل سواداً من النيليين? ومن أهم قبائل هذه السلالة: الباري - المنداري - التوبوسا - التوركاتا، تلك القبائل التي يخضع أفرادها لسلطة سياسية قبلية جماعية.
3 - المجموعة السودانية: وهذه التسمية أنثروبولوجية وليست سياسية. وتضم هذه السلالة قبائل: الموز - المادي - البون جو - القريش. وتعيش هذه القبائل في فضاء جغرافي يقع غرب النيل وقرب الحدود الجنوبية والجنوبية الغربية للسودان. وقبائل هذه السلالة العرقية تعتمد في نشاطها على الزراعة وليس تربية الماشية، بسبب انتشار"ذبابة التسي تسي"القاتلة في أماكن وجودها.
في ضوء قراءة هذه الخريطة الجغرافية - العرقية - القبلية - الثقافية - الاقتصادية البالغة التعقيد لجنوب السودان، يمكننا أن نفك شفرة أعراض أزمة ما قبل الانفصال التي ظهرت بقوة وفي شكل علني في جوبا عاصمة الجنوب منذ نهاية شهر آب أغسطس الماضي، وكان أخطرها قرار الحركة الشعبية تعليق مشاركتها في الحكومة الوحدة المركزية في الخرطوم، وهو القرار الذي تراجعت عنه الحركة بعد أن استجاب الرئيس السوداني عمر البشير للضغوط بإجراء تعديل وزاري لبى مطالب الحركة.
إلا أن زوال هذه الأزمة كان مقدمة لأزمات أخرى تبدت مظاهرها في تهديدات مبطنة متبادلة بين البشير ونائبه اللدود سيلفا كير بالحرب، والتي انتهت موقتاً بإعلان الطرفين عدم العودة إلى الحرب الأهلية.
ولاستشراف المقبل من الأزمات، من المفيد تشريح الأزمة الوزارية الأخيرة، وجذورها الضاربة التي تغذي مصالح خارج حدود السودان، بقدر ما تعبر عن أزمة سياسية طاحنة مكتومة في جنوبه. وفي هذا الصدد، يدهش المرء من أن الاجتماع الدوري للحركة الشعبية في 18 آب الماضي الذي سبق افتعال الأزمة الوزارية لم يثر إشكاليات مع الحكومة المركزية. إلا أنه عقب الاجتماع، غادر باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية، إلى الولايات المتحدة، ودعا بعد عودته إلى اجتماع طارئ، إذ أعلن - ومن دون سابق توتر - أن الشراكة السياسية مع الحزب الحاكم في السودان وصلت إلى نهايتها، وهو ما تزامن مع إعراب الموفد الأميركي أندرو ناتسيوس للسودان عن قلق بلاده إزاء نجاح اتفاق السلام. الغريب أن تبرير الموفد الأميركي قلق بلاده تطابق مع عريضة الاتهام التي خرجت بها الحركة الشعبية في ما بعد ضد الحزب الحاكم، وجاءت كالآتي:
أ - انتهاك اتفاقية نيفاشا للسلام، وعدم تنفيذ بروتوكول أبيي المتنازع عليها.
ب - عدم استكمال إعادة انتشار قوات الخرطوم، وتأخير ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب.
ج - عدم شفافية إدارة موارد النفط، وهضم حق الجنوبيين فيه.
د - إعاقة التحول الديموقراطي في البلاد.
ه - إعاقة التعديل الوزاري، لا سيما في منصب وزارة الخارجية التي كان يتولاها قبل التعديل الوزاري الأخير لام أكول.
ولمعرفة مدى افتعال هذه الاتهامات وتفنيدها، فإن الادعاء الخاص بإعاقة التحول الديموقراطي في البلاد، يوحي لغير المتابع بأن الجنوب أصبح واحة الديموقراطية، وأن الخرطوم تتلكأ في أن تحذو حذوه. والحقيقة أن الحركة الشعبية تحكم الجنوب بقبضة من حديد، وتلاحق معارضيها أمنياً وسياسياً من خلال جهاز استخبارات في منتهى الشراسة، وهو ما يعوق في الواقع التحول الديموقراطي في البلاد.
وبالنسبة الى إعاقة التعديل الوزاري، فإنه ادعاء مردود عليه بأن الحركة نفسها هي التي كانت تعوقه بعدم إجبار وزرائها في الحكومة المركزية على الاستقالة، وطرح من يخلفهم!
أما قضية"أبيي"فقد وضع عدد من الصيغ لحلها، ويتم تداوله بين الطرفين. وعموماً، فإن حكومة الخرطوم تتهم الحركة الشعبية بالتلكؤ في تسمية ممثليها في اللجنة المشكلة لحسم قضية الحدود بين الشمال والجنوب.
وبالنسبة للاتهام بالمماطلة في سحب الجيش من بعض المناطق المتفق عليها، تؤكد الخرطوم أن قواتها انسحبت من غالبية الأراضي المتفق عليها في الجنوب، على عكس قوات الحركة الشعبية التي لم تغادر المواقع المتفق عليها في الشمال، إلا قليلاً.
أما عدم شفافية إدارة النفط وهضم حقوق الجنوبيين في إيراداته، فالرد عليه هو الحقائق التالية:
- عائدات النفط وإنتاجه وكمياته المصدرة، تقع في إشراف وزيرة الطاقة في الحكومة المركزية الاتحادية، وهي في الوقت ذاته زوجة الدكتور رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب والزعيم الجنوبي الكبير الذي ينتمي إلى قبيلة النوير المسيطرة.
- حكومة الخرطوم كشفت بالأرقام أن حكومة الجنوب حصلت على مدار السنوات الثلاث الماضية على أكثر من ثلاثة بلايين جنيه من عائدات النفط، وهي أرقام لم تستطع حكومة الجنوب تكذيبها.
- أكدت حكومة الوحدة في الخرطوم أن الجانب الأكبر من نصيب الجنوب من عائدات النفط تدفعه حكومة الجنوب لشركة"بلاك ووتر"الأمنية الأميركية لتدريب الجيش الجنوبي وتحديثه، وهي شركة المرتزقة التي ارتكبت جرائم بشعة في العراق!
إلا أنه يبقى بعد تفنيد الاتهامات التي كالتها الحركة الشعبية للخرطوم تبيان مغزى توقيت وملابسات افتعال هذه الأزمات، والهدف منها، ومن بين ذلك:
1 - يشتهر سيلفا كير زعيم الحركة الشعبية بأنه الأكثر ميلاً للانفصال من بين قيادات الجنوب، والأمر غير صحيح، إذ توجد قيادات أخرى في الحركة أكثر ارتباطا بأجندات خارجية، وعلى رأسها الأمين العام للحركة باقان أموم.
2 - تزامن الأزمة مع الجنوب مع مؤتمر سرت في ليبيا الذي كانت الخرطوم تأمل في أن يضع بداية سياسية لنهاية سلمية للصراع في دارفور، وهو المؤتمر الذي أفشلته الجبهة الشعبية بافتعالها تلك الأزمات، وبتأليبها جماعات التمرد المسلح في دارفور على الخرطوم.
3 - إظهار الخرطوم أمام جماعات التمرد في دارفور في صورة الشريك غير المخلص الذي يتلاعب بالاتفاقات والمعاهدات ويفرغها من مضمونها، وهو ما يدعو متمردي الغرب إلى مزيد من التشدد، واشتراط وجود أطراف غربية تشرف على أي اتفاق مع الخرطوم.
4 - محاولة نزع الغطاء الدستوري عن نتائج المفاوضات، من خلال التهديد بتجميد الحركة الشعبية مشاركتها في حكومة الوحدة التي تدير ملف التفاوض، وهي الإشارة التي تلقفتها الجبهة المتحدة للتحرير والتنمية في دارفور، فأعلنت"أن ما تبقى من حكومة الوحدة بقيادة المؤتمر الوطني، ليست مؤهلة للتفاوض مع حركات المقاومة في دارفور".
5 - إدخال حكومة الخرطوم في معارك استنزاف تشتت جهودها لإنهاء التمرد في الغرب، وبالتالي الإبقاء على جذوة الصراع في دارفور ففي تقدير الحركة الشعبية أن نهاية تفاوضية سلمية لملف دارفور تعني مزيداً من القوة لموقف الخرطوم في مواجهة الجنوب الذي ما زال قادته يتحركون بمنطق قادة التمرد العسكري وليس بمنطق القادة السياسيين. وإذا كنا قطعنا بدور جنوبي في مد أمد الصراع في الغرب، فإنه بالأحرى ينبغي البحث في دور الجنوب في صناعة الصراع في دارفور!
6 - تكثيف ضغوط واشنطن على حكومة البشير لإجبارها على الموافقة على وضع قيادة"قوات الهجين"في دارفور بإشراف غربي وليس إفريقيًا كما ترغب السودان.
7 - التغطية على فشل الحركة الشعبية وحكومتها الجنوبية في تحقيق حد أدنى لتنمية اقتصادية وديموقراطية في الجنوب، واستمرار العرق والقبلية في سدة الحكم في جوبا، وما يتفاقم بسببها من خلافات وتصدعات داخل الحركة ذاتها تمزق الجنوب، وهو التمزق الذي تؤكده تقارير تشير إلى بدء موجات هجرة كثيفة من الجنوبيين إلى الشمال بعد تدهور الأوضاع المعيشية بصورة كبيرة نتيجة تخبط وعشوائية حكومة جوبا.
ولما كنا بدأنا المقال بذلك المشهد الموحي في بريتوريا في جنوب أفريقيا، حيث كان الديبلوماسيون السودانيون الجنوبيون يحصلون على دورة تدريبية لتسلم مهامهم المستقبلية كسفراء لدولة جنوب السودان في الخارج، فحريّ بنا أن نختتم بذلك المشهد الذي كانت واشنطن مسرحه أخيراً عندما قررت الإدارة الأميركية استثناء جنوب السودان من الحظر التجاري الذي تفرضه على السودان، والبدء الفوري في منح تصاريح للشركات الأميركية بالعمل هناك? وجاء القرار في ختام محادثات أجراها باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية مع هنري بالسون وزير الخزانة الأميركية? ولاستكمال المشهد الموحي، تحدث أموم قائلاً إنه بحث مع الجانب الأميركي سبل رفع الحظر المفروض ضد باقي السودان، موضحا أن هذه العقوبات موجهة ضد حزب المؤتمر الوطني الحاكم، ومشيراً إلى أن إلغاء العقوبات مرتبط بتطبيق اتفاقية السلام الشامل بين الشمال والجنوب، وكذلك بالوضع في دارفور. واختتم باقان أموم المشهد بقوله إن استفتاء تشرين الأول أكتوبر 2011 ستكون نتيجته إما لمصلحة الوحدة على أسس جديدة أو الانفصال. إلا أن الرجل استدرك سريعا لكي يقول:"... ولكن كل الظروف الراهنة تجعل الجنوبيين يفكرون في الانفصال، لأنهم يعاملون حتى الآن كمواطنين من الدرجة الثانية...!".
ألم نقل أن قراراً بالانفصال أتخذ قبل التوقيع على اتفاقية نيفاشا، إلا أن ما لم يتسع المقام لذكره هو أهم مشاهد الصراع في الجنوب التي ستعقب الانفصال، ناهيك عن تغيرات محتملة في الخرائط السياسية لدول شرق أفريقيا ووسطها، والأهم احتمالات تغير الخريطة السياسية في شمال القارة بسبب خيار الوحدة القائم بين السودان وكيانات كبرى وعلى رأسها مصر. ولعل هذه السيناريوهات هي التي تدفع الولايات المتحدة لإعادة التفكير في خيار انفصال الجنوب، وللحديث هذا مقام آخر...
* كاتب مصري متخصص في شؤون السودان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.