يبدو أن سؤال الهوية ما زال قائماً، ويحتاج إلى إجابات كثيرة. ذلك ما باحت به أحداث العوامية الأخيرة، فبات حتمياً اليوم السؤال عن رحلة الذهاب إلى منطقة الوطنية الآمنة والجامعة، بعد الفراغ تماماً من الإجابة على السؤال الأول، الذي بإجابته يركل الجميع مشكلات التعصب والتأجيج الطائفي وراءهم ظهرياً. دائماً ما يقال إن حل المشكلة يبدأ بالاعتراف بها، غير أن الحصول على هذا الاعتراف عزيز في كل الأحوال الماضية. لم يقتنع المتشددون (من كل الأطراف) بأنهم متشددون، ولا يوافق كثيرون على أن مشكلة التعصب الديني هي أس الإرهاب والتطرف. وفي نظر المحايدين، أمضى الحوار الوطني عقداً من الزمن اختلطت فيها العمائم ب«الغتر»، وابتسم الجميع للكاميرات، وبدا أن نار الافتراق والتعصب صارت برداً وسلاماً، حتى إذا جاء وقت الأزمة نكص كل فريقٍ على عقبيه، فارتد رموز المتحاورين أعداءً يضرب بعضهم رقاب بعض، بما تيسر من أسلحة السباب واللمز والتخوين. ولم يلبث إعلان وزارة الداخلية الأخير حول الأحداث في العوامية، حتى انعقدت مجالس التحليل والنقاش أرضياً وفضائياً وإلكترونياً حول المشكلة، لا بالنظر إلى كونها مشكلةً أمنية أخذت أبعاداً أخرى، بل للإغراق في مسألة التنابز الطائفي أولاً وثانياً وأخيراً من الطرفين. لا حل في إزالة الشحن الطائفي وقتل العصبية المذهبية إلا بالعودة إلى الحاضنة الوطنية كما يقول الإعلامي ميرزا الخويلدي، فمنها يمكن معالجة جميع المشكلات بانفتاحٍ تام وشفافيةٍ كاملة، تلك العودة من شأنها أن تسد الطريق على الآخرين في التدخل بالشأن الداخلي، وتسد الذرائع أمام أي وسيلةٍ تُمزق الصف الوطني الواحد. التقسيمات التي تقسم المواطنين إلى أكثرية أو أقلية، أو غالبٍ ومغلوب لا تجد ترحيباً لدى الخويلدي، إذ انه يرى أنها لا تفيد بشيء، خصوصاً في أوقات أزماتٍ مفتوحة من الخارج إلى الداخل. ويسجل ميرزا اعتراضه على أخطاء يرى أن الشيعة والسنة ارتكبوها في لحظة عصبية مقيتة، «لا يجوز تبرير أي اعتداء على الأمن أياً كان مصدره، وفي الوقت نفسه لا يجوز أيضاً أن يجري استنفار عام بصيغة مذهبية، فيجنح كل صاحب منبر إلى تحميل وزر الخطأ مجموعة كاملة، وبالتالي تتحول من مسألة جناية ينبغي أن يتعامل معها القانون بصرامة إلى مسألة طائفتين كل منهما يتمترس خلف طائفته، من أخطأ فالقانون سيحاسبه». ويتهم الخويلدي معظم مثقفي السنة والشيعة في السعودية بعدم القيام بمسؤوليتهم الكاملة في حفظ اللحمة الوطنية، «الأغلبية أدوا دوراً سلبياً في رمي الآخرين بالخيانة والعمالة، لأنهم لم ينساقوا إلى هوية جامعة». تلك المسألة ليست مشكلةً داخلية فحسب، فحادثة الأقباط قبل أيام كرست لدى ميرزا الاعتقاد بأن دول الشرق الأوسط ومثقفيها أخفقوا في صياغة هوية وطنية جامعة تسمو على التحزب والعصبية والطائفية. الحل «مناصحة شيعية»! وفي إشارةٍ إلى أن مشكلة التطرف ضربت بأطنابها محلياً، يرى الإعلامي عبدالعزيز قاسم أن من الخطأ رمي عموم طائفة الشيعة بخطيئة شبانٍ صغار تلقفوا أفكار حسن نصر الله وبعض المتطرفين من الشيعة، بذات القدر الذي كان يمارسه المفتونون بفكر أسامة بن لادن. وفي حديث المعالجة، يقترح قاسم من باب الركون إلى العقل والحكمة ترك رموز الشيعة المعتدلين يقومون بواجبهم في احتواء هؤلاء الشبان ومناصحتهم، «فالحل الأمني لا يكفي، بل لا بد أن تترافق معه معالجة للتطرف كما برنامج النصيحة بالنسبة للفكر الإرهابي». ويخلص قاسم إلى أن المواطنة حق للجميع إلا من أبى، «نحن لم نتجاوز بعد المربع الأول وهو مربع المواطنة، وهي مشكلة كبيرة أثارها علماؤنا في المملكة، إذ ان هناك من يتلقون مرجعياتهم من الخارج، وأنا طرحت فكرة إيجاد مرجعية شيعية داخل السعودية. لا بد أن نطرح ملف الشيعة والمواطنة عبر الحوار الوطني، بمستوى عال من الشفافية والصراحة والوصول إلى لغة تفاهم وطني بيننا وبين إخوتنا هؤلاء». التقريب وهاجس الأقلية ذلك المشوار الطويل الذي قطعه علماء وطلبة علم من الشيعة والسنة ذهاباً وعودة إلى مجالس التقريب بين الطائفتين فشل بحسب القاسم، ومكمن فشله كما يقول هو أن الخطوات التي مشاها حسن الصفار ومن معه خطوات بسيطة لم تفلح في إحراز أي تقدم، والسبب أن المعارضين من الجهتين وهم كثر أوقفوا المسيرة البطيئة أصلاً، «فهناك متشددون يرون أن حسن الصفار مميع لمذهبهم، ويقابله في التيار السلفي من يرون أن الصفار يمارس التقية والمداراة ولن تنطلي حيله علينا». بعض المتدينين يجنحون إلى تفسير الصراع السني – الشيعي من منظورٍ فلسفي، فأستاذ أصول الفقه في جامعة أم القرى الدكتور محمد السعيدي يؤكد أن الأمر مرتبط بنفسية الأقليات، التي دائماً ما تكون حساسة، وتشعر بتقصير الأكثرية تجاهها واضطهادهم لها، «خصوصاً إذا كانت الحكومة تمثل هذه الأكثرية أو هي من داخلها، وهذا الشعور لا تنفك عنه أية أقلية من أقليات العالم، ومن ضمنها الأقلية الشيعية، ولن نجد أي سبيل من إزالة الشعور عنها، لأنه شعور طبيعي غير منفصل عن نفسية الأقليات». السعيدي توصل إلى علاج داء ذلك الشعور، وما ينبثق عنه من مشكلاتٍ (على حد قوله)، وهو قطع الحجج المادية التي يتحججون بها عن طريق منحهم حقوقهم إذا تحقق أن لديهم نقصاً في الحقوق، ومساواتهم بالمواطنين في الداخل والأطراف، وقطع الصلة بين متطرفيهم وبين الخارج، وهو أمر يرى أنه مرتهن بقوة الجهات التنفيذية. خطب الجمعة أما الباحث والمفكر الشيعي محمد الشيوخ، فيرى أن اقتلاع جذور الطائفية والعصبية يبدأ في إنهاء المظالم التي طرحت منذ زمن، وإخماد نار أشعلتها خطب الجمعة وزادها لهيباً كتاب ومعلقون رموا طائفتهم بتهمة الولاء للخارج بذنب مجموعةٍ صغيرة، «هناك عقلاء ووجهاء في الشيعة لديهم منطق حكيم في القضايا العامة والخاصة استمعوا إليهم، ثم احكموا من دون تضخيم تصرفات أفراد». يقول: «هناك تضخيم لمسألة ولاء الشيعة للخارج. الباكستانيون لديهم ارتباط بمؤسسة الإفتاء في السعودية، ولم يستطع أحد أن يشكك في ولائهم. إنها علاقة روحية دينية لا تمس بالوطن. هناك متشددون دينيون مناوئون للشيعة يصورون هذه العلاقة على أنها سياسية. ذلك أمر لو انتهى البعض من الحديث عنه، لزال كثير من الشقاق». وحين يتفق الفريقان على حلقة «المواطنة» الجامعة، تبقى الإشكالات الأخرى غير عصية على المعالجة في نظرهم، خصوصاً عندما يسود تواطؤ على محاسبة الخارج عن حياض الاجماع بحسبهم، أياً كان إمامه: حسن نصر الله أو أسامة بن لادن.