للنخبة الاعلامية والفكرية تأثير كبير على صنع القرار في المجتمعات الديموقراطية من خلال تأثيرها على الجمهور الذي يؤثر بدوره في صناع القرار. أما في الفضاء العربي الاسلامي فوزن تلك النخبة هو وزن الريشة، لغياب التداول الديموقراطي على الحكم وغياب الرأي العام بما هو مجتمع مدني مستقل عن الدولة ومؤطر ديموقراطياً واعلامياً. رأيُنا العام ما يزال قيد المخاض، مجرد "شارع" تتراوح ردود أفعاله بين الاحتجاج الهائج والهمود الاكتئابي. سواد المثقفين، خصوصاً الإعلاميين، يلعبون دوراً ملحوظاً في صياغة مزاجه على نحو سالب. كيف؟ فصامية القطاع العريض منهم جعلتهم يهربون من واقعهم المؤلم الى واقع تخييلي يعوّضون به ما افتقروا اليه في واقعهم المعيش من أسباب القوة. تتجلى هذه الحالة المأسوية في عَرَضين: العناد العصابي "ماعز ولو طار" و"وطني دائماً على حق"، والرد بسلبية سقيمة تعريفاً على كل ما يتوقعه العالم منهم، على غرار ذلك المريض النفسي الذي يطالب وبإلحاح بكأس ماء حتى اذا ما قُدّم اليه رماه أرضاً ثم أعاد الكرة. الصورة السائدة للسلبية والعناد هي الرفض باسم الدين أو باسم القومية أو الايديولوجيا لما هو معروض دونما تقديم مقترحات مضادة أو حلول بديلة للتعامل العملي مع القضايا المطروحة على جدول الاعمال، بمعايير النجاعة في تحقيق الأهداف المشروعة. من هذا المنظور سأعالج اشكالية التدخل الخارجي التي تطرح نفسها على العالم وعلينا بحدة سواء في فلسطين أو العراق أو السودان أو المغرب... منذ مطلع الحداثة كانت الأسباب الموجبة للتدخل الخارجي، الذي غلب عليه شكل الحرب، قومية. مع نهاية الحرب الباردة جدّ جديد ما زال الوعي السياسي، المؤثث بردود الفعل التلقائية، الدينية أو القومية، لم يهضمه بعد، هو تقاطع المصلحة القومية مع المصلحة الكونية في التدخل الخارجي. عموماً المصلحة القومية عمياء وحصرية ومعادية للاجنبي، لكنها عندما تتقاطع في قاسم مشترك مع مصالح عدة بلدان أو جميع البلدان بما فيها مصلحة البلد المستهدف بالتدخل، التي استهتر بها حكمه الفردي، تكف عن التعارض مع مصلحة البشرية، خاصة في عصر العولمة الذي تدامجت فيه مصالح الاقتصاديات القومية في اقتصاد عالمي ولم تعد السيادة الحصرية ملائمة لمعالجة المشاكل التي تأخذ بخناق البشرية. وهكذا تشابكت مصالح جميع الامم سواء في ما خص الاستقرار الاقليمي والدولي أو سلامة البيئة أو احترام حقوق الانسان والاقليات والتداول الديموقراطي... الى درجة ان كل مصلحة قومية مفهومة فهماً صحيحاً أصبحت منذ الآن مصلحة اقليمية أو دولية بدرجة أو بأخرى، بإمكان أية أمة ان تتعرف على نفسها فيها ما لم تعصف الهستيريا الجماعية بتوازنها النفسي وذكائها الجمعي وحُسن تدبيرها. فما هو مفيد للأمم الأخرى ليس بالضرورة مؤذياً للذات. لو تدخلت الولاياتالمتحدة سنة 2000 لفرض مقترحات كلينتون على عرفات، الذي رفضها على رغم نصيحة جل مستشاريه له بقبولها، لوفر ذلك على الفلسطينيين التدمير الهائل للممتلكات والمعنويات، ولكان تدخلها مشروعاً تتقاطع فيه مصلحتها في استقرار الشرق الأوسط مع مصلحة شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، المتضرر الأول من رفض حاكمه المنفرد بالقرار لإنهاء النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني للتفرغ الى مهام التنمية المستديمة. طبعاً كان مثقفو واعلاميو حزب البكاء والاستبكاء الجماهيري سيقيمون "حسنيات" وحداداً اكتئابياً لا نهاية له على البطل عرفات الذي سقط شهيداً في ساحة الصمود والتصدي للاملاءات الامبريالية - الصهيونية التي اعادت للفلسطينيين 97 في المئة من الضفة الغربية وكل غزة فقط لا غير! لكن الأيام نصبت لهم فخاً، بعد عشرين شهراً ضائعة من حياة الشعب الفلسطيني وشعوب الشرق الأوسط، ها هو عرفات من لحم ودم يقرأ فعل الندامة علناً على رفض "الإملاءات" اياها التي هجاها المثقفون والاعلاميون نثراً ونظماً، ويتوسّل الى بوش ليعرضها عليه مجدداً. لكن بوش قال للرئيس المصري: كلينتون كان كريماً معهم ولن أعطيهم ابداً ما اعطاهم. قد لا تصدق الاجيال المقبلة ان هذا قد وقع حقاً لأن الحقيقة في الفضاء العربي الاسلامي السوريالي أغرب من الخيال. منذ انهيار الانضباط الدولي مع انهيار الكتلة الشرقية، غدا التدخل الخارجي في الشأن السيادي ممارسة متواترة تعيد، ظاهرياً، للذاكرة سياسة البوارج الحربية في الحقبة الاستعمارية. الموقف المبدئي الشعائري، أي المتخاصم مع الواقع، منها هو الادانة الافلاطونية أو المقاومة الانتحارية. وهما موقفان عقيمان يُصنَّفان في ما تحت السياسة. اما الموقف السياسي من التدخل الخارجي فلا يمكنه الا ان يكون واقعياً، اي يعترف بالواقع الموضوعي الذي لا تنفع معه المكابرة، وعقلانياً أي يحسب حساب الربح والخسارة المتوقعين من هذا التدخل، وبناء على ذلك يحكم له أو عليه. وهو ما يعني الانتقال من احكام القيمة التي لا قيمة لها الى احكام الواقع، وفحص كل حالة من حالات التدخل في سياقاتها السياسية الخاصة بحثاً عن مشروعيتها السياسية التي ليست شيئاً آخر غير تقاطع المصالح في قاسم مشترك انساني. فما هو هذا القاسم المشترك وما هي السلطة الشرعية المخوّلة تعريفه؟ القاسم المشترك المبرر للتدخل الخارجي هو منع الإبادة الجماعية، الحفاظ على الاستقرار الاقليمي والدولي، طرد الاحتلال والاستيطان، فرض التسويات السلمية، محاربة الارهاب، منع انتشار اسلحة الدمار الشامل، وضع حد للانتهاك الفظ للمبادئ الديموقراطية وقيم حقوق الانسان في معاملة الحكومات لمواطنيها واقلياتها، وأخيراً انهاء النزاعات المزمنة التي تهدد حقوق الانسان أو الاستقرار الاقليمي أو الدولي. فما هي السلطة المؤهلة لتعريف المصلحة المشتركة المبررة للتدخل الخارجي؟ المجتمع الدولي، الرأي العام العالمي الذي يعكسه الإعلام العالمي، هيئات المجتمع المدني العالمي خصوصاً الانسانية، أو دولة أو تحالف دول اذا لم يُذبْهما المجتمع الدولي، أو الرأي العام العالمي. شهد عقد التسعينات أمثلة عدة للتدخل المشروع مثل تدخل الولاياتالمتحدة بتفويض من مجلس الأمن لتنصيب رئيس هايتي المنتخب على رغم أنف الجيش الذي انقلب عليه، والتدخل في البوسنة والهرسك وكوسوفو لوضع حد لمذابح المسلمين على يدي الديكتاتورية الصربية. أما أشهرها جميعاً فهو التدخل الدولي لخوض حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي. كانت للولايات المتحدة وبريطانيا سنان الرمح في التعبئة لهذا التدخل. مصلحتهما القومية المباشرة منه: الحفاظ على استقرار النفط استخراجاً ونقلاً واسعاراً وقطع الطريق على فوضى دولية دامية. المصلحة الأولى تقاطعت مع مصالح معظم البلدان المنتجة والمستهلكة للنفط. اما المصلحة الثانية فمشتركة مع مصلحة انسانية بجميع المقاييس هي قطع الطريق على تسيّب جميع الاعراف والقيم الدولية ويقضي قضاء مبرماً على الانضباط والقانون والدوليين لصالح قانون الغاب الهوبزي حيث يغدو بإمكان أية دولة التفكير في حل أزماتها على حساب جارها الاضعف من دون أدنى اعتبار سياسي أو اخلاقي. هذا الاتجاه المبيت الى التسيب ما زال كامناً واحياناً فاعلاً في الساحة الدولية. أفضل وصفة لإطلاقه من عقاله هو احياء التضامنات العتيقة، الاثنية والدينية، كما يطالب بذلك سواد مثقفينا واعلاميينا وشارعنا العربي على حساب التضامن المفكّر فيه، اي في مرجعياته القيمية ورهاناته السياسية على الشعب المعني مباشرة وعلى شعوب الاقليم أو العالم. مبدأ التضامن الانساني يتعامل مع واقعة التدخل الخارجي من زاوية اتفاقه أو اختلافه مع الالتزامات السياسية والانسانية التي تجعل من كل مواطن من مواطني الكوكب مسؤولاً عن حاضر ومستقبل الانسانية وتجعل ما كان "خيراً"، أي قيمة اخلاقية، حقاً معروفاً ومعترفاً به للحيلولة دون سقوط البشرية مجدداً في البربرية. هذا التضامن العقلاني شرط شارط لتحسين الشرط الانساني وهو لبّ فلسفة القيم التي تتقدم اليها الانسانية ببطء شديد للأسف، للاحتكام اليها في حل المشاكل والنزاعات. واقع ان جميع الامم والجماعات تشابكت مصالحها ومصائرها وتعمقت تبعيتها المتبادلة، يتطلب اقامة عقد اجتماعي عالمي يعطي، في علاقات الدولة بمواطنيها واقلياتها وبالدول الأخرى، الأولوية المطلقة لاحترام قواعد القانون الدولي وقيم حقوق الانسان والمبادئ الديموقراطية على السيادة القومية عندما تُستَخدم كغطاء لانتهاك الحقوق الانسانية أو ارتكاب جرائم الحرب أو الجرائم ضد الانسانية أو نسف الاستقرار الاقليمي والدولي. السلاح الذي استخدم، سواء في صربيا ميلوشيفيتش أو افغانستان الملا عمر وبن لادن، أم للتصدي للتدخل الخارجي كان النداء المسعور للتضامنات القطرية، القومية والدينية المنغلقة على نفسها والمثيرة للهذيان الجماعي. القاعدة الذهبية لهذه العصبية في أضيق تعريفاتها واشدها قدامة وفتكاً: "أنا وأخي على ابن عمي، وانا وابن عمي على الغريب". في هذه الدرجة صفر السياسية والاخلاقية يتوارى نهائياً الاشتراك في المصالح والقيم لحساب الاشتراك في الدم والمعتقد كمبدأ مطلق يبرر ذاته بذاته، لتأجيج حرب الجميع ضد الجميع في عالم متحرر من الضوابط التي ينتفي الاجتماع البشري من دونها.