الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق شامير اشبه بملاكمين حذرين، يدوران في الحلبة، وكل منهما يحاول تقييم نقاط ضعف الآخر. ولا يبدو ان ايا منهما على استعداد الآن لتوجيه ضربة قاضية الى الآخر، بل يظهر، عكس ذلك، ان الرجلين ينويان اتباع استراتيجية او "حرب" الاستنزاف. واذا ما حقق احدهما النصر، فان انتصاره سيأتي نتيجة انهاكه قوى الآخر. ونحن نعرف المواقف الأساسية للرجلين. فالرئيس بوش، صدقاً، لا يستسيغ شامير، وهو يرى انه متطرف بشكل غير معقول. كما انه مستاء بصورة خاصة من سياسة الاستيطان الاسرائيلية ويريد وقفها. كذلك يبدو انه منزعج من الافتراض السهل الذي يوحي به شامير وهو ان في وسعه ان يعبئ الكونغرس ضد سياسة الرئيس الاميركي. لكن يجب الاّ يخطيء احد في التقدير: ان بوش يريد ان يكسب هذه المبارزة. الا ان علينا ان نتذكر ايضاً ان جورج بوش سياسي يتوق الى الفوز في انتخابات الرئاسة الاميركية اكثر من الفوز في هذه المباراة ضد شامير. وكما جرت العادة فان حقائق السنة الانتخابية في اميركا تقنع المرشحين بانتهاج موقف مؤيد لاسرائيل. فقبل اشهر قليلة كان في وسع المرء ان يقول ان بوش بلغ درجة من القوة ستقوده بسهولة الى فوز ساحق، وان لا حاجة به الى القلق من العواقب التي سيتركها وقوفه في وجه شامير على السياسة الداخلية. الا ان بوش خسر بعض التأييد الشعبي منذ ذلك الوقت الى درجة ان اعادة انتخابه رئيساً لم تعد اكيدة، مع انها لا تزال مرجحة. وعلى رغم هذا التراجع في التأييد، ليس هناك ما يدعو بوش الى الذعر. فبالنسبة الى قضية الضمانات الاميركية للقروض التي تطلبها اسرائيل، نجد ان الاميركيين يعارضونها بنسبة اربعة الى واحد. وهذه المعارضة لا علاقة لها باسرائيل، وانما تعود بدرجة كبيرة الى المشاعر العامة المعادية للمساعدات الخارجية. وهي مشاعر تزداد قوة ووضوحاً بصفة خاصة حينما يكون هناك عدد كبير من الاميركيين عاطلين عن العمل، ويشعرون بالقلق على مستقبلهم الاقتصادي. وحتى في دهاليز الكونغرس الموالية لاسرائيل عادة لا يلمس المرء ذلك التأييد القوي لفكرة منح اسرائيل الضمانات الكاملة للقروض التي تبلغ قيمتها عشرة بلايين مليارات دولار. والآن، لنلق نظرة على الجانب الاسرائيلي من هذا النزاع. الواضح ان شامير ملتزم بمواصلة برنامج الاستيطان وليس لديه اية نية اطلاقاً في التخلي عن بوصة واحدة من الضفة الغربية، كما ان المستوطنات هي احد المحاور المركزية في برنامجه الرامي الى فرض الامر الواقع على الارض. ولو فكر في تغيير موقفه من هذه المسألة فان بعض الوزراء في حكومته، لا سيما ارييل شارون، الراعي الأول لسياسة الاستيطان، سيهددون بالاستقالة. لكن شامير يواجه ايضاً ضغوطاً أخرى، لا سيما من كثير من الاسرائيليين الذين يشعرون بالقلق على مستقبلهم الاقتصادي. فالمهاجرون الجدد لا فرص عمل امامهم، والمساكن قليلة، كما ان المزاج السياسي العام في البلاد متشائم. ويتحدث زوار اسرائيل في الآونة الاخيرة عن بلاد تعيش ازمة خانقة. وستظهر الانتخابات النيابية المقبلة في اسرائيل والتي ستجري في حزيران يونيو من هذا العام، مدى تعرض شامير للضغوط من اجل معالجة القضايا الاقتصادية. ولربما كان شامير لا يستسيغ بوش، ولكنه سيكون متهوراً وطائشاً اذا ما استهل حملته الانتخابية بتحدي واشنطن. اذ من المحتمل ان يضطر الى التعامل مع بوش رئيساً لأميركا لخمسة اعوام اخرى. وهناك بعض الاسرائيليين الذي يتحدثون بجرأة عن الاستغناء عن المساعدات الاميركية بدلاً من قبول الشروط الاميركية المتعلقة بالمستوطنات. لكن من المؤكد ان هذا ليس ما يقوله شامير. فهو يصف ضمانات القروض انها حيوية وهو يرفض تجميد الاستيطان، لكنه يلمح الى امكان التوصل الى نوع من الاتفاق مع بوش ووزير خارجيته، جيمس بيكر. وهو بهذا يتصرف كسياسي بارع، اذ يطمئن رفاقه الايديولوجيين من جهة، بينما يعطي من جهة ثانية تلميحاً بالمرونة الى الاميركيين والاسرائيليين الاكثر اعتدالاً. اذن كيف ستتطور هذه الدراما؟ لا احد يعرف تماماً. لكنني اعتقد ان الغلبة لبوش. فمهما قرر ان يفعل سيحصل على تأييد الرأي العام الاميركي وبالتالي الكونغرس. وسوف يظهر المرشحون الديموقراطيون للرئاسة تمنعاً في معارضته في قضية المساعدات لاسرائيل. اذ ان معارضتهم لموقفه ستحتاج منهم الى الدفاع عن الفكرة القائلة ان المهاجرين الجدد الى اسرائيل يستحقون دعم دافعي الضرائب الاميركيين اكثر مما يستحقه الفقراء والمشردون الاميركيون. وليس هناك من يريد خوض حملة انتخابات الرئاسة بمثل هذه الفكرة. لا قروض بلا قيود وطبقاً للمصادر المطلعة في واشنطن فان بوش وبيكر ليسا في عجلة من امرهما لانهاء المفاوضات مع اسرائيل بشأن ضمانات القروض البالغة 10 بلايين مليارات دولار. فقد ابلغا شامير انه لا يمكن لاسرائيل ان تحصل على ضمانات القروض من دون فرض بعض القيود على برنامج الاستيطان الاسرائيلي في الاراضي العربية المحتلة. كذلك اوضح البيت الابيض انه لا يمكن منح العشرة بلايين مليارات دولار كاملة في الوقت نفسه. لذا طلب الى اسرائيل ان تقترح الوسائل لطمأنة اميركا بأن المساعدات لن تستخدم في اقامة المزيد من المستوطنات، وهو امر سيجد شامير من الصعب عليه فعله. وبدا في احدى المراحل ان الطرفين، الاميركي والاسرائيلي، يتجهان الى تبني ما يسمى "خطة ليهي"، نسبة الى السناتور باتريك ليهي رئيس لجنة الاعتمادات التابعة لمجلس الشيوخ الاميركي. ويعتبر ليهي ان امام اسرائيل احد خيارين: اما الحصول على المساعدات الاميركية لاسكان المهاجرين الجدد او الاستمرار في بناء المستوطنات في الاراضي المحتلة وبالتالي عدم الحصول على المساعدات. وانطلاقاً من هذا المبدأ اقترح ليهي اقتطاع ما يعادل قيمة ما تصرفه اسرائيل على المستوطنات والبنية التحتية المرتبطة بها من ضمانات القروض التي طلبها الاسرائيليون وقيمتها 10 بلايين مليارات دولار على مدى خمس سنوات. كما ينطوي اقتراح ليهي على منح اسرائيل ضمانات للقروض بقيمة بليوني ملياري دولار سنوياً، بدلاً من الموافقة دفعة واحدة على المبلغ كله. وتبدو هذه الخطة مغرية من حيث المبدأ، اذ انها تعني تغريم اسرائيل عن كل مستوطنة تقيمها. الا ان هناك مشكلات في هذا الاقتراح ايضاً. فأولاً، ليس من الضروري ان يؤدي الى الابطاء في بناء المستوطنات، ولو في السنة الاولى على الأقل - كما ان شامير ربما يحصل على الاموال لمواصلة بناء المستوطنات وضمان اعادة انتخابه، وانتظار ما سيحصل لطلبات المساعدات في المستقبل. وهكذا يبدو ان بوش يسعى الى تحقيق ثلاثة انواع من الشروط قبل الموافقة على اي جزء من الطلب الاسرائيلي. اولاً، سيطلب الى شامير ضمان عدم انفاق اي جزء من الأموال في الأراضي المحتلة. وهذا لا يعني الشىء الكثير من الناحية العملية. ثانياً، سيطلب الى شامير تقديم ضمانات، على الصعيد الخاص على الأقل، بخفض النشاط الاستيطاني في المستقبل الى درجة كبيرة جداً، ان لم يكن تجميده تماماً. ثالثاً، سيطلب الى شامير قبول سلسلة من الاصلاحات الاقتصادية، بما في ذلك الغاء الاعانات المالية للاسكان في الضفة الغربية. يضاف الى ذلك ان بوش سيبلغ شامير ان الادارة ستقتطع اية اموال حكومية تنفق على النشاط الاستيطاني من طلبات المساعدات الاسرائيلية في المستقبل اقتراح ليهي. ضغوط على شامير في مواجهة هذه المطالب الصارمة، ربما يقرر شامير سحب الطلب بدلاً من رفضه. او ربما تستمر المحادثات وتطول وتؤجل القرارات الى ما بعد اجراء الانتخابات الاميركية والاسرائيلية. او، وهذا هو الأرجح، سيحاول شامير التوصل الى حل وسط يطمئن بموجبه الرئيس بوش على الصعيد الخاص بأن اسرائيل ستبطئ في سرعة الاستيطان، وستشرع في تطبيق اصلاحات اقتصادية، ولن تنفق اية اموال اميركية وراء "الخط الأخضر"، اي في الاراضي المحتلة. واذا كان بوش يعتقد ان حكومة برئاسة شامير هي افضل امل لعملية السلام فانه ربما يؤيد مثل هذا الحل الوسط. اما اذا كان بوش يرى شامير عقبة في طريق السلام فانه ربما يستمر في تأجيل اتخاذ قرار نهائي، على امل ان يتحول الناخبون الاسرائيليون ضد الليكود. اما في الوقت الراهن فيبدو انه عقد العزم على اقناع الناخبين الاسرائيليين بان عليهم الاختيار بين المساعدة لاستيعاب المهاجرين وبين برنامج الاستيطان الباهظ الكلفة. وربما يعتمد الكثير على نتيجة المواجهة بين اسحق شامير وشيمون بيريز داخل حزب العمل. وحدسي، الذي لا استطيع الجزم به او تأكيده، هو ان بوش وبيكر يأملان في نجاح رابين في تولي زعامة حزب العمل ليخوض حملة قوية ضد شامير. وربما كان بوش يأمل في ائتلاف بين الليكود والعمل من اجل مصلحة عملية السلام. اذ ان مثل هذه الحكومة ستضمن على الأقل الابطاء كثيراً في سرعة الاستيطان. وغني عن القول ان واشنطن لم تكرس الكثير من الوقت للتفكير في رد فعل العرب على قرار ضمانات القروض - اذ ان الفلسطينيين ربما ينسحبون من مفاوضات السلام، الا ان مثل هذا القرار سيحمل ضرراً ذاتياً، كما ان الحكومات العربية المعنية مباشرة بالنزاع مع اسرائيل لم تجعل من ضمانات القروض تلك القضية الكبرى. ومهما كانت الحسنات او السيئات، فان هذا يعني ان القرار الحاسم على الجانب الاميركي سينطوي على تقييم جورج بوش لشامير ومكانته السياسية. واستناداً الى الادلة الاخيرة، فان بوش يعمل بهدوء من اجل زيادة الضغوط على شامير. فاذا ما نجحت هذه الاستراتيجية، سيضعف شامير من دون حدوث مواجهة علنية. وسوف نرى النتائج عما قريب. اذ ان الاسرائيليين والعرب يهمهم جميعاً كيف سينتهي هذا الاختبار للارادة. * مستشار الرئيس السابق كارتر وأحد أبرز الخبراء الاميركيين في شؤون الشرق الاوسط.