بعد مرور أكثر من 27 سنة على حادث خطف طائرة شركة TWA الأميركية من مطار أثينا الى مطار بيروت، نجحت أجهزة الاستخبارات الأميركية في اغتيال عماد مغنية، المتهم بتنفيذ تلك العملية. كذلك حملته الصحف سنة 1983 مسؤولية نسف مقر"المارينز"241 قتيلاً إضافة الى عمليات أخرى مثل تفجير مبنى السفارة الأميركية في بيروت، وخطف رئيس مكتب ال"سي اي ايه"في لبنان وليام باكلي. كما اتهمته اسرائيل صيف 1994 بالوقوف وراء عملية نسف مركز جمعية الصداقة الاسرائيلية - الارجنتينية في بوينس ايريس حيث قتل 85 شخصاً وأصيب 300 بجروح. وقد استغل شارون في حينه تلك الحادثة ليزعم ان"حزب الله"ليس حزباً لبنانياً كما يعلن، بدليل ان جناحه العسكري بقيادة عماد مغنية، يقوم بعمليات"إرهابية"خارجية مثل عملية بوينس ايريس. ولكن المحاكم في الارجنتين لم تأخذ بهذه المزاعم السياسية، خصوصاً ان موقع المركز يخضع لحراسة مشددة ومراقبة دائمة من قبل الموساد. وهكذا بقيت هذه القضية من دون حسم لافتقارها الى الأدلة الثبوتية. بيان"حزب الله"اتهم اسرائيل بتصفية عماد مغنية لأن استخباراتها اغتالت في السابق قياديين هما الشيخ راغب حرب والأمين العام عباس الموسوي. ولما عجزت عن ملاحقته، أردت شقيقيه فؤاد وجهاد بقصد ترويعه ومنعه من استئناف نشاطه. وكان من الطبيعي ان تضاعف تلك المحاولات الانتقامية التي مارستها اسرائيل نشاطه الحزبي بحيث تحول الى لغز مثل كارلوس الجبهة الشعبية أو أبو نضال ليبيا. وبسبب بقائه في الظل، وحرصه على الابتعاد عن الضجيج الاعلامي، وقدرته على تضليل متعقبيه، كانت تلصق به كل العمليات المبهمة. يؤكد المحللون ان الجهاز الذي أردى عماد مغنية سبق له ان رصد تحركاته ونشاطاته، إن كان في طهران أو في دمشق أو في الضاحية الجنوبية من بيروت. وبما ان الاجتماعات الأمنية السابقة كانت تفرض حضور مغنية مع كل مسؤول ايراني يزور دمشق، فقد توقعت أجهزة الرصد الأميركية أو الاسرائيلية ان يحضر اللقاء الذي أتى من أجله الى سورية وزير الخارجية منوشهر متقي. اي اللقاء الذي دعي اليه رئيس المكتب السياسي ل"حماس"خالد مشعل، وأمين عام"الجهاد الاسلامي"رمضان شلح وممثل"أمل"علي حسن الخليل والمعاون السياسي في قيادة"حزب الله"حسين خليل. وعلم ان ذلك اللقاء كان معنياً باستكشاف آراء الحلفاء الفلسطينيين واللبنانيين في شأن الحوار الايراني - الأميركي في بغداد. الاتهامات التي صدرت عن"حزب الله"حول اسباب تحميل اسرائيل مسؤولية اغتيال عماد مغنية، كانت تستند الى سجل طويل من الوقائع الفاشلة. ففي سنة 1996 نفذ"الموساد"عبر أحمد الحلاق انفجاراً كان يستهدف عماد في الضاحية الجنوبية، أدى الى مقتل شقيقه فؤاد. وقد استدرجت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني العميل أحمد الحلاق الذي أُعدم بعد اعترافه بالتخطيط للجريمة. صباح الخميس الماضي بثت الفضائيات الأميركية حديثاً لشخص يدعى كين روبنسون قال ان المكتب الفيديرالي كلفه تعقب مغنية في منطقة الشرق الأوسط، واعتقاله حياً. وزعم كين انه رصد تنقلاته مدة طويلة الى ان اكتشف مرة انه سينتقل الى دمشق من طهران على متن طائرة ستحط لمدة ساعة في عاصمة خليجية. واتصلت واشنطن بالمسؤول الأمني في تلك العاصمة على أمل تسهيل مهمة كين، ولكن الجواب لم يكن مشجعاً. وتدعي الصحف الاسرائيلية ان"الموساد"كان حريصاً على خطف عماد مغنية لأسباب تتعلق بمصير الطيار رون اراد. أي الطيار الذي هبط بالمظلة قرب مخيمات اللاجئين في الجنوب يوم 16 تشرين الأول اكتوبر 1986، ثم اختفت آثاره، وتردد في حينه أن مصطفى الديراني الذي كان يتولى المهمات الأمنية في حركة"أمل"، هو الذي نقله الى البقاع. وتزعم اسرائيل أن رون اراد قد سلم الى الحرس الثوري الايراني بمعرفة عماد مغنية. وعليه رأت انه من الضروري بقاؤه حياً من أجل التحقيق والاستجواب. الاسئلة التي طرحتها عملية اغتيال عماد مغنية كثيرة ومحيرة، خصوصاً ان اسرائيل تبرأت من تنفيذها. علماً بأنها كانت تتباهى باصطياد جماعة"حزب الله"مثل الشيخ راغب حرب والأمين العام السابق عباس الموسوي! الجواب على هذا يحتمل تفسيرين: ان ايهود اولمرت لا يريد الدخول مرة أخرى في نزاع مسلح مع الحزب الذي هدد برد انتقامي موجع. أو أنه يفضل احراج دمشق عن طريق الايحاء بأن اغتيال عماد كان عملاً داخلياً نفذته عناصر مخترقة للأمن السوري. يستنتج من التعليقات الرسمية التي صدرت عن دمشق، أن المسؤولين يفضلون إنكار معرفتهم بوجود مغنية فوق الأراضي السورية بحيث يدفعون عنهم تهمة إيواء"الإرهابيين". ولكن واشنطن رأت في الإنكار تنصلاً من المسؤولية الأمنية لأن مغنية يملك سيارة مسجلة في سورية يستخدمها أثناء تنقلاته. والدليل أنه اغتيل في سيارته المفخخة وليس في سيارة أجرة. وهذا يعني أن القاتل كان يراقبه ويعرف سيارته. المراسلون الأجانب في دمشقوبيروت يعتبرون التشويش على التحقيق جزءاً مكملاً لعملية الاغتيال. ومثل هذا التشويش دفعهم الى الأخذ باستنتاجين: الأول، ان الفاعل قد يكون عميلاً عراقياً مدرباً لدى الأجهزة الأميركية... وأن يكون تسلل الى سورية مع آلاف اللاجئين العراقيين. الثاني ان يكون الفاعل عنصراً تابعاً لجهاز الأمن السوري، وقد أغرته الجائزة الكبرى فقرر الحصول على 25 مليون دولار. المصادر الأمنية السورية تميل الى اعطاء هذا الحادث بعداً سياسياً مختلفاً عن كل تحاليل المصادر الأجنبية. وهي تذكر بالحملات التي شنت ضد النظام من قبل العراق والاخوان المسلمين وعملاء اسرائيل في لبنان ووكالة الاستخبارات المركزية. وقد انطلقت الحملة الأولى في 13 آذار مارس 1986 يوم وقع انفجار ضخم لسيارة مفخخة وسط دمشق. وبعد شهر تقريباً، أي في 16 نيسان ابريل انفجرت قنابل في سيارات وقطارات أدت الى مقتل 144 شخصاً في أنحاء مختلفة من البلاد. وكان ذلك إثر الغارة الاميركية على ليبيا. واتهمت سورية في حينه أميركا واسرائيل، عبر الناشط في مكافحة الإرهاب الكولونيل اوليفر نورث وعميرام نير الذي كلف باغتيال عناصر عربية تنتمي الى أحزاب"إرهابية". الرئيس جورج بوش استغل عملية الاغتيال ليكرر دعوته لزيادة العقوبات على سورية ما لم تتجاوب مع تحقيقات المحكمة الدولية. وهو بهذا النداء كان يجدد دعمه لعمل لجنة التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وللقرار 1559 المطالب بخروج القوات السورية من لبنان. الصحف الأميركية شددت على اظهار دور عماد مغنية في تأمين تدفق السلاح الايراني - السوري الى"حزب الله"و"حماس"و"الجهاد الاسلامي". وقارن المعلقون بين هذا الدور المؤثر ودور"ابو جهاد"الذي اغتاله الاسرائيليون بعدما اتهموه بتأمين شحنات السلاح الى المقاومة داخل الضفة الغربية. ونقلت صحف عدة وقائع عملية خطف طائرة TWA، باعتبارها كانت إحدى أهم المعارك الديبلوماسية التي خاضها الرئيس ريغان ووزير خارجيته جورج شولتز. يروي شولتز ذكريات تلك المعركة في كتابه"اهتياج وانتصار"فيقول إن مفاوضات التسوية شملت نبيه بري عن"أمل"وحافظ الأسد عن سورية وشمعون بيريز واسحق رابين وبنيامين نتانياهو عن إسرائيل، إضافة إلى رؤساء حكومات الجزائر واليونان والكويت واسبانيا. وقد طلب عماد مغنية باسم خاطفي الطائرة 14 حزيران/ يونيو 1985 الافراج عن 766 أسيراً في السجون الإسرائيلية و17 سجيناً في الكويت ينتمون إلى حزب"الدعوة"العراقي - الإيراني. ودافع في حينه نبيه بري الذي هاتفه ماكفرلين عن وجهة نظر الخاطفين بالقول إن إسرائيل اعتقلتهم من مخيم"الأنصار"في الجنوب، وانها خالفت بذلك معاهدة جنيف. وقد نشرت صحف عدة صورة عماد مغنية وهو يضع فوهة مسدسه في رأس جندي أميركي يدعى روبرت ستاثم. كان ذلك قبل أن يطلق النار عليه ويرمي جثته على مدرج مطار بيروت. وفي حديث هاتفي آخر اختصر نبيه بري مطالب الخاطفين بثلاثة: الافراج عن أسرى مخيم"الأنصار"والافراج عن معتقلي حزب"الدعوة"في الكويت واطلاق سراح شخصين متهمين ب"الإرهاب"في سجن اسباني. وكان واضحاً من خلال إعادة نشر هذه المعلومات ان الإعلام الغربي يريد إلقاء الضوء على دور عماد مغنية بحيث يظهره وكأنه يعمل لمصلحة إيران لا مصلحة لبنان. يوم الخميس الماضي تجمهر اللبنانيون في ساحة الشهداء والضاحية الجنوبية، لإحياء ذكرى مرور ثلاث سنوات على اغتيال رفيق الحريري... وإعلان استنكار اغتيال عماد مغنية. وقد أظهرت هاتان المناسبتان المتلازمتان من حيث التوقيت فقط، مدى بعد الأفق السياسي الذي يفصل بين تيارين وعقليتين ومفهومين. كما يظهر عمق الاختلاف بين اللبنانيين حول تحديد رموزهم الوطنية وتصنيف شهدائهم أيضاً. في عهد الرئيس بشارة الخوري كتب الصحافي جورج نقاش افتتاحية في جريدته"لوريون"انتقد فيها ميثاق التسوية الهشة لأن"نقيضين"في نظره"لا يشكلان وطناً". يومها قضت المحكمة بسجنه لأنه يشكك في جدوى صيغة التعايش. بعد مرور أكثر من ستين سنة على تلك الواقعة، كرر وليد جنبلاط في حديثه التلفزيوني هذا الأسبوع كلام جورج نقاش مؤكداً أن التاريخ في لبنان يعيد نفسه! * كاتب وصحافي لبناني