باتت الساحة السياسية والعسكرية في جنوب السودان مرشحة لتحولات كبيرة بعد ظهور انشقاقات جديدة واتساع دائرة الصراع القبلي ونشوء حركات جديدة ووقوع تحولات مهمة في التحالفات القائمة. ورأى مراقبون معنيون بقضية الجنوب أن الخريطة الجديدة للقيادة السياسية في الجنوب لا تزال في طور التشكيل وأن الخريطة الجديدة ستهدد بشكل مباشر القيادات المعروفة باعتبار انها ستحمل مسؤولية فشل الجنوبيين في تحقيق تطلعاتهم سلماً أو حرباً. وكان أهم احداث الايام الماضية في الجنوب تشكيل حركة جديدة في منطقة أعالي النيل الاستراتيجية الغنية بالنفط، التاي لحقه مباشرة إنشقاق القيادي الجنوبي مساعد الرئيس السابق الدكتور رياك مشار عن الخرطوم وعودته الى العمل العسكري في المنطقة ذاتها التي تشهد تنافساً حاداً. وتزامن ذلك مع تحرك تقوده شخصيات سياسية جنوبية بارزة داخل البلاد وخارجها مثل نائب الرئيس السابق أبيل ألير والوزيرين السابقين بونا ملوال وفرانسيس دينغ لتشكيل قيادة سياسية جديدة. وترتكز التحركات الجديدة كلها على قاعدة الشك في تحقيق تقرير المصير في ظل التحالفات السياسية للحكومة السودانية والمعارضة. وبلغ المدى بإحداها وهي تنظيم "حركة إستقلال جنوب السودان" الى المطالبة الصريحة بإنفصال الجنوب فيما حرصت حركة القيادات على "ضمان تنفيذ الوعود بتقرير المصير على أساس خيارين هما الوحدة أو الانفصال". ويعتبر شعار الاستقلال شعاراً جذاباً في الجنوب الذي عانى ويلات الحرب الاهلية معظم سنوات استقلال السودان قبل 44 عاماً. ويلقي كثيرون باللوم على الحكومة السودانية التي خسرت حليفاً مهماً في مشار الذي اتهمها بعدم تنفيذ اتفاقها معه، لكن "حركة تحرير الجنوب" وتحرك القياديين لا يعفيان المعارضة أيضا من الاتهام بعدم الوفاء بالعهود والشك في صدقية عرض تقرير المصير. حركة جديدة وجاء الاعلان عن "حركة تحرير جنوب السودان" في نيروبي قبل أيام بقيادة الدكتور وال داني دوانغ وهو أكاديمي يعمل في الجامعات الاميركية منذ 1985 وسياسي شغل مناصب وزارية في الحكومة التي شكلت بعد إتفاق السلام الذي توصل اليه الرئيس السابق جعفر نميري مع قادة التمرد الاول في الجنوب. وشدد دوانغ في بيان تلقته "الحياة" على أن الحركة الجديدة ستعمل على توحيد القوى السياسية والقوات في وسط إقليم أعالي والنيل وشرقه وغربه، وأنها تهدف الى تحقيق إستقلال الجنوب ملتزمة الوسائل السياسية السلمية والعمل المسلح في آن. وأضاف أن حركته التي تنشط في مناطق استخراج النفط الاستراتيجية "جاء بعد تكرار فشل الحكومات الشمالية في الوفاء بالوعود وعدم تنفيذها الاتفاقات". وزاد "هذا يجعل العمل المسلح وسيلة ضرورية لتحقيق أهداف شعبنا في قيام دولته المستقلة". وأوضح أن مؤيدي حركته ينتمون الى قبائل جنوبية عدة وانها ترغب في "حوار مع القوى العسكرية والسياسية الجنوبية الاخرى وتعرض فتح قنوات حوار من أجل تعاون فوري وتنسيق عسكري ضد العدو في كل جبهات القتال في الجنوب". ودعا الى "سلام بين الفصائل ومصالحة تحت إشراف مجلس الكنائس الجديد في جنوب السودان". وأعلن تشكيل قوة عسكرية تابعة لحركته تحت إسم "مجلس القيادة العسكرية الموقت". ولم تتوافر معلومات مفصلة عن قوة الحركة الجديدة ومغزى توقيت الاعلان عنها الذي تزامن مع إستقالة مشار وتحرك القادة السياسيين الجنوبيين. لكن أهمية الحركة الجديدة تكمن في المنطقة الاستراتيجية التي تعمل فيها. وتحدثت "الحياة" الى ممثل الحركة في بريطانيا مجوك واندونغ فذكر أسماء شخصيات جنوبية من أعضائها بينهم جون لوك القيادي في حركة جون قرنق وبيتر أكواك وزير سابق ويوال دوك آخر حاكم لاقليم اعالي النيل في حكومة الصادق المهدي وكوادينجوك واوانغ وزير العمل السابق وطاهر بيور رئيس المجلس الاسلامي في حركة قرنق. وبدا واضحاً أن هؤلاء خرجوا من أحزابهم، لكن لم يتضح ما اذا كان قرنق غير راضٍ عن الحركة التي يمثل التحالف معها مكسباً له في إقليم النفط الذي لا يزال بعيداً عنه وإن كان لقواته وجود في بعض مناطقه. وشدد واندونغ على أن "الحركة قامت لأن إتفاق الخرطوم بين رياك والحكومة في عام 1997 لم ينفذ وان النظام انشغل بتقسيم الموقعين عليها ولأن الحكومة باتت تهاجم المواطنين في مناطق النفط بهدف تشريدهم منها لأنها تريد إخلاءها من السكان الاصليين". وتابع: "لسنا ضد الشمال لكننا نطالب بحقنا لأن مشروع الوحدة فشل، وحتى حركة قرنق التي تطالب بالسودان الموحد على أسس جديدة لم تجد أذنا صاغية من الشماليين في الحكومة والتجمع المعارض". ولاحظ أن "الموقف المصري من حق تقرير المصير موقف سلبي على رغم أن مصر تحظى باحترام الجنوبيين". وختم:"نحن نسعى الى تقرير المصير لشعب الجنوب حتى يقود الى دولة جديدة عاصمتها جوبا. ونعرض على إخوتنا الشماليين إتفاق تعايش سلمي وتعاون إقتصادي وتجاري". الساسة الجنوبيون الى ذلك، واصلت مجموعة السياسيين الجنوبيين البارزين التي تنتمي الى تنظيمات سياسية عدة ولم تتخذ حتى الآن إسماً، ربما طمعاً في كسب تعاطف قادة القوى العسكرية أو بعضهم على الاقل، إتصالات دولية وأخرى مع الحكومة السودانية. وقدمت مجموعة من السياسيين الجنوبيين في الخرطوم أخيراً مذكرة الى الحكومة كان أبرز ما ورد فيها "ضرورة مراعاة الحكومة السودانية والقوى السياسية السودانية الأخرى التزاماتها، وتأكيد حق مواطني الجنوب في تقرير المصير وهو مبدأ إنساني لا يقبل التحويل أو التبديل". ويزور ألير حالياً الولاياتالمتحدة لشرح مشروع مجموعته، وكان زار القاهرة والتقى قادة "التجمع الوطني الديموقراطي". وعقدت المجموعة إجتماعين في جنيف قاطعهما قرنق الذي بدا أنه يعتبر هذا التحرك خصماً على نفوذه. وأعرب قادة المجموعة عن إعترافهم بدور "الجيش الشعبي لتحرير السودان" وجهود "الحركة الشعبية". ووصفت نشرة "سودان ديموغراتيك غازيت" التي يصدرها ملوال المجموعة بأنها "مجموعة من الجنوبيين المعنيين"، وأوضحت أنها إجتمعت مرات عدة في مدينة مرغيس السويسرية وأنها "ستعقد مؤتمراً موسعاً وأكثر تمثيلاً للجنوب للبحث في الحوار من أجل تنفيذ تقرير المصير". وأضافت أن "المؤتمر سيعقد بين 12 و15 آذار مارس المقبل في موقع يعلن عنه لاحقا". وأشارت إلى أن المجموعة تدرس حالياً عقد المؤتمر في ثلاثة مواقع واحد في إفريقيا والاثنين الباقيين في أوروبا. واضافت أن "الهدف هو تشجيع الحوار بين الجنوبيين لدعم تقرير المصير". واعتبرت المجموعة أنها تهدف الى دعم حركة قرنق في مفاوضاتها مع الحكومة السودانية ونقل اقتراحات تجمع الاحزاب الجنوبية داخل السودان يوساب وتطوير موقف جنوبي موحد يشمل الفترة الانتقالية وسبل الحكم فيها وحتى إجراء الاستفتاء. وضمت المجموعة التي وقعت مذكرة الداخل الي جانب ألير كلاً من الوزير أليسون منايا ماغايا وعضوي مجلس قيادة ثورة الانقاذ الوطني السابق اللواء دومينيك كاسيانو والعقيد مارتن ملوال أروب. وتحركت المجموعة في ظل تزايد مخاوف الجنوبيين في الداخل من عدم التزام الحكومة اجراء استفتاء على تقرير المصير في ظل الصراع داخل الحزب الحاكم الذي تسبب في اعادة تشكيل التحالفات الداخلية والخارجية. ولا يخفى قادة جنوبيون مخاوفهم من توصل البشير الى اتفاق مصالحة شمالية سريع يحظى بدعم خارجي، ويعتبرون ان مثل هذا العمل سيعيد الوضع الذي حققه الجنوبيون خطوات الى الوراء. مشار وشكلت إستقالة مشار أخيراً صدمة لجهود الحكومة السودانية لتحقيق السلام من الداخل ومثلت ضربة كبيرة لصدقيتها في الوفاء بالوعود وإالتزام تنفيذ الاتفاقات. وشكا مشار مرات عدة في الماضي من تزويد الجيش السوداني منشقين عنه أسلحة وإمدادات لمواصلة القتال ضده في مناطق النفط في إطار سياسة تهدف لإعطاء الجيش الحكومي اليد العليا في المنطقة الحساسة. وشكا مشار أيضاً من خفض تمثيله داخل الحكومة الجديدة التي شكلت إثر الأزمة بين البشير والدكتور حسن الترابي، وأبدى إنزعاجاً من تعيين مساعد للرئيس هو الدكتور إبراهيم أحمد عمر من دون الاشارة الى منصب مشار مع أن هذا المنصب جزء من إتفاقه مع الحكومة. وتلقت "الحياة" معلومات تفيد أن مشار كان يرغب أيضاً في دور في إختيار المسؤول عن ملف السلام في الحكومة. ولم يشفع لمشار تأييده لقرارات البشير في الحصول على مكاسب إضافية في الحكومة التي بدا أنها جاءت أكثر إنغلاقاً من سابقتها لجهة زيادة تمثيل "الجبهة الاسلامية القومية" فيها.