على رغم مرور خمسة عشر عاماً على انهيار الاتحاد السوفياتي، واستقلال الدول التي كانت تحت عباءته، لا تزال تلك الدول تتعثر في خطاها البديلة، بعد الحقبة السوفياتية الطويلة، التي شكلت معظم تاريخها في العصر الحديث. فموسكو تراجعت من عاصمة للاتحاد السوفياتي الى عاصمه لروسيا الاتحادية، وعملية اعادة ترتيب بيتها الداخلي في السنوات الاولى بعد انهيار الشيوعية، جعلتها تتخلى عن الاستراتيجية التي التزمت بها على مدى سبعين عاماً، إضافة الى أنها لم تعد تلعب ذلك الدور الحيوي في حياة الكثير من دول العالم. بعد غياب الاتحاد السوفياتي واستقلال جمهوريات آسيا الوسطى كازاخستان واوزبكستان وقيرغيزستان وتركمانستان وطاجيكستان، بدأت الصين تواجه مشكلة حركة تركستان الشرقية، والخطر الشديد الذي شكله الايغور الموجودون في جمهوريات آسيا الوسطى الناطقة باللغة التركية يقدر عددهم فيها بقرابه 700 الف ايغوري. وكانت حكومات آسيا الوسطى أوقفت بضغط من الصين نشاط الايغور في دولها. ومن أجل مكافحة الحركة الانفصالية والتطرف، وبمبادرة من بكين في العام 1996 تشكلت منظمة"خمسة شنغهاي"الصينوروسيا وطاجيكستان وقيرغيزستان وكازاخستان الساعية الى تعزيز الثقة والأمن في مناطقها الحدودية. وبانضمام اوزبكستان الى المنظمة في عام 2001 تغير وضع المنظمة واسمها، وأعلن قادة الدول الست تشكيل"منظمة شنغهاي للتعاون". ومن المؤكد ان الصين تريد استخدام منظمه شنغهاي لإحكام سيطرتها الاقتصادية على منطقة آسيا الوسطى، كما ان من الواضح ان دول آسيا الوسطى مهتمة في تنامي النفوذ الصيني في المنطقة، بهدف الموازنة بين هذا الدور وبين روسياوالولاياتالمتحدة اللاعبين العملاقين الآخرين في المنطقة. الشيء الأبرز في قيام منظمة شنغهاي، تمثل في التقارب الصيني الروسي، الذي يفسر بمحاولة بكينوموسكو الاهتمام بمصالحهما في آسيا الوسطى، بعد إهمالهما ذلك عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وما استتبع ذلك من انقسام الدول المستقلة في تحالفات اقتصادية منفردة تغيب تركمانستان عن المنظمات والتحالفات الاقليمية كافة، في حين يشير بعضهم الى دور"التطرف الاسلامي"و"الانفصالية"في تسريع قيام هذه المنظمة. ولكن ما يجمع عليه المراقبون هو ان أمن منطقة آسيا الوسطى واستقرارها، مرتبطان بمستوى التوافق بين قطبي المنطقة موسكو بثقلها السياسي الكبير وخلفيتها التاريخيه، وبكين العملاق الإقليمي. فلم يعد يخفى على أحد ان بعد أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001، وانطلاق الحرب الأميركية على"الإرهاب"بهدف اقتلاع"حركة طالبان"وتنظيم"القاعدة"، تحول الجوار الأفغاني الى دائرة الاهتمام الأميركي، واكتسبت آسيا الوسطى بذلك بعداً استراتيجياً، إضافة الى الاهتمام بالموارد النفطية وخطوط إمدادها. فالمنطقة كانت الساحة التي قررت الولاياتالمتحدة استخدامها في حربها على ما سمته الإرهاب الدولي في أفغانستان، والمتمثل بتنظيم"القاعدة"و"حركة طالبان". وبما ان آسيا الوسطى الجوار القريب لأفغانستان، ويجب عدم إغفال حقيقة ان أكثر من 40 في المئة من عرقيات أفغانستان ذات أصول مرتبطة بجمهوريات آسيا الوسطى، طاجيك، اوزبك، تركمان، وقيرغيز، فإن العلاقة بين هذه الدول وأفغانستان معقدة وما من باحث في الشأن الأفغاني الا تطرق وسيتطرق الى شؤون آسيا الوسطى. وها هو الاهتمام الدولي يعود الى قلب آسيا الوسطى، وعلى اثر مجموعة من الأحداث والانفجارات، والثورات الملونة، لا سيما بعد أحداث مدينة انديجان الدموية في اوزبكستان المرشحة للتجدد والتفاقم، علماً ان طشقند عاصمة اوزبكستان هي المقر الدائم للهيئة الإقليمية لمكافحة الإرهاب المنبثقة من منظمة شنغهاي. وأحداث مدينة انديجان الاوزبكية ليست الأولى من نوعها في هذه الجمهورية ذهب ضحيتها حوالى 1200 شخص بحسب مصادر مستقلة، وحوالي 176 شخصاً بحسب المصادر الرسمية الاوزبكستانية، وما حصل من استخدام للقوه في قمع المتظاهرين أو الإرهابيين كما تصفهم السلطة الرسمية، وربطهم بالتيار الإسلامي المتطرف والإرهابي، هو أمر غير مفاجئ لأي متابع في آسيا الوسطى، إذ لطالما كانت اوزبكستان محط انتقادات منظمات دولية لانتهاكات تتعلق بحقوق الإنسان. ومن الواضح ان الرئيس الاوزبكستاني اسلام كريموف، يدرك تماماً ان ما حدث في قيرغيزستان من تكرار لسيناريو جورجيا وأوكرانيا وانتهى بالإطاحة بنظام اسكار اكاييف، بدايته كانت كتلك التي جرت في انديجان، ومع ذلك يبقى المشهد في اوزبكستان مختلفاً كثيراً عن قيرغيزستان، إذ لطالما شهدت هذه الدولة اضطرابات وصدامات، كما انه لا يمكننا النظر الى أحداث انديجان، الا في إطارها الإقليمي الدولي، من جهة، وفي إطار داخلي اوزبكي بحت من جهة ثانية. ولعل اللافت في ما شهدته قيرغيزستان وطاجيكستان وما تشهده اوزبكستان ان معظم الاحتجاجات بدأت من مناطق وادي فرغانة، وهي المنطقة نفسها التي تتخذها معظم الحركات الإسلامية التي تتهم بالتطرف، والناشطة في آسيا الوسطى نقطة انطلاق لها، مثل حركة اوزبكستان الاسلامية، وحزب التحرير الإسلامي، ومنظمة الإكرامية الحديثة العهد. علماً ان واشنطن تحذر مراراً وتكراراً رعاياها من السفر الى مناطق وادي فرغانة الذي تتقاسم أراضيه ثلاث دول في آسيا الوسطى هي اوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، وتعتبر ان هذا الوادي هو وادي التطرف الإسلامي، وهذا ما يفسر غياب مثل هذه الأحداث عن أراضي كازاخستان وتركمانستان بعدهما عن هذا الوادي. وإذا كانت الحقبة السوفياتية تعتبر الأكثر هدوءاً في مناطق فرغانة، فان السنوات الأخيرة التي تلت الغياب السوفياتي كانت حافلة بالأحداث. ففي 16 شباط فبراير 1999 انفجرت ست سيارات مفخخة في العاصمة الأوزبكية طشقند بجانب مبنى الحكومة والقصر الرئاسي والمصرف المركزي، وذهب ضحيتها 28 شخصاً، واتهمت الحكومة وقتها"حركة اوزبكستان الإسلامية"بالوقوف وراء تلك التفجيرات. وفي 2 شباط 2000 وعشية الانتخابات البرلمانية دوت ثلاثة انفجارات وسط العاصمة الطاجيكية دوشانبيه. وفي الأول من تشرين الأول اكتوبر عام 2000، وقع انفجار في مبنى اللجنة المسيحية الكورية في طاجيكستان وأسفر عن مقتل 25 شخصاً. وفي 8 أيلول 2001 وقع انفجار في الجزء الغربي من العاصمة الطاجيكية حيث كان رئيس طاجيكستان إمام علي رحمانوف خلال الاحتفال بعيد الاستقلال. انفجارات كثيرة وعمليات ترهيب وإطلاق نار شهدتها المنطقة في تلك السنوات وقد دأبت الحكومة الاوزبكية على اتهام الأحزاب الإسلامية بالوقوف وراء العنف، لا سيما"حزب التحرير الإسلامي"ذو الجذور العربية، وهو الأمر الذي ينفيه الحزب من مقره في لندن. فماذا عن هذه الحركات الإسلامية في آسيا الوسطى؟ بدأت حركة اوزبكستان الإسلامية بالتشكل مع بداية التسعينات على قاعدة مجموعات إسلامية في وادي فرغانة واتهمت الحكومة الحركة بمجموعة من الأعمال الإرهابية، من بينها محاولة اغتيال كريموف في العام 1999. وحتى نهاية التسعينات كان معظم أعضاء حركة اوزبكستان الإسلامية ومقاتليها يتخذون من جبال طاجيكستان مقراً لهم، وبعد العام 1999 تحول مقرها الى قندهار في أفغانستان، ومع بداية العام 2002 أعلنت القوات الأميركية مقتل زعيمي الحركة جمعة نامنغان وطاهر يولداشوف، واعتبر ذلك نهاية لهذه الحركة. ولكن إعلان القوات الباكستانية عن جرح أهم مؤسسي الحركة طاهر يولداشوف أثناء عملياتها في اقليم وزيرستان الباكستاني قبل عامين، أكد من جديد ان الحركة ما زالت نشطة ولها وجود، إضافة الى ظهور يولداشوف في تسجيل مصور توعد فيه ثلاثة رؤساء من دول آسيا الوسطى بالاغتيال اوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان"لجرائمهم بحق المسلمين"بحسب التسجيل الذي تناقلته وسائل إعلام محلية وروسية، كما انه لا يوجد أي دليل وثائقي او تصويري يؤكد مقتل الزعيم الآخر للحركة جمعة نامنغان. أما"منظمة الإكرامية"فقد تشكلت في العام 1996 على يد اكرم يولداشوف العضو السابق في"حزب التحرير الإسلامي"في مدينة انديجان، والذي كتب في أحد خطاباته تحت عنوان"الطريق الى الإيمان الحقيقي"ان"حزب التحرير"يتناسب مع واقع الدول العربية وهو لا يتماشى مع ظروف دول آسيا الوسطى. ويعتبر مراقبون ان السبب المباشر في اندلاع أحداث انديجان قبل عام ونصف العام، هو محاكمة 23 شخصاً من"منظمة الإكرامية"بتهمة التطرف. إذ سارع في حينه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الى اتهام أطراف خارجية بالوقوف وراء تلك الأحداث وربطها بحركة طالبان. ولطالما تكررت الاتهامات لكازاخستان بإيواء الإرهاب تارة، وبوجود معسكرات لتدريب الإرهابيين على أراضيها تارة أخرى، ولا سيما من جانب جارتها اوزبكستان، وهو ما تنفيه كازاخستان. وآخر الاتهامات كانت من منظمة شنغهاي حول وجود تحويلات مصرفية في مصارف كازاخستان تعود لمنظمات إرهابية، إضافة الى وجود منشآت على أراضي كازاخستان تعود ملكيتها لبن لادن. وكان رد المسؤولين الكازاخستانيين على ذلك، بأنه إذا كان لدى زملائهم في هيئة مكافحة الإرهاب الإقليمية لمنظمة شنغهاي معلومات كهذه فكازاخستان ستكون مهتمة بمعرفة ذلك. وأحبطت السلطات الأمنية الكازاخستانية أعمالاً إرهابية محتملة عدة ضد اوزبكستان عبر تفكيكها مجموعات إرهابية يشتبه بارتباطها بتنظيم"القاعدة". وتضم المجموعات مواطنين من كازاخستان اوزبكستان بحوزتهم متفجرات وأشرطة تسجيلية باللغة العربية تحض على العنف، بحسب مصادر في الأمن الكازاخستاني. وسبق ان لفت الرئيس الاوزبكستاني اسلام كريموف دول الجوار كازاخستان وقيرغيزستان الى إحكام المراقبة على عمل المنظمات الاسلامية في أراضيهم، محذراً من إمكان تحول أراضي هذه الدول الى قواعد لتحضير المتطرفين لتنفيذ هجمات إرهابية على اوزبكستان. وأشار كريموف الى ان بعض الهيئات الإسلامية التعليمية تقوم بجمع المواطنين في كازاخستان وقيرغيزستان وإرسالهم للدراسة في باكستان. وهنا لا بد من الإشارة الى مصادقة البرلمان الكازاخستاني على قانون مكافحة الإرهاب الموقع بين رابطة الدول المستقلة، وتبع ذلك إغلاق"الجامعة الكويتية - الكازاخية"الممولة من"جمعية الإصلاح الاجتماعي"الكويتية، بتهمة انها كانت تحض على الإرهاب، علماً بأن هذه الجامعة كانت تعمل وفق قوانين وزارة التعليم العالي الكازاخستاني منذ اكثر من خمس سنوات، ويدرس فيها نحو خمسمئة طالب، وتخرج منها العشرات، ضمن فروع الصحافة والتاريخ واللغة العربية والعلوم الإنسانية الأخرى بحسب ما ذكره بعض القائمين عليها. وأدرجت"جمعية الإصلاح الاجتماعي"الكويتية أيضاً ضمن قائمة المنظمات المحظورة في كازاخستان إضافة الى تنظيمات عدة أخرى "حركة طالبان"الأفغانية و"جماعة مجاهدي آسيا الوسطى"و"الاخوان المسلمين"و"عسكر طيبة"و"عصبة الأنصار"و"القاعدة"و"حزب تركستان الشرقية الإسلامي"و"حزب العمال الكردستاني"و"حركة اوزبكستان الإسلامية". وكانت اوزبكستان سبقت كازاخستان في إجراءات من هذا النوع حيال الهيئات الإسلامية الخيرية ومؤسساتها التعليمية ذات التمويل العربي مثل جمعية الوقف ومؤسسة الحرمين والمؤسسة الإبراهيمية ولجنة مسلمي آسيا وجمعية قطر الخيرية. أما السلطات الأمنية القيرغيزية، وقبل الإطاحة بنظام رئيسها السابق اسكار اكاييف، فلم تنف محاولات بعض الحركات الإسلامية المتطرفة والمحظورة لإيصال مؤيديها الى مناصب مهمة ومراكز صنع القرار في الدولة. وحينها قامت السلطات الأمنية بحملة اعتقالات كانت الأولى من نوعها في قيرغيزستان منذ انفراط عقد الاتحاد السوفياتي، وطاولت الكثير من كبار موظفي وزارات الداخلية والخارجية والعدل. وبحسب المتحدث باسم جهاز الأمن القومي شينار اسانوف فان العشرات اعتقلوا بتهم التجسس لمصلحة دولة أجنبية، والتعاون مع منظمات إرهابية متطرفة. وصرح رئيس الأمن القومي القيرغيزستاني بأن تفجير القاعدة الأميركية في قيرغيزستان هو حلم أعضاء الحركات الإسلامية المتطرفة المنتشرة في آسيا الوسطى. وقبل أيام اتهم رئيس قسم مكافحة الجريمة المنظمة في وزارة الداخلية الطاجيكية محمد سيد جوراكولوف، السلطات الأوزبكية باختلاق تهديدات"إرهابية"إقليمية لتدويل صراعها مع الجماعات المسلحة في أوزبكستان. وأكد أن الحركة الإسلامية في أوزبكستان، التي تسعى لإسقاط حكومة الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف، لا تفرض أي تهديد على طاجيكستان أو قيرغيزستان. وهذا الاتهام يعيد الى الاذهان ان اوزبكستان اكثر دول المنطقة استفادة من حرب واشنطن على الإرهاب، وفي هذا السياق تفهم تأكيدات رئيسها كريموف في اكثر من مناسبة على ضرورة التعاون على محاربة الإرهاب في شكله الجديد، ما يستلزم حملة دولية. وتتهم جميع دول آسيا الوسطى"حركة اوزبكستان الإسلامية"و"حزب التحرير الإسلامي"، وحزب تركستان الشرقية الإسلامي بمحاولات قلب أنظمة الحكم وإنشاء دولة الخلافة الإسلامية في آسيا الوسطى، على غرار دولة طالبان. وإذا كان هناك ثمة من يرى رابطاً بين الهيئات الإسلامية التعليمية منها والخيرية ذات التمويل العربي، وبين ازدياد مؤيدي تنظيم"القاعدة"، وحزب التحرير الإسلامي في آسيا الوسطى، فإن هناك فريقاً كبيراً يرى ان ذلك لا يأتي إلا في سياق حملة أميركية وروسية وصينية أحياناً، لمكافحة ما تعتبره إرهاباً، ومحاولات السلطات في هذه الدول الاستفادة من هذه الحملة، لقمع معارضيها، وإبعاد حمى الثورات السلمية الملونة عنها، والخيط بات جداً رفيعاً بين كل ذلك.