قبل أن أتصدى للإجابة على هذا السؤال، أود أن أنبه إلى أننا إذا ألقينا نظرة شاملة على مجرى أحداث القرن العشرين، لهالنا أن نكتشف أنه ما من زعيم سياسي، أو صانع قرار، أو رجل دولة، أو مفكر واحد ظهر في ذلك القرن، استطاع أن يتنبأ بما ستؤول الأوضاع إليه في نهايته، سواء لينين بإيمانه بأن الشيوعية ستقتلع سائر الأنظمة السياسية الأخرى، أو هتلر الذي أكد أن الرايخ الثالث أتى ليبقى ألف عام، أو جمال عبد الناصر الذي خال أن الوحدة العربية باتت قاب قوسين أو أدنى أو تشي غيفارا الذي راهن على انتصار حركات النضال الشعبية، أو حتى فرانسيس فوكوياما الذي قام في العام 1992 ليعلن نهاية التاريخ. كل الذي أثبته هذا التاريخ، هو أنه مجرد سجل لحماقات البشر، فهو بالتالي لا يصلح للاستناد إليه حتى نتنبأ بما سيجيء. كانت رؤية تركفيل في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أقرب الرؤى جميعاً إلى الصحة حين تنبأ في كتابه"الديموقراطية في أميركا"بأن المستقبل في القرن العشرين سيكون لدولتين عظميين هما روسياوالولاياتالمتحدة. غير أننا إذ نتأمل الوضع في العقد الأخير من ذلك القرن العشرين، نجد أن الدولة الروسية تضاءلت إلى حجمها في منتصف القرن السابع عشر، وفقدت كل وزن لها اكتسبته منذ زمن بطرس الأكبر. وأما الصين، فلا يزال دورها في الساحة الدولية هامشياً إلى حد كبير. وأما بريطانيا - وبخاصة منذ أحداث أيلول سبتمبر 2001 - فصارت ذنباً للولايات المتحدة تحركه في أي اتجاه شاءت. وأما فرنسا، فهي على رغم كل محاولاتها لإثبات استقلال قراراتها، لا يعدو وزنها أن يكون وزنا إقليمياً، على رغم امتلاكها للسلاح النووي. وأما ألمانيا واليابان فهما بكل تأكيد عملاقان في المجال الاقتصادي، غير أنهما لا تريان حاجة إلى دعم قوتهما الاقتصادية الهائلة بقوة عسكرية، حتى بعد أن رفعت عنهما قيود التسلح التي فرضت عليهما عقب هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. وأخيراً، فإن الاتحاد الأوروبي الذي ظن الناس أن انتهاج أعضائه لسياسة واحدة من شأنه أن يدفعه بقوة إلى الأمام في المعترك الدولي، يبدو عاجزاً حتى الآن عن جمع الدول الأعضاء فيه على كلمة واحدة في مجال السياسية، على رغم ما حققه، ولا يزال في سبيل تحقيقه، من إنجازات في مجال الاقتصاد. لم يبق إذاً من كبريات الدول المؤهلة لفرض هيمنتها على مقدرات العالم سوى الولاياتالمتحدة، ولا غيرها الجديرة حتى بصفة الدولة العظمى. غير أنها تكون مخطئة خطأ فادحاً إن اطمأنت إلى استمرارها أمداً طويلاً في موقعها هذا، أو إلى أن لديها - بسبب ما تتمتع به اليوم من قوة عسكرية واقتصادية - من الحصانة ما يحول من دون أن يتسرب إليها ما تسرب إلى غيرها من الدول العظمى السابقة من آفات. فأما السبب الرئيس في خطأ الاطمئنان إلى المستقبل، فهو أن التاريخ يأبى السير في طريق مستقيم، فدروبه دوماً متعرجة، لا يمكن التنبؤ باتجاهاتها، وما المستقبل إلا حصيلة آلاف الظروف، بعضها جوهري أساسي، وبعضها عفوي عارض، إضافة إلى الإرادة الإنسانية التي قد تؤثر في تكييفه، من دون أن تكون المؤثر الوحيد. والتاريخ لا يكرر نفسه أبداً، وإنما هو يطرق آلاف الأبواب في آن، ويتردد أمام آلاف الاحتمالات. وما من أحد في وسعه أن يحدد في ثقة أي باب سيدلف منه، وما يضايق القائلين بإمكان التنبؤ بالمستقبل، فهو أنه ما من لعبة يلعبها التاريخ إلى النهاية. هو دائماً يتنقل من لعبة إلى لعبة، ويأبى استمرار أي وضع. وهذا التعرج والتحول هما سبيلا الطبيعة إلى تجديد ذاتها، والإبقاء على شبابها. ولو أن الإنسانية مضت قدماً في خط مستقيم لما كان هذا بتاريخ، وإنما هو منطق، ففي التاريخ يندر أن نجد ما هو محدد سلفا... معظم ما فيه حر، ومعظم ما فيه ارتجالي. ... كيف يكون في وسع أحد إذاً أن يجيب في ثقة على التساؤل عما إذا كان مصير الدولة إلى زوال؟ هي إجابة تتصل بعامل الإرادة الإنسانية التي قلنا إنها أحد العديد من العوامل المؤثرة في تكييف المستقبل، والتي قد تؤدي إلى زوال الدولة نتيجة تحركها في أحد اتجاهين متناقضين: الاتجاه الأول: يتمثل في نمو الادعاء لدي نوعية معينة من الناس بأن ثمة معايير تفوق في أهميتها وأولويتها معايير الدولة والقومية والمواطنة، ألا وهي المعايير التي يعكسها ضمير الفرد، وتعاليم الأديان. وكان سقراط في الماضي هو المثل الكلاسيكي للفرد الذي يفضل الموت على أن يعصي ما يوحي به إليه ضميره، على أساس أن ثمة قانوناً أسمى من قوانين الدولة ودساتيرها. كذلك كتب الإمبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس يقول إنه على أتم استعداد لتكريس ولائه غير المنقوص للجماعة السياسية التي ينتمي إليها، شريطة أن تشمل تلك الجماعة كل البشر، لا الرومان وحدهم. وحين سادت المسيحية بعد ذلك أرجاء الدولة الرومانسية، ذهب فقهاؤها إلى أن الانتماء إلى مدينة الله De civitate Dei يجُب المواطنة في أي جماعة دنيوية. وعلى رغم أنهم لم ينكروا ضرورة إطاعة أوامر الدولة والالتزام بواجبات المواطنة، فإنهم أكدوا أنه حين يجد المسيحي التقي تناقضاً بين ما يقضي به قانون الدولة وبين ما يقضي به القانون الإلهي، فلا خيار أمامه إلا الانصياع للقانون الإلهي. أو كما ذكر توما الاكويني صراحة:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وهي عبارة استقاها من مقولة إسلامية. وعرفت جماعات من المسلمين منذ بداية الدولة الإسلامية - وبخاصة الخوارج - هذا الاتجاه المعادي للدولة متى قضت عقيدتهم الدينية بأنها آثمة لا إسلامية، ولا تحكم بما أمر الله. وأدى ذلك إلى إثارة الفتن الخطيرة والانقسامات والحروب الأهلية داخل الدولة، حتى اتخذ خلفاء وفقهاء، الدولة الأموية، فالدولة العباسية، فسائر الأنظمة الحاكمة بعدهما، موقفا حاسماً صارما من ذلك التيار المدمر، متمسكين بما سموه المصالح العليا للامة، ومروجين لأحاديث نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم مثل:"من أطاع أميراً فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني"، و"سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، و"أطيعوا ولي الأمر منكم، براً كان أو فاجراً"... إلى آخره. وظل هذا هو المبدأ المستقر والمقبول لدى جمهور المسلمين، والمعمول به في معظم حقب التاريخ الإسلامي مع استثناءات بارزة قضي عليها بالفشل بعد حين، من اشهرها حركة القرامطة. ودعوة ابن تيمية حتى ظهرت في القرن العشرين جماعة"الإخوان المسلمين"وما تبعها من جماعات إسلامية متشددة، وقادة ثوريون من أمثال الخميني، يصمون أنظمة الحكم التي يعادونها بالجاهلية، ويسخرون من فكرة الوطنية، ومبادئ القومية، ويطالبون اتباعهم بالولاء لتعاليم الدين ودار الإسلام لا لقوانين ودساتير من صنع البشر، ولا لأقطار ودول معينة رسمت حدودها إرادات بشرية، ويعلنونها صراحة أنه لا حكم إلا لله، ولا مواطنة تتجاوز أو تقصر عن دار الإسلام، ولا حق لغالبية وإن هي جاوزت 99 في المئة من أفراد الأمة في أن تغير أو تعطل نصاً للمشرع الإلهي، حتى إن ارتأت هذه الغالبية ضرورة لمواكبة حاجات العصر ومواجهة تحدياته. وبتنا في مصر مثلاً، نشهد أناساً يفخرون بهجر انتمائهم لوطنهم، هم على أتم استعداد لإطاعة أمير جماعة إسلامية غير مصري كأسامة بن لادن في مسعاه لهدم استقرار مصر واقتصادها، بقتل السياح فيها، وإرهاب الاستثمارات الأجنبية الوافدة إليها. ولا شك في أن هذا التيار مع نموه وتزايد قوته فت في عضد مفهوم الدولة ومفهوم الوطن والمواطنة لدى المتشددين من اتباع كل الأديان، وزلزل من المعنى الذي أرسى الإغريق دعامته، ثم تعهدته المبادئ الديموقراطية والليبرالية في أوروبا حتى قرننا هذا. يقول بعضنا إن هذا التأثير المعادي لفكرة الدولة والمناهض لمفهوم الوطن والمواطنة عند المتدينين المتشددين، يرتبط وجوداً وعدماً بمدى قوة حركاتهم وقدرتها على توجيه مجريات الأمور في الأقطار التي تمارس نشاطها فيها. ويعتقد هؤلاء أن الغالب أن تندثر هذه الحركات أو تضعف، كما اندثرت حركة الخوارج نتيجة لمواجهتها حاجات الدولة العصرية ولحتمية التاريخ. ومع ذلك، فلا مفر من الاعتراف بأن ثمة تياراً متنامياً آخر - هو التيار الداعي إلى العولمة وإلى نظام عالمي جديد - يتنافى أيضاً مع مقتضيات الدولة ومفهوم المواطنة. ويرى الكثيرون فيه تطوراً لازماً هو أشبه ما يكون بالظواهر الطبيعية التي لا سبيل إلى الوقوف في وجهها. فأما حتمية العولمة فنتيجة للتطور التكنولوجي والاقتصادي، قادنا إليها دخولنا عصر ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، والدور الذي باتت تلعبه الأقمار الاصطناعية وشبكة الإنترنت، وما أدى إليه تحرير التجارة الداخلية والخارجية، وتنقل رؤوس الأموال من تضخم علاقات التشابك التجاري والنقدي بين مختلف الدول التي أصبحت - أو هي في طريقها إلى أن تصبح - سوقاً واحدة تأخذ بمبدأ تقسيم العمل الدولي، وقرية كونية متجانسة لا مفر من أن تنصهر فيها الاقتصادات الوطنية والإقليمية، فتتحول إلى اقتصاد عالمي شمولي موحد، لا يسمح بتدخل الدول لحماية مصالحها الإقليمية، أو تدخل الحكومات المحلية لحماية الشرائح العريضة من مواطنيها. وإذ تضعف السلطة الاقتصادية للدولة، تضعف سلطتها السياسية، وينكمش مدلول الدولة والمواطنة والانتماء القومي ليحل مكانه مفهوم أوسع مدى، أو ليندثر إلى الأبد. وأما القائلون بحتمية قيام نظام عالمي جديد تنهض بأعبائه سلطة عالمية واحدة، فيذهبون إلى أن عالم اليوم اصبح صغيرا إلى درجة لم يعهدها من قبل، وبات يواجه ظروفاً جديدة تجعل من التغيير أمراً ضرورياً، يقتضي - بين ما يقتضيه - تنازل الدول عن سيادتها الإقليمية أو عن شطر كبير منها وتخلي الشعوب عن مفاهيمها العتيقة عن المواطنة والوطنية. اكتسب الإنسان خلال الأعوام المئة الأخيرة سيطرة على قوى الطبيعية تفوق تلك التي كان ينسبها القدماء إلى بعض آلهتهم، فصاعقة جوبيتر فاقتها القنبلة النووية وهرمس رسول الآلة بكعبي قدميه المجنحين كان بطيئاً إذا قورن باللاسلكي، وهايغيا ربة الصحة لم يكن بمقدورها تخليص البلاد من أمراض كالملاريا، وهو ما يستطيعه الطب الحديث في بضعة اشهر ولم ينسب أحد إلى سريس ربة الزراعة القدرة على تحويل صحراء قاحلة إلى ارض خصبة تنتج محاصيل وفيرة من القمح، على نحو ما هو باستطاعتنا اليوم. هذه القدرات الجديدة للإنسان تعمل على إحداث تغيرات عظيمة سريعة في المجتمع الإنساني، فالاتصال بالإنترنت والطائرة جعل الأرض كلها، من حيث الاتصال والنقل، اصغر مما كانت عليه إنكلترا في مطلع القرن التاسع عشر. والعالم الآن هو من الصغر بحيث ينتج عن الحدث الجلل في أي دولة، رد فعل فوري في كل عاصمة. فإن نشبت حرب، فالحرب عالمية. وإن حلت أزمة اقتصادية خطيرة في بلد ما، أضحت الأزمة عالمية. والظروف الطبيعة للدولة العالمية التي اعتاد الفلاسفة الكتابة عنها في الماضي باعتبارها مثلاً أعلى قد يمكن تحقيقه في المستقبل البعيد جداً، فرضت الآن علينا فرضاً وعلى نحو مفاجئ. وتضاؤل العالم على هذا النحو، وغيره من التغيرات التي أحدثها تقدم في العالم لم يسبق له مثيل، حطم البنيان السياسي الذي عرفه القرنان التاسع عشر والعشرون. وغدا من المستحيل أن تعاد إقامة هذا البنيان على النمط القديم. فحاولنا ذلك عقب الحرب العالمية الأولى، ثم عقب الحرب العالمية الثانية، فتمايل البناء الأول ثم انهار، ثم هاهو البناء الثاني بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 يتهدده السقوط. فالمجتمع البشري بحاله الراهنة من التحول السريع هو أشبه بالحشرة في طور التكوين، فقد تتحول الدودة إلى فراشة، أو قد تموت، غير أنه لن يمكنها أن تعود دودة من جديد. والعالم الذي عليه اليوم أن يجابه مشاكل الإرهاب والأسلحة النووية والطاقة والقوى البيولوجية الحديثة التي لا تقل عن الطاقة النووية قوة، ومشاكل الأمن والغذاء العالمي وتلوث البيئة والانفجار السكاني والسيادة القومية، عالم شديد الاختلاف عن عالم الأمس. والبديل الوحيد لانهيار المدنية هو إعادة تنظيم الأوضاع إعادة شاملة تتفق مع نظام عالمي جديد يقوم على أنقاض الدولة القديمة، ويوجه القوى الجديدة صوب غايات نافعة، ويراعي الصالح المشترك وهو استمرار بقاء المدنية على حساب المصالح القومية ضيقة الأفق، ويحول قوى العلم الحديث تدريجياً من إنتاج أسلحة الدمار الشامل إلى خلق الثروة والقضاء على الفقر والجوع والمرض، وعلى القلق الاجتماعي الناجم عن هذه الشرور الذي يشكل السبب الرئيس للحروب. باتت الآن إدارة العالم كله باعتباره وحدة واحدة أيسر من إدارة دولة كبيرة واحدة قبل قرن مضي، بل ومن إدارة مدينة واحدة في حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. فالصعوبة إذن ليست صعوبة تنظيمية، وإنما في تهيئة الشعوب للتخلي عن عادات ومفاهيم راسخة لديها، كالتعلق بالمفهوم القديم للدولة، وبالسيادة الوطنية، والمشاعر القومية. كذلك، لم يعد ثمة مفر من أن ينصهر عدد هائل من مختلف الاقتصاديات الوطنية والإقليمية في اقتصاد عالمي شمولي موحد، يشهد نمواً مطرداً في التجارة العالمية يُفيد منه الجميع، ويؤدي بالضرورة إلى إضعاف السلطة الاقتصادية للدولة بحيث يغدو من المستحيل العودة إلى عصر ما قبل العولمة. عندئذ يتحقق ما يسمى"الدارونية الاجتماعية"في مجال الاقتصاد العالمي، فلا يكتب البقاء إلا للأصلح، ولا يكون ثمة مكان فيه للخاملين أو العاجزين عن المدافعة، ولا ينجو من الطوفان غير أولئك القادرين على مواجهة عواصف المنافسة الهوجاء. عندئذ لن يكون ثمة مفر من اختفاء بعض المصطلحات الشائعة اليوم، مثل التحرر والتقدم وحوار الشمال والجنوب والتنمية الاقتصادية والتوزيع العادل للدخل والثروة القومية ومسؤولية العالم المتقدم عن المساهمة في إيجاد الحلول لمشكلات الدول النامية. ليس هذا فحسب، بل وسيتفاقم التعارض بين الديموقراطية السياسية ذاتها وآليات السوق، فالديموقراطية التي لا يزال كثيرون يتحدثون عن ضرورتها، لن يتعدى دورها حماية مصالح الأثرياء والمتفوقين في المجال الاقتصادي. وحق رجال الأعمال والرأسماليين في تخفيض الأجور وزيادة ساعات العمل، ودعوتهم الحكومات إلى خفض مساعداتها ومنحها وخدماتها الاجتماعية بحجة"تهيئة الشعوب لمواجهة سوق المنافسة الدولية. سيتزايد عجز حكومات الدول عن اتخاذ زمام المبادرة من اجل إجراء الإصلاحات الضرورية، كإصلاح النظام الضريبي، وتطوير نظم التأمينات الاجتماعية ورفع مستوى التعليم والتوسع فيه والدفاع عن الثقافة القومية ضد حضارة"التنميط"التي تسعى العولمة إلى فرضها، والمحافظة على البيئة في عالم تهدده عوادم السيارات المتكاثرة بكارثة محققة، ويتسبب فيه ارتفاع الحرارة الناجم عن قلة اكتراث الصناعيين بالبيئة في عواصف وفيضانات بات ينجم عنها في العام الواحد مئة وعشرون كارثة طبيعية، وفي ارتفاع في مستوى سطح البحر، يهدد وجود مدن مثل بومباي ونيو أورليانز وهيوستون وبانجكوك واسطنبول ونيويورك وشنغهاي وهونغ كونغ ووجود دلتا النيل، ويُضحى فيه بالمزيد فالمزيد من الأراضي الزراعية الخصبة في سبيل إقامة مزيد من المصانع وشق الشوارع، وتشييد أحياء سكنية جديدة. ستفرض العولمة على حكومات الدول الإحجام عن التدخل في النشاط الاقتصادي الدائر فيها، وقصر دورها على حراسة المصالح المالية وحماية النظام، أما واجب مراعاة البعد الاجتماعي والاهتمام بسد حاجات الطبقات الدنيا وضمان اشتراك الناس في رسم السياسات الاقتصادية، فأمور هي في مفهوم المستفيدين من العولمة عبء غير مقبول. فإن حاولت حكومات الدول المقاومة ورفض الاستجابة لمطالب العولمة ومقتضياتها، فستجد نفسها عرضة للابتزاز والضغوط التي تمارسها المؤسسات المالية الدولية، وهُددت برفض طلبها الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو غيرهما، وبسحب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية من بلادها، علماً بأن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى تحتفظ بالكلمة النافذة في مجلس إدارة صندوق النقد وفي مجلس محافظيه، وترى في هذا الصندوق الوسيلة المثلى لتنفيذ مخططاتها، وفرض إرادتها على سائر دول العالم. فما من حال قرر فيها المهيمنون على سياسة الصندوق تقديم القروض، إلا ربطوها بشرط أن تقوم الدولة المقترضة بإطلاق سعر صرف عملتها، والانفتاح على سوق المال العالمية، وتخفيض الضرائب على الثروة والاستثمارات، وخصخصة كل المشروعات العامة والخدمات المالية، والحد من الإنفاق الحكومي على الرعاية الاجتماعية، ومنح الشركات متعددة الجنسية تنازلات سخية، وتوفير مشروعات البنية التحتية مجاناً، وإلغاء التشريعات التي تحفظ بعض مكاسب الطبقة العاملة والطبقة الوسطى، مثل قوانين الحد الأدنى للأجور، ومشروعات الضمان الاجتماعي والصحي، وإعانات البطالة وتحويل الكثير من الخدمات العامة التي كانت الدولة تضطلع بها إلى القطاع الخاص الذي لا يعبأ بغير تحقيق الربح، مع إضفاء الطابع التجاري على تلك الخدمات. كذلك، نجم عن تحرير الأسواق المالية والنقدية أن الشؤون النقدية لم تعد خاضعة للسلطة المحلية، فعمليات دخول وخروج الأموال بالبلايين تتم بسرعة البرق على شاشات الكمبيوتر، بحيث لم تعد السلطة النقدية المحلية قادرة على حماية أسعار الصرف وأسعار الفائدة وأسعار الأوراق المالية في البورصات. وبالتالي تحولت الدولة، أي دولة، إلى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين المتاجرين بالعملات والأوراق المالية القادرين على التحكم في رخاء أو فقر دول برمتها، وتخفيض قيمة العملة في هذا البلد أو ذاك، ورفع أسعار الأوراق المالية أو خفضها في هذه البورصة أو تلك. ... هكذا إذن ستتآكل بمرور الأيام هيبة الدولة وسلطاتها ومتطلبات وجودها، وكذا قدرتها على إحداث التغيرات واتباع السياسات التي يتوقعها شعبها. وهنا يقفز إلى الأذهان ما قاله روبرت كابلان الخبير الأميركي في شؤون العالم الثالث عن أنه"في المناطق الأكثر فقراً من العالم، سيكون الإسلام اكثر جاذبية في أعين أهاليها، بفضل تأييده المطلق للمقهورين والمظلومين. فهذا الدين المطرد الانتشار على المستوى العالمي هو الديانة الوحيدة التي هي على استعداد للكفاح والمنازلة". إن تحققت توقعات كابلان هذه، فسيعود الناس في منطقتنا إلى الحديث عن معايير تفوق في أهميتها وأولويتها معايير الدولة، والى التصريح بأنه"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وهو اتجاه قلنا في بداية حديثنا انه معاد للدولة، متى قضت العقيدة الدينية بأن اتجاهها آثم، ولا تحكم بما أمر الله... ومصير الدولة - في أي من الحالين - هو إلى زوال. كاتب مصري.