وراثة الحقوق والمواقع الدولية لا تعني بالضرورة أن روسيا الاتحادية أخذت عن الاتحاد السوفياتي شيئاً من الإيديولوجيا. وحده المتحامل ينكر أداء السياسة الخارجية السوفياتية دوراً مهما في طي الحقبة الاستعمارية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وتقديم خدمات ما زالت ماثلة للعيان في السد العالي في مصر وتسليح الجيوش العربية بل خوض القتال مباشرة إلى جانب الجندي العربي في حرب الاستنزاف أواخر الستينات، وعشرات الآلاف من حملة الشهادات العلمية من الجامعات السوفياتية. يضاف إلى ذلك مساندة ديبلوماسية وسياسية في المحافل الدولية، دعماً للموقف العربي في الصراع ضد اسرائيل، وفي قضايا التنمية والتحرر والتعليم. لكن هذا كله لا ينفي أن السياسات تلك صدرت عن حسابات جيو-استراتيجية تتعلق بحسابات الحرب الباردة ولعبة الشطرنج العالمية، أكثر منها من الدوافع الإيديولوجية او من «الصداقة بين الشعوب» التي كانت تعتمل في قلب قادة «الصديق الوفي»، على ما كانت تقول الدعاية السوفياتية في ذلك الحين. ولا تكفي هذه الأسطر لتقييم موضوعي للسياستين الخارجيتين السوفياتية ثم الروسية وما يتعلق منهما خصوصاً بالعالم العربي. لكن كان من اللافت أن تقف روسيا الاتحادية (والصين الشعبية) ضد تمرير مشروع قانون يدين إفراط الحكم في سورية باللجوء الى العنف ضد المحتجين السلميين. وإذا أراد المرء المضي في التفسيرات المقدمة للموقف الروسي إلى نهايتها المركنتلية المبتذلة، لقال ان ثمن «الفيتو» الروسي لا يزيد عن بضع مئات من ملايين الدولارات، هو ثمن الأسلحة التي تبيعها موسكو إلى دمشق، في وقت لا تبدو مقنعة الأحاديث عن اعتبارات ومخاوف استراتيجية تحمل الحكومة الروسية على منع انهيار نظام الرئيس بشار الأسد. وفي منأى عن الاحتفالات بالنصر «التاريخي» الروسي- السوري في مجلس الأمن- وهو في نهاية المطاف نصر على المواطنين السوريين وعلى الحس البسيط بالعدالة والانصاف أمام آلة قمع عاتية - يمكن القول أن الفيتو الروسي ضد مشروع القرار المندد بممارسات الحكم في سورية، هو الوجه الآخر للفيتو الأميركي ضد طلب فلسطين الانضمام الى الأممالمتحدة كعضو كامل العضوية. المأسوي في الخطوتين الروسية والأميركية، ان الجانبين اللذين طالما أعلنا رفض الهيمنة والسياسة الأحادية القطب (روسيا) وكمدافعين عن حقوق الشعوب وعن الحريات (الولاياتالمتحدة)، استخدما آخر ما بحوزتهما من أسلحة ديبلوماسية لإرغام الشعبين السوري والفلسطيني على البقاء في حالتي الاضطهاد والاحتلال. والرسالة التي يمكن فهمها من الموقفين الروسي والاميركي في مجلس الأمن، متعددة المستويات والأوجه، منها أن القوتين الدوليتين (رغم التفاوت في الأهمية والوزن بينهما)، لا تباليان حقاً بطموحات الشعوب وتوقها الى الحرية، لا قبل «الربيع العربي» ولا بعده. وتقول أن حساباتهما الاستراتيجية المنتمية الى نمط متهالك من فهم العالم وتقاسم النفوذ فيه، ترمي إلى ابقاء شعوب وحكومات العالم الثالث ومنه العالم العربي، قيد التبعية للقوى الكبرى، من جهة، وإلى اللجوء إلى القوة والعنف، باعتبارهما اللغة الوحيدة التي يفهمها عالم مستذئب وضار. ومرة جديدة، تضيع روسيا والصين والولاياتالمتحدة فرصة للاصغاء الى صوت الانسان العربي «الصغير» والعادي والمحطم، في سورية وفلسطين، لترميه بنظرة متعالية وباردة. من يلام إذا حقق الحكّام ما يريدون من سفك متبادل للدماء؟