يمكن تلخيص موقف موسكو الحالي من الوضع المأسوي في سورية، واستشفاف مآلات هذا الموقف المستقبلية، من خلال قرارين اثنين اتخذتهما العاصمة الروسية منذ بدء الثورة السنة الماضية. يقضي القرار الأول بدعم دمشق عسكرياً وديبلوماسياً إلى أقصى الحدود ضد القوى الثائرة على النظام، وهو موقف أثبتته في الأممالمتحدة ومجلس الأمن، وفي تسليم النظام إمدادات أسلحة قالت إنَّه اتفق عليها سابقاً. أَمَّا القرار الثاني فكان إعلان موسكو تكراراً أنها لن تُسلم، أو تبيع الجيش السوري منظومة الدفاع الصاروخي أس. أس. 300 الحديثة المضادة للطائرات وقبلها أسلحة أخرى متطورة. هذا مع العلم أن إسرائيل تمتلك أسطولاً كبيراً من الطائرات الحربية الأكثر تطوراً في العالم إضافة إلى أحدث بطاريات صواريخ باتريوت المضادة للطائرات وللصواريخ زودتها بها واشنطن. ولنا أن نشير إلى أن المضادات السورية لم تستطع التصدي للطائرات الإسرائيلية التي أغارت على موقع الكِبر الذي اعتبرته إسرائيل والولاياتالمتحدة منشأة نووية قيد البناء في منطقة دير الزور في أيلول (سبتمبر) 2007. معنى هذين القرارين واضح: روسيا ستساعد النظام في الداخل، لكنها لن تذهب إلى مساعدة الوطن في حال تعرض «التراب السوري» لاعتداء إسرائيلي، على رغم أنّ ميزان القوى العسكري بين البلاد العربية مجتمعة وإسرائيل هو، وباعتراف معظم الخبراء العسكريين، يميل ميلاً حاسماً لمصلحة هذه الأخيرة. هنا بالذات يكمن كعب أخيل السياسة الروسية الحالية التي تتبنى الاستمرارية وتسير إلى حد كبير على خطى السياسة السوفياتية الماضية في ما يتعلق بالشرق العربي على الأقل. فموسكو كانت، ولا تزال، تساعد بعض الدول العربية عسكرياً بقدر محدود لا يُمكنّ هذه الدول من الوقوف أمام التحدي الإسرائيلي - الغربي، وإن كان يُمكّن هذه الأنظمة من استخدام جيوشها كقوة مسلحة أضافية لضبط الأمن الداخلي. ولو أنّ موسكو كانت راغبة، أو قادرة فعلاً على تحدي هيمنة حلف الأطلسي وإسرائيل على الشرق العربي، لكانت زودت سورية وغيرها من الدول العربية التي كانت قريبة سياسياً منها بنفس نوعية الأسلحة التي تزود بها واشنطن وبون تل أبيب، ومنها ست غواصات ذات قدرة على حمل صواريخ نووية قدمتها لها ألمانيا بثلث سعرها الإجمالي على سبيل الهدية وسط صمت دولي شامل (وعربي لا يُنكر)، لم تقطعه سوى قصيدة الروائي الألماني غونتر غراس الشهر الماضي. (كأن السيدة ميركل، المستشارة الألمانية القوية، تريد أن تُنهي، رغم دفع بلادها تعويضات مالية لإسرائيل منذ الستينات، عقدة ذنب المحرقة الهتلرية بتمكين الصهيونية من وسائل إشعال محرقة أخرى ضد العرب إذا دعت الحاجة!)، هذا من دون التوقف عند حقيقة أنَّ دول الغرب كلها، وروسيا والصين، غضت النظر عن مساعدة الغرب الأوروبي والأميركي لإسرائيل في امتلاك نحو 200 قنبلة ذرية؛ بينما تُصرّ القوى نفسها على إفشال أية محاولة للحصول على قدرة نووية لأية دولة أخرى في المنطقة. سبب تأييد حلف الأطلسي المطلق لإسرائيل هو نفسه السبب الذي كان ولا يزال يقف وراء التأييد الروسي المحدود، أو الملجوم للعواصم العربية التي انحازت إلى صفه في وقت من الأوقات، وهو أن عقيدة كيسنجر المجاهرة بضرورة «منع تكوين قوة إقليمية تستطيع أن تجمع المنطقة حولها» (راجع مقالنا «استعماران لا استعمار واحد...» في «الحياة»، 16 نيسان/ أبريل 2012، ص. 9) هي عقيدة مشتركة أميركية - أوروبية - روسية، وإن كانت منطوقة في واشنطن ولندن وبرلين ومكتومة في موسكو، تتبناها هذه العواصم جميعها لأسباب مختلفة: واشنطنوالعواصم الأوروبية تسعى لأن تظل المنطقة تحت سيطرتها ضمن إستراتيجيتها العالمية؛ أما موسكو فتخاف أن تكون لوحدة المنطقة تداعيات إقليمية على أمنها الداخلي في المناطق الإسلامية التي تحيط بحزام الدول والشعوب الإسلامية التي تقع إلى الجنوب منها، وهي تبالغ في تصوّر أن أية حركة تحرّر عربي، أو إسلامي ستكون موجهة، وإن من دون قصد، ضدها لأنها قد تتصل بالجمهوريات الروسية الخمس التي تطوقها. وقد يفسر هذا دعوة موسكودمشق قبل أسبوع للقضاء على «عصابات الإرهاب» المتمثل بالمعارضة الناشطة منذ أكثر من عام في سورية، وكأنها تنتمي إلى منطقة الشيشان. قد يبدو في هذا التحليل شيء من الشطط، ولكن على القارئ أن يتذكر أنه بينما ساعدت الولاياتالمتحدة حركة «المجاهدين» و «طالبان» ضد الاتحاد السوفياتي بعد تدخله العسكري في أفغانستان عام 1979، فإن موسكو لم تستغل وترد التحية لواشنطن بعد انقلاب الأوضاع وتساعد «طالبان» ضد القوات الأميركية التي غزت البلد نفسه في 2001، بل استمرت في محاربة «طالبان» وتقديم العون اللوجيستي للقوات الأميركية وحلفائها. بالطبع، سيقول البعض إنّ روسيا الاتحادية هي غير روسيا السوفياتية. وهذا صحيح، لكنه لا يغير كثيراً في المصالح القومية للدول مهما تغيّر نظامها السياسي (كان ديغول يسخر من تعبير «الاتحاد السوفياتي» قائلاً إن لا يمكن الاستعاضة عن «روسيا» بأية صفة أخرى). في كل الأحوال، يبقى بعض التناقضات التي لا مفر منها في علاقات الدول بعضها مع بعض، وفي السياسات التي ترسمها كل دولة لنفسها. فهناك، مثلاً، من يستبشر بعودة الحرب الباردة بين موسكووواشنطن على خلفية اختلاف مواقفهما السياسية تجاه الأزمة السورية. وهذا احتمال قد يصيب أو يطيش. إلا أن علينا عدم نسيان أنَّ العودة إلى مثل تلك المرحلة لن تفيد العرب؛ لأن موسكو أثبتت أثناءها أنّها متوجسة منهم ومن مشاريع بعضهم الوحدوية قدر توجسها من النفوذ الأميركي في الشرق العربي. (أصدر «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت دراسات عدة عن مواقف دول غرب أوروبا من الوحدة العربية، لكن من المفيد إصدار دراسة مماثلة عن موقف موسكو من الموضوع نفسه!) وهي، لذلك ظلت مترددة في تأييد الموقف العربي إلى المستوى الموازي للتأييد الأميركي - الأوروبي الغربي لإسرائيل إلى أن استدارت مصر، أكبر دولة عربية تأثيراً في محيطها، نحو الغرب على رغم أن سلاحها كان يأتي من الشرق. العلاقات العربية المعاصرة مع موسكو تبلورت خلال خمسينات القرن الماضي على خلفية الصدام السياسي الذي حصل بين بعض البلاد العربية (مصر وسورية) وعواصم أوروبا الغربيةوالولاياتالمتحدة في ما يتعلق بتأمين هذه الدول العربية لأمنها الوطني تجاه إسرائيل. فجاء كسر احتكار السلاح الغربي في المنطقة أولاً، وتبعه تعاون عربي - روسي/ سوفياتي في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية. وكانت الأولوية عموماً لعلاقات روسيا السوفياتية مع مصر، التي كانت تقود السياسة الإقليمية القريبة من موسكو منذ منتصف الخمسينات. غير أنّ شيئاً غير قليل من تباعد الأهداف كان يشوب العلاقة. فحيث إنّ الطرفين كانا معترفين، ولو ضمناً، بأرجحية واشنطن في المنطقة فقد استخدما علاقاتهما بعضهما ببعض كورقتي مساومة: استخدمت موسكو أصدقاءها العرب كورقة ضغط في الحرب الباردة ضد الولاياتالمتحدة، واستخدم بعض العرب علاقتهم بموسكو للضغط على واشنطن علّها ترى ضرورة تغيير سياستها كي تتخذ موقفاً متوازناً مما كان يُعرف بالصراع العربي - الإسرائيلي. ولربما كان الخوف من وحدة الشرق العربي هو الذي جعل موسكو تصبح ثاني دولة في العالم تعترف بالكيان الصهيوني في 1948 وتجعلها، بعد معارضتها للوحدة المصرية - السورية بالتحالف مع الأحزاب الشيوعية العربية في 1958، أول دولة تعترف رسمياً بالانفصال في 1961. كما أنَّ هزيمة 1967 وما بعدها، أحدثت شرخاً إضافياً في تلك العلاقات على أساس اتهام القيادات العربية – مع الاعتراف الكامل بتقصيرها السياسي والعسكري الذاتي وعدم مهنيتها - لموسكو بأنها لا تزودها بالأسلحة النوعية الكفيلة بإقامة توازن عسكري استراتيجي بينها وبين إسرائيل. فقد ظلت العلاقات الأميركية - الإسرائيلية العسكرية متقدمة بأشواط عن العلاقات الروسية / السوفياتية - العربية. كانت موسكو السوفياتية تريد الشرق العربي- أو بعضه - منطقة نفوذ مغلقة على مصالحها، في الوقت نفسه الذي كانت لا ترغب أو لا تستطيع أن تعطي العرب دعماً كاملاً في قضيتهم القومية في فلسطين، أو حتى تمكينهم من إقامة توازن استراتيجي مع إسرائيل يمنع الكيان الصهيوني، الذي يتلقى دعماً كاملاً من الغرب الأميركي والأوروبي، من فرض شروطه السياسية والاقتصادية على الشرق العربي برمته. ولا شك في أن القيادات العربية تتحمل جزءاً وازناً من المسؤولية في هذا الشأن، إلا أنَّ الأطراف الجدية منها لم تظفر بمعاملة أفضل من روسيا وحلفائها. كما لا بد من الأخذ في الاعتبار الفارق الكبير بين إسرائيل التي تنتمي، لأسباب لا مجال للخوض فيها هنا، إلى العالم الأول وتتحالف مصلحياً معه بينما تنتمي معظم الدول العربية المحيطة بها إلى العالم الثالث. لذلك، كان على الدول العربية، لو كانت جدية في محاولة الانتصار في الصراع تبني أساليب غير نظامية أو خليطاً من الاساليب النظامية وغير النظامية. أما الاعتماد على الأساليب النظامية وحدها فأنه حدد، ضمن موازين القوى العالمية السائدة، هوية المنتصر والمهزوم منذ البداية.( لم تستطع المقاومة الفلسطينية تحقيق الكثير خلال 1967-1970 بسبب غياب تحالف جدي مع أحد البلاد العربية وأحد الأطراف الدولية). وظل نمط الشد والجذب قائماً حتى خلال فترات الحاجة العربية الأكثر ضرورة لموسكو بعد حزيران (يونيو) 1967. وللأنصاف، علينا أن نذكر أن موسكو بعثت إلى مصر، بعد إلحاح شديد من الرئيس عبد الناصر، بنحو سبعة الآف خبير عسكري لتشغيل بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات في الفترة الأخيرة من حرب الاستنزاف، إلا أن هذه الخطوة كانت بالنسبة إليها محض دفاعية وبهدف وقف غارات الطيران الإسرائيلي على العمق المصري من دون أن تحمل تلك الخطوة العسكرية المهمة أبعادا أخرى لأنها ركزت على «تجميد» الوضع العسكري على الجبهة المصرية بعد أن مال بشدة لمصلحة إسرائيل بعد غاراتها الجوية المكثفة المذكورة. لذلك، وبعد نحو ثلاث سنوات من محاولات الرئيس عبدالناصر غير الموفقة لإقناع القيادة السوفياتية بدعمه الدعم الكافي سياسياً وعسكرياً لتغيير موازين القوى على الأرض المصرية والعربية التي أُضيفت إلى غزوات إسرائيل بعد 1967، اضطر الرئيس المصري - وبغير معارضة عملية من موسكو وعلى طاولة محادثات كان يجريها في العاصمة السوفياتية - إلى اتخاذ خطوة لها تفسيرات متعددة منها أنها مثلت، في ما مثلت، إعلان يأسه من التحالف مع الاتحاد السوفياتي فقام، وقبل السادات، وإن بصيغة ديبلوماسية ناعمة وبشكل يؤمن له خط رجعة سياسي إذا لم تف واشنطن بتعهداتها، قبل أسابيع من وفاته في 1970، بالانحياز لحل أميركي عندما أعلن جهاراً نهاراً قبوله مبادرة روجز، وزير الخارجية الأميركي وقتها، لحل ما كان يسمى حينها، مشكلة الشرق الأوسط: مشروع أميركي يحمل اسم وتوقيع رئيس الديبلوماسية الأميركية لا دور لموسكو فيه لإنهاء «حالة اللاسلم واللاحرب» التي كان يفضلها الكرملين! بعد ذلك بأقل من سنتين قام السادات بخطوة دراماتيكية علنية عنوانها «طرد الخبراء السوفيات من مصر». ومنذ تلك اللحظة بدأت القاهرة السير على درب التحالف مع واشنطن وبخطى متسارعة حتى وصلنا إلى الوضع العربي المؤسف الحالي. يتكرر المشهد اليوم، وإن بديكورات مختلفة، بين دمشقوروسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفياتي: ما دامت دمشق تقبل بعدم الإصرار على الحصول على دعم سياسي وأسلحة تهدد التفوق (أكرر «التفوق» وليس «التوازن») الإسرائيلي - الأميركي في المنطقة، وتعمل بشكل لا يورط موسكو مع أميركا، فإنَّ لها كل الدعم في الداخل. وهذا موقف مشترك بين جميع الأطراف الدولية: لتعترف أو ليتصرف نظام دمشق على أساس أنه لن يحاول تغيير موازين القوى في المنطقة، ولو أظهر صورة إعلامية معاكسة، وله، في المقابل، حرية الحركة داخل حدوده يدعمه في ذلك تراجع القوى الإقليمية المرتبطة بقوى دولية أكبر منه عن التهديد بالتدخل لإنهاء الوضع الداخلي لغير مصلحة النظام. ومن هنا، فإن موقف واشنطن العملي من الوضع السوري لا يختلف كثيراً عن الموقف السياسي الصريح لموسكو ولو قامت العاصمة الاميركية بالاختباء وراء الموقف الروسي لتبرير عدم قيامها بخطوة فعالة في الموضوع السوري أو السماح لإطراف إقليمية قريبة منها بالقيام بذلك حتى الآن (حتى الآن على الأقل)، والاكتفاء بإصدار بيانات استنكار خفيفة الوطأة من أسبوع الى آخر. ... ثم نأتي إلى سؤال مركزي يتجاوز ما يجري اليوم: ما قيمة تحالف حركات التغيير العربية مع الاتحاد السوفياتي سابقاً، ومع روسيا الاتحادية لاحقاً؟ نعم، إن الدول والمجتمعات العربية متخلفة في أكثر المجالات، وهي تنتمي إلى «العالم الثالث» بلا شك، لكن ألم يصب بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد كارتر، كبد الحقيقة عندما وصف روسيا بأنها «أكثر دول العالم الثالث تطوراً»؟ ليست روسيا الدولة الصناعية المتطورة التي نستطيع أن نشتري منها البضائع الصناعية المدنية ذات الكفاءة العالية. فمن منا دخل بيتاً عربياً رأى فيه سيارة أو براداً أو أي جهاز منزلي مصنوع في روسيا؟ ومن منا حصل على جهاز الكتروني روسي من تلك الأجهزة التي أصبحت إحدى الصناعات العادية في أرجاء العالم المختلفة؟ كذلك، ليست روسيا بلداً متطوراً في إنتاج البضائع الزراعية المصنعة، فإنتاجها الزراعي الذي يمكن تصديره يقتصر على الحبوب عندما يكون الموسم جيداً. هذا ليس تشفياً بموسكو لكنه وصف لوضع قائم. فالاقتصاد الروسي، مثله مثل الاقتصادات العربية، اقتصاد ريعي إلى حد كبير يعتمد على تصدير المواد الخام وأهمها النفط والغاز إلى أوروبا (وأحياناً القمح في المواسم الجيدة). والإنتاج الوحيد الذي تتميز به روسيا عن غيرها من دول العالم الثالث هو الإنتاج العسكري المتطور. فإذا كانت موسكو تغدق الأسلحة الخفيفة والمتوسطة على الأنظمة العربية التي تستخدم هذه الأسلحة لأغراض القهر الداخلي، وتبخل على العرب بالسلاح القادر على مواجهة العدو الخارجي، فهذا يعني أنها تبخل بكل شيء. وهذا يعني أيضاً أن روسيا الرأسمالية، مثلها مثل روسيا الاشتراكية قبلها، تبخل بكل شيء، لأنها خائفة من الغرب وإسرائيل، وخائفة من استقلالية العرب، وخائفة من جيرانها في الجمهوريات الإسلامية. * مؤرخ لبناني