في هذه الحلقة الرابعة من سلسلة التحقيقات عن الجمهوريات الست التي يتألف منها "العالم الاسلامي الجديد"، تتطرق ارواد اسبر موفدة "الوسط" الى هذه الجمهوريات الى "مشاكل الاستقلال" والتساؤلات الكبرى التي يطرحها المواطنون هناك. هذه الجمهوريات خمس منها في آسيا الوسطى وهي كازاخستان واوزبكستان وطاجيكستان وتركمنستان وكيرغيزيا، والسادسة اذربيجان تقع ما وراء القوقاز، تشكل عالماً قائماً بذاته يعيش فيه اكثر من 55 مليون نسمة وهو، منذ استقلاله عن الاتحاد السوفياتي المنهار، يعيش صحوة اسلامية حقيقية، عميقة وواسعة، ويطمح الى بناء استقلال جمهورياته الحقيقي. وفي ما يأتي الحلقة الرابعة من هذه التحقيقات: انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال الجمهوريات الاسلامية الست يفتح الباب امام مجموعة من التساؤلات. واذا كانت الاسئلة تتوالد وتفرض نفسها، فالاجوبة القاطعة عليها غير ممكنة في هذه المرحلة، حيث تتخبط هذه الجمهوريات بين المشكلات القومية ومشكلات الحدود وأزمات الاقتصاد. والامور متشابكة مترابطة ببعضها بعضاً حتى انه يصعب الفصل بينها. الاستقلال وحده لا يكفي لحل المشكلات، بل على العكس هو باب مفتوح على مشكلات جديدة لم تكن مطروحة من قبل. فالحالة الاقتصادية المتردية تولد المرارة عند السكان، خصوصاً عند القوميات التي تشكل الاكثرية في جمهورياتها، مما قد يدفعها الى صب نقمتها على الاقليات التي تعيش معها. ولدى الناس شعور عام بالضياع. ففي ظل الحكم السوفياتي تمسكوا بفروقاتهم الثقافية، وكانت تلك واسطتهم الوحيدة للتميز والمعارضة وعدم الذوبان. الآن ذهب الحكم السوفياتي. فهل تكفي هذه الخصوصيات الثقافية لتشكل مقومات دولة؟ ماذا سيحصل بعد الانتهاء من سياسة فرض اللغة الروسية وتعميمها؟ ما هو مصير المدارس والجامعات الروسية في الجمهوريات الاسلامية؟ هل يمكن الاستعاضة عنها بالمدارس والجامعات الوطنية المحلية؟ وهل هذه المدارس والجامعات مؤهلة كما ينبغي كي تمنح علماً ذا مستوى يؤهل الطلاب للدخول في معركة الحياة والصراع في العالم الحديث؟ واذا اتخذت كل جمهورية لغة الاكثرية لغة رسمية لها، فهل تستطيع التخلي عن الروسية، خصوصاً في غياب اية لغة اجنبية اخرى كلغة للابحاث العلمية او كمجرد واسطة للتواصل مع الخارج، نظراً الى ندرة الذين يتكلمون لغات اجنبية؟ وهل ستكرر الاكثريات ما كان فعله النظام السوفياتي، فتفرض لغتها على الاثنيات الاخرى، وتمارس سياسة التطبيع؟ وهذه اللغة التركية في آسيا الوسطى واذربيجان، او اللغة الايرانية في طاجيكستان، هل ستظل مكتوبة بالاحرف الروسية؟ وهل نقلها الى اللاتينية او العربية وتعميم ذلك في الكتب والمطابع واعادة تدريب الناس عليها بالامر السهل؟ ام هل ستستعين من جديد بالاحرف العربية، كما تسنى لنا ان نشاهد بعض اللافتات المكتوبة بالاحرف العربية فوق بعض الدكاكين في اذربيجان؟ وما هو مصير اسماء اهل الجمهوريات الاسلامية، هل ستبقى بلفظها الروسي كما هي عليه الآن؟ وماذا سيفعل الروس الذين بدأت عامة الشعب تنظر اليهم بحقد واضح في بعض الجمهوريات؟ هل سيغادرون كما يفعلون اليوم في طاجيكستان، ام هل يقررون البقاء في الجمهوريات، خصوصاً وان الوضع الاقتصادي في جمهورية روسيا الاتحادية مأساوي، وليس من السهل الحصول على تأشيرة دخول الى البلدان الغربية؟ ما هو مصير مناطق الاستقلال الذاتي، مثل منطقة كاراكالباكيا الموجودة في اوزبكستان والتابعة لها؟ هل يكون استقلالها حقيقياً، ام انها ستشهد مصير منطقة ناغورنو قره باخ نفسه؟ الاسئلة، بالطبع، اكثر من الاجوبة. فهذه الجمهوريات الاسلامية تعيش تجربة جديدة، تجربة ممارسة الاستقلال. "الاستقلال ليس عملية سهلة" "الاستقلال ليس عملية سهلة". هذه العبارة سمعتها مراراً على ألسنة مسؤولين ومفكرين ومثقفين ومواطنين عاديين التقيتهم في مدن الجمهوريات الاسلامية التي زرتها. وقد اعطاني لطف الله كبيروف رئيس اتحاد الصحافيين الاوزبكستاني مثالاً على ذلك يتعلق بمنطقة او اقليم كاراكالباكيا الذي أعلن استقلاله عن الاتحاد السوفياتي وعن جمهورية اوزبكستان. يقول كبيروف ان استقلال كاراكالباكيا هو استقلال "على الورق" فقط. لا يعني ذلك ان كاراكالباكيا تابعة سياسياً لحكومة اوزبكستان، لكن هناك علاقات وثيقة، لا سيما من الناحية الاقتصادية. فمن الصعب جداً ان تكون كاراكالباكيا مستقلة فعلياً. وروى لي كبيروف الحادثة التالية تأكيداً لكلامه: كان اتحاد صحافيي كاراكالباكيا تابعاً لاتحاد صحافيي اوزبكستان. في بداية هذا العام قرر الصحافيون الكاراكالباكيون الانفصال والاستقلال في اتحاد خاص بهم. فما كان امام الاوزبكستانيين الا ان يقبلوا. لكن اتحاد صحافيي كاراكالباكيا واجه خلال شهر واحد عدداً من الصعوبات لم يكن يتوقعها، الى جانب الصعوبات المادية، حتى انه وجه دعوة جديدة لعقد مؤتمر عام وتم فيه التصويت بالاجماع على الانضمام من جديد الى اتحاد صحافيي اوزبكستان. من اجل صياغة الاسئلة وفهم حقيقة الوضع بعض الفهم، لا بد من معرفة الخلفيات التاريخية لهذه الجمهوريات والعلاقات المتشابكة في ما بينها. لا بد من استحضار مسار التحولات والتعديلات الحدودية والسكانية واللغوية التي تمت غالباً لاهداف واعتبارات ايديولوجية نظرية، اكثر مما تحكمت بها الشروط الحياتية والواقع السكاني الثقافي الفعلي. لؤلؤة العالم اجتاح الملك الفارسي قورش في القرن السادس قبل م. قسماً كبيراً من آسيا الوسطى اي حتى اوزبكستان واجتاحها من بعده الاسكندر المقدوني حوالي 328 قبل م، وكان اسم المنطقة عندئذ سوغديان. في القرن السادس م. اجتاحت آسيا الوسطى القبائل التركية الآتية من شرق آسيا. اما العرب ففتحوها في القرن السابع م. وادخلوا اليها الاسلام ونشروه. ثم جاء الاتراك مرة ثانية، بدءاً من القرن العاشر، وتمّ تتريك المنطقة نهائياً بعد ان اجتاحها جنكيزخان، مع السلالة التي اسسها ثاني اولاده. وعرفت آسيا الوسطى منذ ذلك الوقت ب "تركستان". وعرفت تركستان عصرها الذهبي مع تيمورلنك الذي جعل من سمرقند عاصمته ولؤلؤة العالم، في النصف الثاني من القرن الرابع عشر. وفي بداية القرن السادس عشر فتحها الاوزبك الشيبانيون واسسوا امارات بخارى وخوارزم خيفا، التي كانت القبائل التركمانية تابعة لها. اما في الشمال، فكانت السهوب مقسمة بين الامارات الكازاخية الثلاث الكبرى والوسطى والصغرى وكانت هذه الامارات جميعها في حالة فوضى عشوائية استغلها الروس الذين ازداد وجودهم قوة في السهوب السيبيرية، ودخلوا تركستان ببطء لكن بقوة، بانين الحصون خلال تقدمهم قبل الانتصار العسكري النهائي. فقد اعترفت امارة بخارى بخضوعها لقيصر روسيا عام 1868، وتبعتها امارة خيفا خوارزم عام 1873 وخوقند في 1875، والقبائل التركمانية عام 1881. تأخر الشعور القومي التركستاني في الظهور وتبلور في بداية القرن العشرين، في بخارى خصوصاً مع حركة "الجديد". وثورة 1917 فجرت في آسياالوسطى سلسلة من الحركات الانفصالية بقيادة النخبة والمثقفين، لا سيما تمرد البسمتشيين المضاد للسوفيات 1919 - 1922، الذي كان رمز المقاومة التركستانية للاستعمار الروسي في شكله الجديد. بدءاً من عام 1920، بدأ تكوين جمهورية تركستان الاشتراكية ضمن الاتحاد السوفياتي، وتحولت امارتا خوارزم وبخارى الى جمهوريتين اشتراكيتين. عام 1924 اعيد رسم الحدود في جمهوريات تركستان وخوارزم وبخارى التي قسمت واصبحت جمهوريات آسيا الوسطى الحالية. فجمهورية طاجيكستان مثلاً لم تكن موجودة بحدودها الحالية، وقد ولدت من تقسيم تركستان. اما الطاجيك، فهم موزعون بين افغانستان 5 ملايين وطاجيكستان مليون و630 الفاً واوزبكستان 457 الفاً. وهناك اعداد قليلة منهم في الصين وفي جمهوريات اخرى من الاتحاد السوفياتي سابقاً. لم يكن الطاجيك من الشعوب المحاربة، وقد اضطهدهم التركمان، وكانوا دائماً ضحية الغزاة. والطاجيك هم ورثة الثقافة الحضرية في آسيا الوسطى التي انتشرت منذ العصور القديمة، من الهضاب الايرانية حتى بحر قزوين والى الصين. كذلك جمهورية تركمنستان لم تكن موجودة كما صارت اليه منذ ان رسمت حدودها وانشئت في 27 تشرين الاول اكتوبر 1924. وكذلك الامر بالنسبة الى الكيرغيز الذين كانوا شأن جيرانهم الكازاخيين من الرعاة الرحل. منذ البداية كان السوفيات، على مستوى السلطة والاجهزة الادارية، استمراراً لسلطة الامبراطورية الروسية في بلدان آسيا الوسطى. ومنذ البداية كان هناك شرخ اساسي بين الشيوعيين الروس وشيوعيي تلك البلدان. كان لدى الشيوعيين الروس تحفظ وشك ازاء المناطق التي ليس لديها جماهير عمالية. وقد برز في السياسة السوفياتية ازاء القوميات مبدآن، يتم ترجيح احدهما على الآخر بحسب الحاجة والوضع. المبدأ الاول هو المساواة بين الاثنيات. والمبدأ الثاني هو التقسيمات وعدم السماح بتجمع قومية واحدة داخل حدود واحدة. وبما ان هذه المنطقة عرفت نزاعات قديمة بين الاثنيات، حيث الاكثرية تضطهد الاقلية، فقد استغل السوفيات تلك النزاعات واتخذوها ذريعة لادخال الروس مكان السكان المحليين، ولاجراء تقسيمات تحول دون التقاء قومية واحدة على ارض دولة واحدة. هذا التقسيم سد الطريق امام حركات الوعي القومي. لكنه كبت النزاعات القومية وتركها كامنة، لم يحلها، ولا سمح لها بالنمو والتطور في الافق الاشتراكي. وهكذا انفجرت الصراعات القومية والعرقية بمجرد زوال الهيمنة السوفياتية. الروسية غير محبوبة في طشقند رافقني حبيب الله بسيارته، وهو من الاوزبك، سألته عن العلاقة بين الاوزبك والتركمان، فبدت على وجهه علامات الاحتقار وأفهمني بوضوح "ان الاوزبك لا يحبون التركمان". اما التركمان فهم بدورهم لا يكنون العواطف الطيبة للاوزبك، ويعتبرونهم "لصوصاً وخونة باعوا كرامتهم للنظام السوفياتي". وفي كازاخستان حيث نسبة السكان الروس تعادل تقريباً نسبة السكان الاصليين، عبر لي فلاديمير جليزنوف المسؤول عن العلاقات بين وزارة التربية والبرلمان الكازاخي عن تفاؤله ازاء مستقبل العلاقات العرقية في كازاخستان. ويقول جليزنوف انه استناداً الى الدراسات التي قام بها الاكاديمي رادلوف، توجد في كازاخستان جذور ومعطيات يقوم عليها الاستقرار غير موجودة في جمهورية اخرى. فحسب رأيه ان الكازاخيين كانوا من الرعاة الرحل، يهتمون بقطعانهم، ولم يكونوا من التجار او المزارعين مثل الاوزبك او الطاجيك. فالكازاخي هو راع متنقل، علاقته مع السهوب والجبال والفضاء، وليس له أية علاقة بالآخرين. وأي غريب يمر في "عول" مضارب لكازاخ يستقبل كضيف مكرم، لأنه وسيلة الاتصال بالعالم الخارجي. وبرأيه انه اذا كانت هناك بعض التظاهرات ذات الطابع القومي، فهذا طبيعي الآن لأن كازاخستان تمر بمرحلة انتقالية، ومن المنطقي ان يكون هناك وعي قومي حاد. لكن حياة الرحل توقفت منذ سنين الآن، والسهوب حولت الى اراض زراعية، والرعاة الكازاخ صاروا مزارعين مستقرين، هؤلاء الذين لم يفهموا في البداية اهداف السوفيات، ولم يروا فيهم سوى شعب يعيش من دون قطعان غنم ومن دون خيل. لقد كافح المثقفون المحليون خلال العشرينات السياسة التي تبنتها السلطات السوفياتية ازاء القوميات، مبينين ان التحرر الوطني للشعوب المستعمرة يكوّن بحدّ ذاته انجازاً ثورياً. اما بالنسبة الى مسألة الحدود، فقد كان من المفترض ان يحدد السوفيات ارضاً لكل قومية، وان تراعى لدى تقسيم الاراضي الحدود الاثنية والقومية. لكن هذا لم يكن ممكناً دائماً بسبب التداخل بين الشعوب في بعض المناطق. وتم تجاوز هذا المبدأ اساساً عن طريق رسم الحدود بشكل يحول دون الوحدة القومية. وجاءت مسألة اللغات المحلية لتضيف الى مسألة القوميات تعقيدات اخرى. فمنذ نهاية العشرينات فرضت كتابة اللغات بالابجدية اللاتينية ثم عادت وفرضت بالابجدية الروسية. عام 1938 اصدرت السلطات السوفياتية قراراً يفرض تعميم تعليم الروسية في المدارس. مع ذلك شجعت تطور الثقافات الوطنية لاعتبارها مرحلة في طريق الانصهار في ثقافة اشتراكية واحدة شكلاً ومضموناً عندما "تنتصر البروليتاريا في العالم". أما مبدأ المساواة بين شعوب الاتحاد فقد جعل السلطة تسمح للعديد من الاقليات، وحتى الجماعات القبلية الصغيرة، باعتماد لغة وطنية مكتوبة. غير ان هذا حال دون تكوين جماعة ثقافية في القوقاز مثلاً وحوض الفولغا وآسيا الوسطى. فعلى سبيل المثال سمح السوفيات لجمهورية داغستان باعتماد اكثر من عشر لغات رسمية، وهو ما كان له مفعول تقسيمي. ايضاً، السماح لكل من الطاجيك والكيرغيز والكاراكالباك بلغة اوقف مسيرة اندماجهم الثقافي بالاوزبك والكازاخيين. لكن هذه الاجراءات لم تنجح تماماً في نشر اللغة الروسية وتعميمها. فحتى اليوم، يتكلم اهل آسيا الوسطى بلغتهم الام، وهم قادرون تماماً على التفاهم بين بعضهم بعضاً. واللغة الروسية غير محبوبة. ففي مدينة خيفا باوزبكستان حيث كنت ازور ضريح شاعر وبطل هو بهلفان محمود، التقيت مجموعة من الزوار الآتين من فرغانة. اردت التحدث معهم قليلاً، لكن ذلك كان شبه مستحيل لأن مترجمتي الروسية لا تتقن التركية الاوزبكية. وهؤلاء الشيوخ لا يفقهون الروسية. واعترف لي مسؤول سابق في الحزب الشيوعي في طشقند ان زوجته لا تتقن الروسية، وانها تتكلم الاوزبكية فقط. وفي اوزبكستان عندما كنت اخرج وحدي من دون رفقة مترجم، كان الناس يسألونني اولاً عن قدرتي على تكلم التركية، وفي المقام الثاني الفارسية. تتبعها محاولات بالتفاهم بالاشارات وبعض الكلمات الانكليزية والاوزبكية التي تعلمتها. وفي حال اليأس من عدم التفاهم، كان السؤال عن معرفتي للروسية يأتي كحل اخير. وتشير الاحصاءات الى انه عام 1979 كان 3،52 في المئة من الكازاخ و3،49 في المئة من الاوزبك يتقنون الروسية. اما بين الطاجيك فالنسبة هي 6،29 في المئة وهي بين الكيرغيز 4،29 في المئة، وبين التركمان 4،25 في المئة فقط. عام 1936 منح دستور الاتحاد السوفياتي الحق لجميع المواطنين السوفيات بالحصول على "تربية باللغة الام"، لكن دستور 1977 لم يعترف لهم الا "بامكانية الانتساب الى مدرسة تطبق التعليم باللغة الام". ولا يعطي هذا الدستور الحق باعتماد اللغة الام لغة رسمية. لذا كان في الجمهوريات مدارس وجامعات روسية، ومدارس وجامعات محلية. وقال لي لطف الله كبيروف ان الذي يود الحصول على مستوى جيد من التعليم يلتحق بالمؤسسات التربوية الروسية. فالمدارس الاوزبكية غير جيدة، والمستوى فيها متدن ولا تعلم شيئاً. واوضح قائلاً ان المدارس الروسية وكذلك الجامعات تنقل العلم والثقافة الاوروبيين، اما المدارس المحلية، فهي بعيدة عن هذا المجال، والذي يتخرج منها لا يكون مؤهلاً بشكل جيد وليس لشهادته اية قيمة. والجدير بالذكر ان تركيا افتتحت منذ فترة قصيرة مدرسة ابتدائية وثانوية في طشقند، ويتهافت افراد طبقة معينة من "النخبة" الثقافية والاجتماعية لتسجيل اولادهم ونقلهم من مدارسهم القديمة الى هذه المدرسة التركية. وهم مستعدون لدفع الثمن اللازم من اجل ذلك، اي انهم مستعدون لدفع الرشوة لموظفي الادارة التربوية في اوزبكستان كي يتم نقل الاولاد. كما ان تركيا ابدت استعدادها لاستقبال عشرة آلاف طالب من آسيا الوسطى كي يتلقوا دراساتهم العليا في جامعاتها، شرط ان يكونوا من السكان المحليين، اي اوزبك وتركمان وكازاخ وكيرغيز، بسبب القرابة الشديدة بين لغاتهم الام واللغة التركية. ووفقاً لما قاله لي جليزنوف، فقد عبرت الحكومة الكازاخية عن حاجتها لاشخاص مؤهلين في كل ما يتعلق بالتجارة وادارة الاعمال والاقتصاد والقوانين الدولية. فجاء العرض التركي باستقبال طلاب في كليات الشريعة وفي كليات الزراعة والفيزياء والكيمياء. فرفض وزير التربية الكازاخي رفضاً قاطعاً، لأن كازاخستان ليست بحاجة على الصعيد الزراعي والعلمي الى دروس من تركيا. وتمت تسوية الامر بعد ان اعادت تركيا النظر في اللوائح التي قدمتها. حتى الايام الاخيرة من الحكم السوفياتي، كانت السلطة المركزية فخورة بكونها رفعت اكثر من خمسين لهجة محلية الى رتبة لغة ادبية، واعطت مجموعة من الاثنيات لغة خاصة بها، لم تكن موجودة بشكلها المكتوب قبل الثورة، وانها رفعت حوالى ستين جماعة اثنية الى "رتبة" قوميات. ان تطور الثقافة ومحو الامية كان وسيلة للشيوعيين لنشر افكارهم. لكن محو الامية تحول تدريجياً الى وسيلة لفرض الطابع الروسي اكثر مما كان وسيلة لتطوير الثقافات الوطنية. واهتم النظام السوفياتي بتنظيم هجرات داخل الاتحاد كي يؤمن وجود الروس في كل مكان، وكي يمتزج غير الروس الذين يعملون في روسيا بالثقافة القائمة. لكن في هذا المجال ايضاً، لم تنجح محاولات النظام السوفياتي في فرض ثقافة واحدة، وبقيت الثقافة المحلية في آسيا الوسطى حية ومعيوشة، لا سيما في اوزبكستان. رفض الاحياء الحديثة مدينة طشقند عاصمة اوزبكستان هي المثال على هذا الازدواج او الانشقاق الثقافي والحضاري، باحيائها القديمة التي تشرف عليها من بعيد احياء الابنية الحديثة الضخمة، كما عرفت بها الهندسة السوفياتية. شوارع طشقند القديمة ضيقة، ملتوية، اشبه بمجموعة سراديب، تلتف حول بيوت طينية قديمة، تطل غرفها على حديقة داخلية. عند المغرب، تغسل عتبات البيوت وتتجمع المياه بركاً في حفر الطرقات. يخرج المسنون بثيابهم التقليدية ويجلسون على العتبات. لقد تمسكوا بهذه البيوت ورفضوا الانتقال الى الاحياء الحديثة. فمن يريد ان يكون هناك اشخاص يتحركون ويعيشون فوق رأسه؟ هنا، يعيشون قرب الارض، ارضهم، مع اولادهم واولاد اولادهم الذين يلعبون في الشوارع. ولا بأس اذا كانت احياؤهم بسيطة، فضحكات الاولاد المتصاعدة شمس تدفئ قلوبهم. لا بأس اذا لم تكن هناك عناية بهذه الاحياء، فهي صامدة ومستمرة بفعل التحام السكان ببعضهم بعضاً. فمن يريد ان يرحل الى هذه الاحياء الجديدة، حيث الابنية الضخمة والجادات الواسعة التي تشعرك بوحشة وغربة لا تشعر بها في الصحراء. هنا الازقة الضيقة تعج بالناس وتنبض حياة. السيد ظافر حكيموف هو وزير الثقافة الجديد في اوزبكستان، وقد شرح لنا انه "في بداية القرن العشرين كانت حياة سكان هذه المنطقة تندرج في اطار الاسلام. فالاقتصاد والثقافة والفلسفة كانت منبثقة من الفكر الاسلامي. لذا يجب الانتباه الى ان الموروث الثقافي هو نتيجة الموروث الروحي او ينبع منه". ويقول ظافر حكيموف انه كان هناك خطان في الثقافة عبر تاريخ آسيا الوسطى: "الخط الاول هو تطور الثقافة الفكرية غير المنبثقة من الدين، وثانياً الثقافة المنبثقة مباشرة من الاسلام وفكره. فالعامل الاسلامي قوي في آسيا الوسطى، ولم يؤثر على الهندسة المعمارية وحدها". من الخارج ومن بعيد، يبدو لنا ان هناك صحوة دينية قوية في جمهوريات آسيا الوسطى وهذا حقيقي. فالمواطن ينعم بحرية ممارسة دينه بعد سنوات من الاضطهاد. ثم ان الحياة والثقافة كما قال لنا وزير الثقافة مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً بالفكر الاسلامي. ويقول ظافر حكيموف "ان هذه الصحوة طبيعية الآن، خصوصاً بعد الانفصال عن الاتحاد السوفياتي والاستقلال. فالوعي الوطني والقومي سيتصاعد، لأن الناس يحاولون ان يفهموا انفسهم، ان يعرفوا من هم وان يتموضعوا في مكان ما. ويوضح ظافر حكيموف انه لا يمكن اعتبار ذلك عصبية قومية، بل هو نابع من الاستقلال. وهذا حصل في كل المجتمعات، وليس فقط في الجمهوريات السوفياتية. ولا تستطيع الشعوب ان تتطور بشكل صحيح اذا كانت منغلقة على ذاتها. لذلك نحاول الآن بناء مجتمع عادل منفتح على العالم. نود بناء مجتمع ديموقراطي حيث يحق لأي شخص ممارسة ايمانه الديني. ويجب ان نأخذ في الاعتبار ان للدين الاسلامي تأثيراً كبيراً على حياة الشعب. وحتى الآن، لدينا علاقات طيبة مع ادارة المسلمين في طشقند. فنحن بعيدون جداً عن الصراع التقليدي بين الدين والدولة". واذا كان الانغلاق لعب دوراً في المحافظة على الموروث الثقافي، الا ان هذا الموروث مهدد الآن بالزوال تدريجياً، خصوصاً جيل الشباب الذي يتطلع الى كل ما في الخارج اجمالاً، والى الغرب خصوصاً. ففي العام الماضي مثلاً، جاءت مجموعة من الموسيقيين الاوزبك لتقديم حفلة في باريس في مسرح "الشاتليه". وحاول شابان عازفان بيع آلاتهما الوترية لشراء آلات الكترونية. ويبدو ان هذه "الموضة" باتت منتشرة. ومن اجل الحؤول دون ذلك قامت وزارة الثقافة في اوزبكستان بوضع برنامج خاص اسمه "ميراث" يهتم اولاً بانقاذ التقاليد الثقافية العريقة التي لا تزال حية، وثانياً باعادة احياء التقاليد والفنون التي اندثرت. ويحلم وزير الثقافة في ان يتم تطوير الفنون التقليدية الاوزبكية وثقافات القوميات الاخرى الموجودة في اوزبكستان، كي تغني الثقافات بعضها بعضاً وكي يفتح الحوار في ما بينها. يقول وزير الثقافة ظافر حكيموف ان "الحكومة لا تنوي رفض كل ما اعطي وبني من قبل على الصعيد الثقافي". لكن في الواقع كما تبين لي لاحقاً، وكما اكد لي بعض المهتمين بالموضوع، الامر يختلف تماماً. فلم تكن الثقافة التي قدمها الروس، كالباليه والموسيقى السمفونية والمسرح الغربي تلقى اهتمام الناس في اوزبكستان، ولم تكن لها شعبية، كذلك بالنسبة الى الفنون التشكيلية الحديثة. وفي تلك الاثناء، كانت الثقافة والفنون التقليدية تتطور بين عامة الشعب من دون ان تعيرها السلطات اي اهتمام. وكمثال آخر قررت حكومات جمهوريات آسيا الوسطى ان تكون اللغة الام، او لغة السكان الاصليين الذين يشكلون الاكثرية، اي الاوزبكي والطاجيكي والكيرغيزي والتركماني والكازاخي، ان تكون هذه هي اللغات الرسمية في جمهورياتها، وعلى الآخرين ان يتعلموا لغة الاكثرية في البلد الذي يسكنون فيه... او ان يرحلوا، كما يحصل في طاجيكستان اليوم. واذا كان هذا القرار لا يمثل مشكلة في اوزبكستان وتركمنستان وطاجيكستان وكيرغيزيا حيث يشكل السكان الاصليون الاكثرية الساحقة، الا انه اثار بعض المشكلات في كازاخستان، حيث لا يتجاوز عدد الكازاخيين 42 في المئة من السكان، بينما يشكل الروس حوالى 40 في المئة. ويقول فلاديمير جليزنوف انه خلال الجلسات الاخيرة للبرلمان الكازاخي، اقترح سبعون نائباً روسياً ان يكون هناك لغة رسمية اخرى الى جانب الكازاخي، وهي اللغة الروسية. ويقول جليزنوف انه لا يوافق على هذا الاقتراح لأن هناك الكثير من الكازاخيين، حسب قوله، الذين لايتقنون لغتهم الام. فاذا تبنت الحكومة لغتين رسميتين، قضي على الكازاخ ولغتهم. اذ ان اللغة الروسية هي المتداولة في الدوائر الرسمية وفي العلاقات الخارجية، كما ان الروسية هي اللغة الرسمية على الارض، وتسمى الآن "لغة الاتصالات الدولية". فحتى في الوزارات، هناك صعوبات كبرى كي يتم الاستعانة باللغة الكازاخية على مستوى رفيع مثل اللغة الروسية. وقليلون هم الذين يتقنون اللغة الكازاخية على مستوى أدبي رفيع.