أصبحت مسألة علاقة الانسان بالبيئة على درجة قصوى من الخطورة لا يجوز عندها ان يقتصر اهتمامنا بها على المناسبات، وقد عقد مؤتمر الارض العالمي في البرازيل اخيراً. ان علاقة الانسان بالبيئة جزء لا يتجزأ من علاقات الانسان اليومية بنفسه والآخر، فالبيئة ليست شيئاً خارج الحياة والذات الانسانية، وكل تلوث نلحقه بها هو تلوث لنوعية الحياة التي نعيشها. وقد اعتمد الانسان على البيئة طوال وجوده التاريخي منذ زمن لا تعده الارقام، فأصبح السؤال في العصر الحديث هو ما اذا كانت البيئة يمكن ان تعتمد على الانسان، طالما نظرنا للارض كأم. ويبدو الانسان حاضراً يتصرف وكأنما الارض - الام قد تقدمت في العمر وعجزت ولم يعد في حاجة اليها وليس لها من دور تلعبه فيسارع الابن الاكبر المتمثل بالقوى العظمى والدول الصناعية وفي طليعتها الولاياتالمتحدة الاميركية لدفنها قبل موتها. من هذا المنطلق نقول انه اصبح من الضروري ان نعيد النظر بنظرتنا للارض لأسباب عديدة منها ان كل ضرر بالبيئة هو ضرر بالحياة والانسان وبالذات وبمستقبل الاجيال القادمة. وبقدر ما يتقدم الانسان حضارياً بقدر ما يجب ان يحدد علاقته بالبيئة لأنه يزداد معرفة بأسرارها وبالمبادئ التي تسيرها فيمكنه ان يحسّنها كما يمكنه ان يشوّهها ويسيء اليها. بكلام آخر، اصبح الانسان الحديث مجبراً ان يحدد طبيعة علاقته بالبيئة لأنه اصبح في امكانه ان يهدّمها كما في امكانه ان يحولها الى جنة، علينا ان نختار كيف نتعامل مع الطبيعة بما فيها الهواء والانهر والبحار والمخلوقات والارض والفضاء ولا يمكن تأجيل النظر في هذه المسألة. في الواقع اننا امام خيار واحد هو ان نضع حداً لعقلية ومسلكية تلويث البيئة، الذي هو تلويث للحياة نفسها. اقول اننا اصبحنا مواجهين بخيار واحد لأن الانسان الحديث كان وما زال منذ بدء الثورة الصناعية يضع نفسه في موقع العداء في علاقته بالمخلوقات والارض والفضاء. اراد ان يقهر الطبيعة وينتصر عليها ويستغل مواردها وامكاناتها في سعيه لتحقيق اهداف واولويات انانية ومادية تتضارب مع اهداف واولويات الآخر. وتوسع مفهوم الآخر فأصبح يشمل الفرد والعائلة والقبيلة والحي والقرية والطائفة والدين والجنس والعنصر واللغة والثقافة والاقليم والقومية والى ما هنالك من انتماءات وولاءات وعصبيات لا تحصى. تعمق الانفصام بين هذه الجماعات واتسعت الهوة بين الذات والآخر مهما كان مفهومنا ل "الذات" و "الآخر". وتعمقت الانقسامات الاجتماعية والنفسية بسبب طبيعة العلاقات والاهداف والقيم التي ارادها الانسان الحديث لنفسه على حساب الآخر ورغماً عنه. *** بنى الانسان الحديث اي انسان الصناعة الثقيلة والتكنولوجيا المتقدمة علاقاته الانسانية على اسس التنافس بدلاً من التعاون، والاستغلال بدلاً من الغناء المتبادل بالأخذ والعطاء، والهيمنة بدلاً من المساواة في الحقوق والواجبات، والتشديد على هرمية العلاقات من حيث المكانة والصدارة. في كل هذا، سادت بين الناس العلاقات العمودية غير المتساوية في القوة والثراء، فترسخت وتعمقت الفجوات بين الافراد والجماعات والقوميات والديانات والاجناس. وقد سادت هذه العلاقات العمودية على حساب العلاقات الافقية التي تقوم على التساوي والقيمة والاهمية والتقدير المتبادل. وتحكمت بهذه العلاقات قيم نشأت وترسخت مع الثورة الصناعية والاكتشافات الجديدة واتساع دائرة الفرص والامكانات في مرحلة انتقالية اراد فيها الانسان ان يحقق رغباته القديمة والجديدة، المادية والروحية، الرغبات التي يمكن اشباعها وتلك الرغبات التي لا ترتوي والتي يزداد تعلقنا بالمقتنيات المتصلة بها بازدياد امتلاكنا لها واحساسنا بفقرنا اليها بقدر توسع ثرائنا بها ومنها. وقد اراد الانسان الحديث ان يشبع مختلف هذه الرغبات معاً ويحقق المكاسب المادية الاستهلاكية بأسرع وقت ممكن وبأية وسيلة شرعية كانت ام غير شرعية وتسيء للآخر مهما كان هذا الآخر او لا تسيء. وشملت هذه القيم الجديدة، وخصوصاً في ظل النظام الرأسمالي، قيم الفردية والجشع والانجاز المادي والربح الحلال او غير الحلال والقوة والامتلاك والتنافس والطموح الشخصي والاستفادة من الفرص حتى حين تكون على حساب الآخر والعمل المتواصل والشطارة والتعلق برموز المكانة والجاه والاستهلاك والاقتناء التراكمي ودون شبع. طبعاً كانت هذه القيم وما تزال موجودة في مختلف المجتمعات والانظمة، ولكنها ازدادت رسوخاً وأهمية نتيجة للثورة الصناعية والنظام الرأسمالي وما رافقهما من ثقافة استهلاكية فردية ومصلحية. وقد ترسخت هذه القيم على حساب قيم العائلة والجماعة والاكتفاء الذاتي والطموحات الروحية والفكرية والتعاون والعلاقات الشخصية والصداقة وغيرها من القيم التي توجد ايضاً بدرجات متفاوتة في مجتمعات وازمنة مختلفة. ولم تقتصر هذه العلاقات والقيم على المجتمعات ذات النظام الرأسمالي بل تعدتها الى مجتمعات العالم الثاني والثالث بدرجات متفاوتة. هنا يجدر بنا ان نقول ايضاً ان المنظومات الاشتراكية لم تسلم من هذه العلاقات والقيم، خصوصاً على صعيد النخبة والقيادات المسؤولة. وقد كان للبلدان الصناعية الموصوفة بالاشتراكية، كالاتحاد السوفياتي السابق، اسهاماتها في تلوث البيئة لأنها ارادت ان تنافس الدول الصناعية الرأسمالية في مجالات التكنولوجيا النووية وتظهر بمظهر القوة. *** توسعت في الكلام عن هذه العلاقات والقيم لما ارى من علاقة وثيقة بينها وبين اسلوب تعامل الانسان الحديث مع البيئة في الوقت الحاضر. وكي اظهر ان اسلوب ومسلكية التعامل مع البيئة هو صورة او انعكاس لنوعية العلاقات والقيم التي تحدثنا عنها. اريد ان اركز في بقية هذه المقالة على موقف الولاياتالمتحدة من القضايا التي ناقشها مؤتمر قمة الارض في البرازيل. عارضت الادارة الاميركية المؤتمر منذ بداية الدعوة لانعقاده بضغط من المؤسسات الصناعية والاقتصادية الكبرى الاميركية التي ترفض تنفيذ اية توصيات تضطرها ان تضع حداً لتلوث البيئة بحجة عدم وجود معرفة علمية كافية بواقع الحال، وبحجة اقتصادية مفادها ان التقيد بتوصيات دعاة المحافظة على البيئة سيكون مكلفاً مما يحد من قدرتها على التنافس مع المؤسسات المماثلة في اليابان وأوروبا، ومما يؤثر بدوره على معدلات البطالة عن العمل في اميركا. من هنا ان الرئيس جورج بوش عرض المشكلة على انها مشكلة تعارض بين المحافظة على البيئة والتنمية الاقتصادية وتوفير الوظائف للعمال الاميركيين. وبذلك اصر على عدم التعاون مع بقية بلدان العالم والاسرة الانسانية من دون اي احساس بالاحراج مؤكداً انه معني بالمصلحة القومية الاميركية ومسؤول عن الصحة الاقتصادية للعائلة الاميركية وعلى العالم ان يفهم، وان لم يفهم فهذه هي مشكلته وليست مشكلة الادارة الاميركية. هذا مع العلم ان الولاياتالمتحدة تسهم بتلوث البيئة اكثر من اي بلد آخر، ويقال ان اميركا مسؤولة عن 22 في المئة من كميات الكاربون ديوكسايد التي تلوث الهواء. في هذا المجال يتبين ان معدل مصروف الاميركي من الطاقة هو خمسة ونصف طن ميتري للشخص الواحد، اي اكثر من ضعف ما يصرفه الياباني والاوروبي وعشرة اضعاف ما يصرفه الصيني. وتريد الادارة الاميركية من بلدان العالم الثالث ما لا تريده لنفسها، فتضغط على البرازيل وماليزيا مثلاً ان تحد من اقتلاع الاشجار وان تحافظ على غاباتها المطرية باعتبارها رئة الطبيعة في وقت تصدر اميركا قوانين تسهل تدمير غاباتها هي بحجة التنمية الاقتصادية وتأمين الوظائف لعمالها. هذا موقف منافق وغير مسؤول ولا يصدر الا عن قوة غاشمة متعجرفة لا تقيم اي وزن لآراء ومصالح البلدان الاخرى. تريد الادارة الاميركية ان تستمر مصانعها ومؤسساتها الاقتصادية ورجال الاعمال لديها في اغتيال الغابات والانهر والبحار والمحيطات والهواء والفضاء والمخلوقات تحت ستار التنمية وباسم المصلحة القومية من دون مراعاة لمصالح القوميات الاخرى في الاسرى الانسانية. حين تقتضي المصلحة القومية الاميركية ان تتكلم وتعمل باسم الأسرة الانسانية، يحفل الخطاب السياسي الاميركي بمدى حرصها على القانون الدولي وتصنف على اساسه بلدان العالم الى بلدان بربرية وبلدان متحضرة. وكثيراً ما تفرض ارادتها وهيمنتها باسم الاسرة الانسانية. وعندما تقتضي المصلحة الانسانية ان تساهم اميركا في المحافظة على صحة البيئة، وهذه غاية انسانية وعالمية عادلة ومشتركة، نجد ان الادارة الاميركية تتمسك بموافقها السلبية باسم مصلحتها القومية التي هي في الواقع في هذه الحالة مصلحة الشركات ورجال الاعمال وليست من مصلحة الانسان اينما كان. وبهذا نجد ان التقدم التكنولوجي يوظف ضد الانسان وعلى حساب المستقبل لفائدة القلة المأخوذة بالترف وثقافة الاستهلاك. هذه هي الحقيقة، وانطلاقاً من الاحساس بالواقع المرير قال احد المتنافسين على الرئاسة الاميركية ان الاميركيين تحولوا من شعب يضحي لأجياله القادمة الى شعب يريد مهما كان الثمن ان يتمتع بحياته في الوقت الحاضر وليهتم المستقبل بنفسه. *** ويبدو لي شخصياً ان مصلحة الاميركي الفردية والآنية حسب الثقافة الايديولوجية السائدة تأتي قبل اية مصلحة اخرى. لذلك ليس من الغريب ان تضع الادارة الاميركية مصلحتها كممثلة للشركات ورجال الاعمال فوق اية مصلحة اخرى بما فيها مصلحة الشعب الاميركي نفسه ومصالح اجياله القادمة ومصالح الشعوب الاخرى. لم يعد الشعب الاميركي يوفر المال للمستقبل، بل على العكس يستدين من المستقبل على حساب الاجيال القادمة ليتمتع بالحاضر. وفيما يتصرف كذلك بدعم من حكومته التي هي ايضاً تستدين من المستقبل لتغطي مصاريفها الباهظة، تريد من شعوب العالم ان توفر من فقرها وتمارس كل انواع الضغوط على حكومات العالم الثالث كي لا تدعم ضرورات معيشة الفقراء اليومية كالخبز فيما تدعم هي شركاتها الكبرى وتغطي خساراتها من اموال شعبها والشعوب الاخرى. وانطلاقاً من منطق القوة نفسه، تسعى اميركا ان تضع الموارد الطبيعية للشعوب الاخرى تحت سيطرة عالمية في الوقت الذي ترفض هي ان تضع قوانين تحد من جشع شركاتها وعدم اكتراثها بالمصلحة العامة داخل اميركا نفسها. والعالم الثالث بدوره مأخوذ بالثقافة الاستهلاكية الاميركية، فيسود في اواسط طبقاته وجماعاته المرفهة مناخ الثقافة نفسها فيما تعيش غالبية الشعب على الحد الفاصل بين مجرد البقاء والاضمحلال. وفي هذه البلدان ايضاً تأتي التنمية على حساب البيئة والانسان والمستقبل. *** كيف يكون، اذن، مستقبل علاقة الانسان في البيئة؟ هل نتوقع احساساً اعمق بالمسؤولية من قبل الحكومات والشعوب؟ هل نضع حداً للاعتداء اليومي الذي يمارسه الانسان ضد أمه الارض؟ هل يمكن للرئيس جورج بوش ان يهتم حقاً بشأن البيئة في الوقت الذي لا يهتم بشأن الانسان الاميركي الذي يعيش بلا مأوى وينام في الشارع قرب البيت الابيض؟ أخاف انه ليس بإمكاننا ان نقدم اجوبة اكيدة على هذه الاسئلة الخطيرة. ويعود هذا التخوف الذي يقودنا الى التشاؤم في هذا المجال الى الفرضية الاساسية في هذه المقالة بأن نوعية التعامل السائدة مع البيئة هي صورة لنوعية العلاقات الاجتماعية والقيم القائمة في المجتمعات الغربية الصناعية وتنتشر منها الى مجتمعات العالم الاخرى. اخاف ان يكون قتل الارض والانهر والغابات والهواء والبحار والمخلوقات بما فيها الانسان عملية مستمرة على رغم الصورة القاتمة التي بدأت تنفذ الى وعينا المنشغل بانشغالاته الخاصة. * عالم اجتماعي وروائي، استاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.