نشرت صحيفة"الحياة"شكاوى بعض النساء المثقفات من منعهن حضور المحاضرات التي ألقيت في معرض الرياض للكتاب، بل قالت إحدى الأكاديميات"إن المشرفين من الذكور على المحاضرات قدموا لهن أفضل طعام، ثم أرسلوهن إلى بيوتهن، وهذا يُعد استهزاءً بالمرأة وعقلها... ومن هنا يتبادر تساؤل منطقي: هل الخطاب الشرعي بوصفه تكاليف أحكام شرعية تمت إناطته بالرجل من دون المرأة، وفق بنية خطاب تنحي المرأة جراءة عن الاضطلاع بمهام تلقيه بحسبان الرجل؟ النص القرآني هو وحده المخاطب ب"يا عبادي"و"يا أيها الناس"،"يا أيها الذين آمنوا"، ومثل ذلك في النص النبوي، في الأثناء التي تبقى فيها المرأة غائبة تكليفاً؟ وهل المرأة - وهي تأتي تبعاً للرجل في إنابته عنها بالخطاب التكليفي - ستنأى بنفسها عن المحاسبة في الدنيا والآخرة، إذ سيضطلع الرجل من دون غيره بتلقي المحاسبة بالإنابة عن المرأة؟ وإذ يتقرر ما سلف، من حيث كون المرأة مخاطبة ومكلفة، تتوكد، حينئذ أهلية تعيين المرأة، ليس بتلقي الخطاب وحسب، وإنما بفهمه، وفقهه، والاشتغال بمعرفة التكاليف، وتبينها تصنيفاً، وإفتاءً، وبثاً للعلم، وإشاعة له، إذ إن من مقتضيات فرضية التلقي الفقه للمتلقي والفهم عن الشارع... وثمة سؤال مشروع: من أول من اشتغل على الوحي خبر السماء في فقهه والتعامل معه دركاً، خصوصاً أنه أمر لم يألفه محمد"صلى الله عليه وسلم"؟ ألم تكن أم المؤمنين خديجة، رضي الله عنها، التي أدركت أن ثمة رسالة عظيمة ألقيت على كاهل زوجها، فثبتته وهدأت من روعه؟ ويتضح منهجها العقلي في قصة تلقي الرسول"صلى الله عليه وسلم"الوحي بالاستدلالات العلمية المنطقية والأقيسة العقلية التي رتبت بها حديثها، والذي بدأته بقولها:"كلا والله لا يخزيك الله أبداً"، فقد أقسمت على أن الله تعالى لن يخزيه، وأكدت ذلك بلفظ التأييد، واستدلت بعقلها الرصين على ما أقسمت عليه بأمر استقرائي، فوصفته بمكارم الأخلاق، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، لقد كانت كلماتها ضرباً من الفراسة والإلهام، إذ خففت عنه ما شعر به من آثار المفاجآت المهيبة عند نزول الوحي. ومن دلائل عمق وعيها انه عندما أخبرها"صلى الله عليه وسلم"بهذا الخبر العظيم، لم تقف صامتة، ولم يذهب بها التفكير مذاهبه، ولم ترجع قوله على ما كان مشهوراً في زمانها من الحديث عن الجن والشياطين والكهنة والسحرة، لقد كانت قوية في إجابتها وفي استنتاجها، ما يدل على أنها كانت قوية النفس، راجحة العقل، عميقة التفكير، سليمة المنطق. كانت زوجات رسول الله"صلى الله عليه وسلم"، والنساء في عهد الصحابة والتابعين، خير من قرأ القرآن الكريم وروى الحديث الشريف، فكان منهن المحدثات، والمعلمات، والمفتيات، والفقيهات، فقد ذكر أبوعبيد القاسم بن سلام الهروي القراء من أصحاب النبي فعد من المهاجرين عائشة وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهن. أفرد الترمذي كتاباً سماه"كتاب القراءات"، وساق فيه روايات كثيرة روتها عائشة وأم سلمة،"رضوان الله عليهما"، توضح أوجهاً لقراءات القرآن في سورتي هود والكهف وغيرهما، ما يدل على عناية أمهات المؤمنين"رضوان الله عليهن"بحفظ كتاب الله، ونقله كما سمعته على تنوع قراءاته. عن عروة بن الزبير قال"ما رأيت أحداً أعلم بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحلال، ولا بحرام، ولا بفقه، ولا بطب، ولا بشعر، ولا بحديث العرب، ولا بنسب، من عائشة،"رضي الله عنها"، وعن أبي موسى الأشعري"رضي الله عنه"قال"ما أشكل علينا، أصحاب رسول الله حديث قط، فسألنا عائشة عنه، إلا وجدنا عندها منه علماً". روى القاسم بن محمد قال"كانت عائشة"رضي الله عنها"قد اشتغلت بالفتوى زمن أبي بكر وعمر وعثمان إلى أن ماتت"... ويكفي في ذلك العدد الذي بلغته رواياتها"رضي الله عنها"التي وصلت إلى 2210 أحاديث، وهذا أبو هريرة"رضي الله عنه"وهو من دعا له رسول الله بالحفظ وعدم النسيان، وروى للأمة عدداً عظيماً من الأحاديث ما سبق لمثله قط، يعمد إلى حجرة عائشة"رضي الله عنها"، لمراجعة محفوظاته من الحديث النبوي، لتصحح له ما يكون قد أخطأ فيه أو نسيه. فقد روى مسلم في صحيحه عن عروة قال"كان أبو هريرة"رضي الله عنه"يحدث ويقول اسمعي يا ربة الحجرة الحديث"، ووصل عدد الرواة عنها إلى مئة من صحابة ونساء وأموال، وأم المؤمنين أم سلمة"رضي الله عنها"، بلغ عدد مروياتها 378 حديثاً، وأم حبيبة "رضي الله عنها"روت 65 حديثاً، وحفصة"رضي الله عنها"60 حديثاً، قال ابن القيم:"وأم سلمة"رضي الله عنها"واحدة ممن يرجع إليها بالفتيا في عهد الصحابة، وهي من المتوسطين في ما روى عنهم من الفتيا". ما ورد أن أم ورقة بنت عبدالله بن نوفل"رضي الله عنها"جمعت القرآن الكريم كله، فقد أخرج أبو داود داود"أن النبي"صلى الله عليه وسلم"لما غزا بدراً قالت قلت له"يا رسول الله، أئذن لي في الغزو معك، أمرض مرضاكم، لعل الله يرزقني شهادة"، قال لها"صلى الله عليه وسلم":"قري في بيتك فإن الله يرزقك الشهادة"، فكانت تسمى الشهيدة... وكانت قد قرأت القرآن، فاستأذنت النبي"صلى الله عليه وسلم"أن تتخذ في دارها مؤذناً، فأذن لها، وكانت قد دبرت غلاماً لها وجارية، فقاما بالليل فغمياها بقطيفة لها حتى ماتت وذهبا... فأصبح عمر فقام في الناس فقال"من كان عنده علم من أمر هذين فليجيء بهما، فأمر بهما فصلبا، وفي رواية"كان رسول الله"صلى الله عليه وسلم"يزورها في بيتها وجعل لها مؤذناً يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها". قال أبو رافع الصائغ:"كنت إذا ذكرت امرأة فقيهة في المدينة ذكرت زينب بنت أبي سلمة"، وعائشة الباعونية لها باع طويل في الإفتاء". * باحث في الشؤون الإسلامية.