تفاصيل التحقيق في تفجير مبنى السفارة الاسرائيلية في بوينس ايريس بعد ظهر يوم الثلاثاء في 17 آذار مارس الجاري، ليست مهمة بالنسبة الى الخلاصة السياسية التي تريدها حكومة اسحق شامير. وكذلك ليست مهمة معرفة الجهة الفاعلة او كيفية تنفيذ الهجوم. فبعد دقائق من الانفجار، وحتى قبل البدء باخلاء المصابين وتحديد طبيعة الاسباب التي ادت الى تدمير المبنى، علّق شامير بقوله: "لقد ضرب العرب مرة اخرى"، وأوضح وزير دفاعه موشيه ارينز بالاعلان من واشنطن ان التفجير جاء "في اطار الحملة الارهابية على اسرائيل". هكذا حددت الحكومة الاسرائيلية طبيعة المرحلة السياسية الراهنة بأنها مرحلة يقوم فيها العرب بشن "حملة ارهابية على اسرائيل"، على نحو يستعاد معه ذلك المناخ الملتهب الذي ساد في السبعينات ومطلع الثمانينات. اما الرد الاسرائيلي على ذلك، فقال عنه وزير الخارجية دايفيد ليفي بأنه سيكون "عقاباً اليما"، معلناً "سنقرر المكان والاسلوب المناسبين للانتقام لمن أريقت دماؤهم". ويوجه الامين العام للخارجية الاسرائيلية يوسف هداس الاتهام بپ"الارهاب" الى "التعاون السوري - الايراني". هذه هي اللوحة السياسية التي ترغب اسرائيل في ابرازها من اجل ان تبرر سلفا اي خطوة تقدم عليها حكومة شامير لانجاز مجموعة من الاهداف السياسية غير القادرة على تنفيذها في ظل مناخ المفاوضات السلمية مع العرب. ومن المتوقع ان يلجأ شامير الى القيام بعمل عسكري كبير تكون له ضجة اعلامية واسعة، بهدف ادخال تعديلات على المعطيات داخل اسرائيل وفي المنطقة وفي العلاقات الاسرائيلية - الاميركية. تكتل "الليكود" الذي يتزعمه شامير يواجه في حزيران يونيو المقبل انتخابات اشتراعية، ليست مضمونة النتائج بالنسبة اليه. لا بل، ان استطلاعات الرأي ترجح فوز حزب العمل بزعامة اسحق رابين بأكثرية تتيح له تشكيل الحكومة المقبلة، مع ما يعنيه ذلك من ادخال تغييرات على المواقف الاسرائيلية من قضية الاراضي المحتلة والحكم الذاتي الفلسطيني. وهي تغييرات يعتبرها الليكود بأنها ستؤدي الى قيام "دولة فلسطينية" تهدد الوجود الاسرائيلي. لذلك يعتبر شامير هذه الانتخابات مصيرية بالنسبة الى مفهومه ونظرته الى الدولة اليهودية التي عليها، حسب رأيه، ان تتمسك بالاراضي المحتلة وتدافع عنها بالقوة. وفي ظل الصعوبات الانتخابية التي يواجهها "الليكود"، يعتقد شامير ان التشديد على "الامن الاسرائيلي" وجعله شعاراً اساسياً في المعركة الانتخابية قد يكون وحده قادراً على استقطاب الناخبين القلقين من المستقبل. ومن غير المستبعد ان يكرر شامير، ما فعله سلفه مناحيم بيغن في 1981 عندما امر بالاغارة على المفاعل النووي العراقي، ليقلب المزاج الانتخابي في اسرائيل عشية التوجه الى صناديق الاقتراع. وبالتأكيد يحتاج "الليكود" الآن، واكثر من اي وقت مضى، الى احداث مثل هذا الانقلاب من اجل المحافظة على السلطة، وذلك انطللاقاً من تطبيق نظريته حول "الامن الاسرائيلي". وبالفعل بدأت الحكومة الاسرائيلية، منذ اشهر، بالتوجه الى مثل هذه السياسة. وقد تمثل هذا التوجه باعتماد اجراءات جديدة لمواجهة الانتفاضة "والقوات الضاربة"، وبازدياد عمليات التدخل العسكري في جنوبلبنان. لكن الاسابيع القليلة الماضية كشفت عمق هذا التوجه من خلال اعطاء الاوامر للجنود الاسرائيليين في الاراضي المحتلة باطلاق النار "من دون انذار" على كل مسلح فلسطيني، اي على كل من يشتبه بانتمائه الى "القوات الضاربة"، فسقط عدد كبير من الفلسطينيين قتلى برصاص الجنود الاسرائيليين، في حوادث اثبتت التحقيقات اللاحقة انها عمليات مطاردة وليست اشتباكات مسلحة. في مقابل ذلك صعدت اسرائيل عملياتها في جنوبلبنان وضد قواعد المقاومة اللبنانية فيه، وبلغت ذروة هذه العمليات باغتيال الامين العام لپ"حزب الله" السيد حسين الموسوي في شباط فبراير الماضي. هذا الربط بين الاراضي الفلسطينية المحتلةوجنوبلبنان والذي تشدد عليه حكومة شامير، يهدف الى اظهار ان "الخطر العربي" على اسرائيل واحد ومن كل الجهات. واليوم، تسعى هذه الحكومة من خلال اتهامها سورية وايران الى توسيع دائرة هذا الخطر على نحو تتيح معه لنفسها توجيه ضربات عسكرية اليهما، مع ما يعنيه ذلك من احراج لسورية وربما اخراجها من المفاوضات السلمية. وقد يكون الهدف الكبير لشامير الذي لم يدخل هذه المفاوضات الا مكرها وبضغط اميركي شديد، هو دفع سورية الى مقاطعة هذه المفاوضات، بحيث تتحمل هي مسؤولية افشالها. روايات مختلفة واذا كانت الغارة الجوية الاسرائيلية التي ادت الى اغتيال الموسوي لم تدفع سورية ولبنان الى مقاطعة المفاوضات الثنائية، فان عملاً عسكرياً اسرائيلياً واسعاً يستهدف مناطق تخضع للنفوذ السوري المباشر في لبنان او يستهدف موقعاً ايرانياً تحميه سورية، سيكون له تأثير على ظروف المشاركة السورية في المفاوضات. ونظرا الى الاهمية السياسية الكبيرة لمثل اي عمل محتمل من هذا النوع، عمدت الادارة الاميركية منذ اللحظة الاولى لتفجير السفارة الاسرائيلية في بوينس ايريس، الى تركيز الاهتمام على "الجهاد الاسلامي" الذي اعلن مسؤوليته من بيروت، في مقابل التركيز الاسرائيلي على سورية وايران. ففي انتظار نتائج التحقيقات التي تجريها السلطات الارجنتينية، بمساعدة الاستخبارات في كل من الولاياتالمتحدة وفرنسا واسرائيل، قدمت كل من تل ابيب وواشنطن رواية مختلفة لكيفية حصول التفجير. فاسرائيل تقول ان التفجير الذي ادى الى تدمير جناحين من مبنى السفارة والى مقتل حوالي 30 شخصاً بينهم الديبلوماسي الثاني في السفارة وجرح اكثر من 250 شخصا آخر، ليس من الممكن تنفيذه من غير مساعدة لوجستية كبيرة لا تؤمنها الا دولة قادرة على تنفيذ هذا النوع من العمليات. ونشرت الصحف الاسرائيلية: نقلا عن مسؤولي الدفاع في تل ابيب، ان ما ورد في بيان "الجهاد" حول عملية انتحارية نفذها ابو ياسر الارجنتيني الذي اعتنق الاسلام، غير صحيح، لان سيارة "الفورد" المفخخة توقفت امام مبنى السفارة قبل خمس دقائق من الانفجار، الامر الذي يعني، حسب الاسرائيليين، انه كان امام سائق السيارة متسع كاف من الوقت لمغادرتها قبل الانفجار. وحسب الصحف الاسرائيلية فان كمية المتفجرات راوحت بين مئة ومئتي كيلوغرام ليس من السهل على تنظيم "الجهاد" تأمينها. وفي حين اكدت صحيفة "يديعوت احرونوت" "ان ايران وراء العملية"، قالت "هآرتس" انه "من الممكن ان تكون المتفجرات ارسلت الى الارجنتين في الحقيبة الديبلوماسية الايرانية". يضاف الى ذلك الكلام العلني الذي نسب الى الناطق باسم الخارجية الاسرائيلية باروخ بيناه والذي جاء فيه "لا يمكننا التأكد من مصادرنا الخاصة من مسؤولية الجهاد…" وفي موازاة السعي الى تقليل دور "الجهاد"، تحاول حكومة شامير ان تضع عملية الارجنتين، في اطار "الحرب على اسرائيل" بالربط مباشرة بين اغتيال مسؤول الامن في سفارتها في انقرة في 7 آذار مارس وبين الهجمات التي ينفذها فلسطينيون في الاراضي المحتلة. فقد ربط ليفي مثلا بين اقدام شاب من غزة على طعن اسرائيليين في يافا وبين تفجير السفارة في بوينس ايريس عندما صرح امام الكنيست: "لدينا حساب دموي لتسويته مع حاملي السكاكين وحساب مفتوح مع مفجري القنابل القريبين والبعيدين". في مقابل هذه الرواية الاسرائيلية، شددت واشنطن على الربط بين تفجير السفارة في بوينس ايريس، واغتيال الموسوي، مشيرة الى انها منذ الغارة الجوية الاسرائيلية على موكب الامين العام السابق لحزب الله اتخذت اجراءات في بعثاتها الخارجية وابدى الرسميون الاميركيون تصديقهم لبيان "الجهاد" حول التفجير، مشيرين الى التطابق في العبارات بين بيان "الجهاد" حول عملية انقرة وبيانه حول عملية بوينس ايريس. واعاد بعض هؤلاء الرسميين الى الاذهان ان واشنطن لم تندد باغتيال الموسوي، لكنها احتجت على استخدام طائرات هليكوبتر اميركية الصنع في الغارة. وذلك في اشارة واضحة الى ان واشنطن قد لا تعارض عملا اسرائيلياً ضد "الجهاد". وذلك على رغم الميل الاميركي الى الاخذ بوجهة نظر الرئيس كارلوس منعم حول دور اللاجئين النازيين والقوى اليمينية المتطرفة الساعية الى ضرب الاستقرار في الارجنتين. أين سيضرب شامير؟ والواضح من هذا الاختلاف الاميركي - الاسرائيلي في التعامل مع اسباب التفجير وكيفية حصوله، هو ان الادارة الاميركية ترغب في حصر المسؤولية في "الجهاد" بحيث لا يؤدي اي رد انتقامي اسرائيلي الى توريط سورية، في حين ان الحكومة الاسرائيلية تريد توسيع هذه المسؤولية بحيث تشمل سورية وايران، والاخيرة اتهمها الامين العام للخارجية الاسرائيلية يوسف هداس بأنها خططت للعملية من اجل "نسف السلام". وبذلك يكون تأكيد شامير على "ان اسرائيل ستستمر في السير في اتجاه السلام"، هو الوجه الآخر للسعي الاسرائيلي الى اخراج الآخرين منه. ويهدف التركيز الاسرائيلي على ان الدولة العبرية لا تزال تواجه "الارهاب العربي" و"الحرب العربية" ضدها، اضافة الى تعزيز الصورة الايديولوجية للنزاع التي يدافع عنها شامير، الى محاولة ايجاد مخرج لازمة العلاقة مع الولاياتالمتحدة والتي تعتبر مشكلة ضمانات القروض احد تفرعاتها الاساسية. ويذكر ان الحكومة الاسرائيلية اتهمت مراراً ادارة الرئيس جورج بوش بانحيازها الى العرب خلال عملية المفاوضات الثنائية. لكن هذا الانحياز، بالنسبة الى اسرائيل، يتجاوز العملية السلمية الى الوجود الاسرائيلي في المنطقة والذي يهدده "الارهاب". وقد عبّر المعلق السياسي في صحيفة "يديعوت احرونوت" القريبة من شامير بوضوح عن ان تدهور العلاقة الاميركية - الاسرائيلية والحملة على اسرائيل في الصحافة الاميركية والاوروبية اديا الى "نزع الشرعية عن اسرائيل". واستخلص المعلق من ذلك ان الانتقاد المتكرر لاسرائيل "لعب دورا في اعطاء الضوء الاخضر للارهاب المعادي لاسرائيل". اي ان ما تواجهه الدولة العبرية حاليا ليس مجرد سوء تفاهم عابر مع واشنطن او خلاف يرتبط بظرف محدد وانما هو مؤشر الى تغيير جوهري في طبيعة العلاقة بينهما. هذا التغير الذي انعكس تهديداً مباشراً للوجود الاسرائيلي بفعل "الحرب العربية" عليه. وحسب الحكومة الاسرائيلية، فان على الادارة الاميركية اعادة النظر في سياستها الحالية والتخلي عن شروطها لضمانات القروض، لأن المركز القوي والمتفوق لاسرائيل وحدهما يضمنان وجودها. وتقول "هآرتس"، من باب انتقاد سياسة شامير، "لقد ولى الزمن التي كانت واشنطن تعتبرنا فيه حليفاً استراتيجياً في مواجهة الاتحاد السوفياتي". وتضيف ان تمسك حكومة شامير بالاستيطان "قدّم للادارة الاميركية العصا لتضربها بها. وهي بذلك مسؤولة عن تدهور وضع اسرائيل في واشنطن والذي ستكون له نتائج خطيرة على امننا". وتنقل الصحيفة عن احد الخبراء الاسرائيليين بالشؤون الاميركية ان العلاقة الراهنة مع واشنطن، في ضوء الخلاف حول ضمانات القروض وتسريب اسرائيل لتقنيات عسكرية اميركية الى طرف ثالث، "تهديد مبطن لاسرائيل بالنسبة الى المشتريات من الولاياتالمتحدة او بالنسبة الى الصادرات العسكرية الاسرائيلية. فمن دون مشتريات لن نحظى بالامن، ومن دون صادرات عسكرية لن تبقى لنا صناعة… واذا كانت اسرائيل غير مستعدة لاستيعاب الواقع المر الكامن في ربط المساعدات الاميركية بشروط، فانها ستجد نفسها في السنة المقبلة امام خطر حدوث تقليصات اخرى". هذا "الواقع المر" يحاول شامير ان يعالجه بوضع الوجود الاسرائيلي نفسه على الطاولة امام الاميركيين. وهو امر لن يستطيع تحقيقه الا بدفع المنطقة الى الحرب او الى حافتها. والتبرير لذلك هو مواجهة "الارهاب" بحيث لا تستطيع واشنطن، عندها، الا الانجرار وراء المنطق الاسرائيلي، كما كان يحصل في العقود الماضية. وبغض النظر عن الاستجابة الاميركية لمثل هذه الدعاوي الاسرائيلية، يبدو ان الخيارات امام شامير قليلة عشية الانتخابات الاسرائيلية. فرضوخه للمنطق الاميركي حول المفاوضات السلمية يعني ضياع فرصته الاخيرة امام التيار الاسرائيلي المتشدد، لا بل اكد في رد على مطالبة حركة "تحياه" المتطرفة بقطع المفاوضات مع العرب بأنه "لا يمكن الاستمرار في مفاوضات السلام في مثل هذه الظروف"… واذا لم تتوفر هذه الظروف سيسعى شامير الى توفيرها. لذلك تتجه الانظار وتكثر التساؤلات حول اين "سيضرب" شامير ومتى. والمرجح ان الحكومة الاسرائيلية ستحاول ان تكون اي عملية حربية تقررها واسعة، الى حد يظهر معها ان "امن" الدولة العبرية لا يضمنه الا "الليكود"، وتعيد الثقة بهذا التكتل امام الناخبين من جهة، ومن جهة اخرى تضع سورية في موقع حرج عسكرياً وسياسياً. وربما تتوفر مثل هذه المواصفات اكثر من غيرها في مناطق لبنانية. وربما لهذه الاسباب يتحرك المسؤولون اللبنانيون، في كل اتجاه، تحسباً لمثل هذه العملية التي يتوقع ان تكون خلال نيسان ابريل او ايار مايو، حيث تكثر مواعيد المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف، وعشية الاقتراع في اسرائيل.