في علاقة روسيا بالمنطقة العربية تاريخياً، كثيراً ما اختلط جماد الإيديولوجيا بدينامية المصالح. خاضت روسيا القيصرية ثلاث حروب ضد الدولة العثمانية بين 1677 و1917 من أجل السيطرة على القوقاز والبحر الأسود، أملاً في الوصول من خلاله عبر المضائق التركية إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط. وذهبت روسيا إلى ديبلوماسية سرية مع كل من لندن وباريس من أجل اقتسام النفوذ في المنطقة في ما بينها، وهو أمر لم يكتب له النجاح بسبب اندلاع الثورة البلشفية عام 1917، التي كشف على أثرها قائد الثورة فلاديمير لينين وثيقة «سايكس بيكو» الشهيرة التي كانت روسيا ستصبح طرفها الثالث لولا قيام تلك الثورة. لينين قارب الشأنين الاسلامي والعربي برسالة شهيرة أكد فيها «أن للعرب وكل المسلمين الحق في أن يكونوا سادة على أوطانهم وأن يقرروا مصائرهم بالطريقة التي يرغبونها»، قبل أن يعتبر جوزيف ستالين «أن حركات التحرر الوطني في العالم العربي لا تملك الوعي التقدمي الذي يمكن موسكو أن تعوّل عليه». لكن الحرب الباردة أسقطت نظرية ستالين المتشائمة، وفرضت على موسكو تنشيط سياستها في الشرق الأوسط. وللحقيقة لا يمكن الحديث قبل انهيار الاتحاد السوفياتي عن تنافس بين موسكووواشنطن. فالتفوق الغربي – الأميركي كان واضحاً لا يحتاج الى نقاش، حتى ان ديبلوماسياً سوفياتياً ذكر في تلك الحقبة ان الانظمة العربية التي تعتبر قريبة من موسكو، لا تفعل ذلك إلا في سعي لخطب ود واشنطن. وعلى هذا الاساس لم يكن الاتحاد السوفياتي يصف حلفه مع العرب بالاستراتيجي، على عكس تلك الدول التي كانت تروّج في ادبياتها وإعلامها لاستراتيجية العلاقة مع الاتحاد السوفياتي. كان واضحاً، في الماضي، ان الماكينة العسكرية السوفياتية تحركت من دون تردد لدعم الانظمة الحليفة استراتيجياً (بولونيا، تشيكوسلوفاكيا، كوبا... الخ)، وكان واضحاً، في الحاضر، ان الماكينة العسكرية الروسية تحركت للدفاع عن مصالح روسيا الاستراتيجية في اوكرانيا. لكن تلك الماكينة لم تتحرك، في الماضي، لدعم العرب في حروبهم ضد اسرائيل (على عكس ما فعلته الولاياتالمتحدة مع حليفتها «الاستراتيجية» اسرائيل). ولم تتحرك، في الحاضر، لدعم الانظمة العربية إزاء مهدديها في العراق وليبيا، وربما، سورية. على هذا الاساس يجب فهم الموقف الروسي المتعلق بالشرق الأوسط. موسكو تفهم أنها تلعب في الميدان الأميركي، وأن جُلّ ما ترومه هو تحسين شروط الوجود بحده الادنى في المنطقة. وروسيا تعي انها لم تستطع ان تمنع، على رغم الرفض والتحفظ والحرد... الخ، العالم الغربي بقيادة الولاياتالمتحدة من تنفيذ اجندته، ابتداء من افغانستان، مروراً بالعراق، وانتهاء بليبيا، وأن اسكات روسيا كان يتم، دائماً، بدفن الرأس في الرمال، او بجوائز الترضية في احسن الاحوال. لكن روسيا، التي بات حجمها مكشوفاً في الاقتصاد العالمي مقارنة بحجم الاقتصادين الاوروبي والاميركي (حتى في ازمته)، والتي لا تضاهي قوتها العسكرية تلك الغربية – الاطلسية – الاميركية، تعاني اضافة الى ذلك من ركاكة نظامها السياسي، والذي ظهر جلياً في التشكيك بالانتخابات الاخيرة وما رافقها من تظاهرات معترضة. لكن روسيا هذه ما زالت عاجزة عن القبول بموقعها المتراجع (عن ذلك في الحقبة السوفياتية)، وتطمح دائماً إلى الإيحاء بعظمتها التاريخية، وبإلزامية شراكتها في تقرير مصير العالم (على الأقل عبر امتلاك حق الفيتو في مجلس الأمن من بين أدوات أخرى). على أن «الربيع العربي» لم يكن حدثاً سعيداً بالنسبة الى روسيا. فعلى رغم يسارية روسيا التاريخية (كوريثة للاتحاد السوفياتي)، فإن ثورات الشارع العربي أربكت الديبلوماسية الروسية في شكل هزيل، بحيث جاء الخطاب الروسي متعثراً مرتبكاً، لا سيما في حالتي ليبيا اولاً وسورية أخيراً. ومع ان هذا الارتباك اصاب عواصم الغرب ايضا (الارتباك الفرنسي في تونس، والارتباك الاميركي في مصر مثلاً)، إلا ان تلك العواصم سرعان ما بدلت بلياقة لافتة خطاب الارتباك بخطاب واضح يقف بجانب تلك الثورات، وذهبت بالوسائل القصوى لمساندة تلك الثورات (ليبيا مثالاً). خسرت روسيا رهانها على ليبيا القذافي، وخسرت في الوقت عينه ليبيا ما بعد القذافي. وهي في هذا الإطار تحاول جاهدة الحفاظ على مصالحها في سورية وعلى إطلالتها الوحيدة على مياه الشرق الأوسط من خلال ميناء طرطوس شمال سورية. لكن الأمر لا يتعلق بقاعدة وميناء وحليف، بل ينسف استراتيجية كاملة في سياق جهد المنكافة الروسية للولايات المتحدة، والمتأسس على قاعدة متعددة الأطراف تقع في قلبها سورية وتمتد أطرافها الى دول «الممانعة» وتياراتها في المنطقة من افغانستان الى شواطئ المتوسط. وروسيا في هذا السياق تشهد يومياً ترهل هذه القاعدة وتفككها، بغض النظر عن تصلب الخطب وتصاعد لهجات تلك الاطراف وتوترها. على ان روسيا تستنتج «انزلاق» الربيع العربي نحو نظم يسيطر عليها الاسلام السياسي (الإخواني والسلفي). وما انتخابات تونس ومصر، وتطور الامور في اليمن وسورية وليبيا، إلا تأكيد لمخاوف روسيا تلك. وإذا ما استطاعت البراغماتية الغربية – الأميركية التصالح مع هذا الاسلام السياسي «الحاكم»، فإن روسيا تخشى من تداعيات ذلك على الكتلة المسلمة داخل حدود الاتحاد الروسي، لا سيما في أقاليم روسيا الداخلية مثل الشيشان وداغستان وأنغوشيا وغيرها، كما تخشى تداعي ذلك على الجمهوريات المسلمة المحاذية لروسيا. من حق روسيا أن تقلق من الربيع العربي، وأن تحاول الحفاظ على الحد الأدنى من بقايا نفوذها في المنطقة، لكن ادوات الحركة الروسية، وعلى رغم قدرتها على التعطيل والمشاغبة، تبقى عصية على تغيير عجلة التاريخ. ولا شك في ان روسيا تدرك ذلك قبل غيرها، وتعرف ان مناورتها تجري ضمن المساحة التي يسمح بها المجتمع الدولي، وأن حسم الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة لخياراته في شؤون تتعلق بالمنطقة، سيفرض على روسيا الالتزام باللعبة الدولية ضمن المتاح والمسموح. ورب ملاحظ ان حركة البوارج الروسية في مياه المتوسط لا تعني نزوعاً نحو المواجهة بقدر ما هي مناورة تجارية لتحسين شروط الصفقة الكبرى حين يحين موعد الحصاد. هذا الموعد ما زال، وحتى إشعار آخر، بالتوقيت الأميركي وحده. * صحافي وكاتب سياسي لبناني