الانقسام الإثني - السياسي في بلجيكا الذي أثمر دولة فيديرالية منذ سنوات طويلة، ينعكس انقساماً في وسائل الإعلام، إلى درجة الغرابة والطرافة معاً. فيما الإعلام الرسمي يساهم في ترسيخ هذا الانقسام"الوطني"، ما يثير أكثر من سجال مهني. تدخل مبنى التلفزيون البلجيكي الوطني، فيتلبس ملامحك نوع من الذهول. تتحلى بابتسامة لتحول دون انفلاتك في الضحك، ريثما تتأكد من أن ما تراه وتسمعه"نكتة"أو واقع. في مدخل مبنى التفلزيون، ممسحتا أحذية، واحدة على اليمين وأخرى على الشمال، يفصلهما خط مستقيم وممتد يرسمه تلاصق بلاط الأرضية. يخبرك الصحافي البلجيكي رودي فرانكس، وهو ابن هذا المبنى وأحد اشهر الصحافيين التلفزيونيين في البلاد، أن الممسحة على اليمين هي لأحذية الصحافيين الولونيين من ولونيا الإقليم الناطق بالفرنسية، بينما اليسرى هي لزملائه الصحافيين الفلمانيين من إقليم فلاندر الناطق بالهولندية. رودي يستخدم اليسرى ليمسح حذاءه، ويصير في قاعة استقبال التلفزيون. يشير فرانكس الى لافتة في وسط ممر طويل، يفصل المبنى الى جناحين متقابلين، ومتماثلين تماماً. في اللافتة سهم يدل يميناً الى راديو وتلفزيون بلجيكا الفرنكوفوني rtbf، وسهم آخر يدلك إلى الراديو والتلفزيون الفلماني vrt. يضحك وهو يعلق:"مصمم هذا المبنى مجنون"، معتبراً ان أكثر ما تشبهه بلجيكا هو"التيار الفني الوحيد الذي عرفته في شكل ممتاز: السوريالية"، ويقصد الفنانين البلجيكيين السورياليين وأشهرهم ماغريت. في مملكة بلجيكا الفيديرالية هناك ثقافة ناطقة بالفلمانية 6 ملايين فلماني، وأخرى ناطقة بالفرنسية 4 ملايين ولوني، الى جانب أقلية في إقليم ناطق بالألماني 70 ألف نسمة. والإعلام البلجيكي هو صورة عن دولته ومجتمعه. تنسحب هذه الصورة لتشمل أدق التفاصيل. التلفزيون الوطني ممول من مصدرين مختلفين يجعلانه يحلق بجناحين متفاوتي القوة. يشير فرانكس الى انهم يعيشون في التلفزيون الفلماني وضعاً مرتاحاً لجهة الموازنة، إذ أن التمويل من حكومة فلمانية"غنية"ومدعومة باقتصاد قوي. لكن ليس ذلك حال الحكومة الولونية التي تمول تلفزيونها الحكومة الفيديرالية تختص بالقضايا السيادية ومقرها إقليم العاصمة بروكسيل. وبسبب"أزمة في الموازنة"باعت إدارة التلفزيون الولوني أرض حديقتها لتوفير بعض المال. والنتيجة انهم"لم يكسبوا التلفزيون الولوني أموالاً إضافية لدعم موازنتهم، وخسروا حديقتهم"، يعلق فرانكس بابتسامة ساخرة، شارحاً ان الحكومة الولونية اقتطعت عوائد بيع الحديقة من موازنة تلفزيونها عندما علمت بالأمر. تعبر الممر الفاصل بين جناحي المبنى، وتصير في التلفزيون الولوني. هناك يوجد الصحافي السياسي كريستوف دبرسو الذي شارك عام 2006 في إعداد نشرة أخبار"وداعاً بلجيكا"التي بثها التلفزيون الولوني مازجاً الواقع بالخيال وضمّنها مشاهد تمثيلية، ليجيء وقعها كالقنبلة في بلجيكا. في النشرة فبركوا قصة خبرية، وقالوا إن القسم الفلماني قرر الانفصال و"الاستقلال". عرضوا من ضمن الكثير من المشاهد التمثيلية متظاهرين فلمانيين يحتلون الساحة الكبرى في بروكسيل احتفالاً، وأوردوا ان الملك البلجيكي غادر البلاد على الفور من المطار العسكري. اتصال آلاف المواطنين المذعورين، خلال النشرة، اضطر معدّيها الى وضع عبارة"ربما لن يكون ذلك ما ترونه خيالاً في المستقبل"أسفل الشاشة. النشرة أقامت الدنيا ولم تقعدها، حتى ان أحد الأحزاب الولونية رفع دعوى قضائية على إدارة التلفزيون تتهمها ب"نشر الكراهية بين مجتمعين في بلدنا". والصحافي دبرسو أوقع في العام 2007 برئيس وزراء بلاده ايف لوترمو وزير الخارجية حالياً وجعله خبراً"طريفاً"في العالم، عندما طلب منه في تقرير تلفزيوني أن يغني النشيد الوطني البلجيكي، فراح السياسي يشدو بالنشيد الوطني الفرنسي! خلال تمريرك كرة الأسئلة بين جناحي التلفزيون، تخال أنك ترى لعبة"تنس"يهواها البلجيكيون. يوافق دبرسو زميله فرانكس، على أن وجود إعلامين يتوجهان الى جمهوري بلد واحد بلغتين مختلفتين، يزيد المسافة بينهما. ودبرسو أقل يأساً، فهو يستعد لتقديم برنامج هو"الأول من نوعه في تاريخ التلفزيون البلجيكي"بالاشتراك مع زميلة فلمانية، سيحاولان فيه تعريف الجمهورين الفلماني والولوني ببعضهما بعضاً. لكن زميله فرانكس أجريت المقابلتان مع"الحياة"في شكل منفصل يسخر بالقول:"اعتقد أننا نعرف ما يجري في أفغانستان أكثر مما يجري في الجزء الآخر ولونيا". ويؤيد الصحافيان القول أن كلا الإعلامين يتعامل مع قضايا الآخر الثقافية على انها"قضايا أجنبية". يشرح فرانكس ان الصحافيين القدامى وهم يديرون التلفزيونين والسياسيين، في كلا الجانبين، أبناء جيل واحد هو"جيل الصراع الثقافي"بين ضفتي بلجيكا، ويضيف انهم"أخوة في السلاح"، ويدلل على ذلك بالقول:"عندما نغطي قضية سياسية في ولونيا عادة ما تكون مسألة وسخة مثل الفساد لنقول انهم يبددون أموالنا، وهم يركزون عندنا على المشاريع المتعثرة والنقاشات الحادة بين وزرائنا". وتعليقاً على نشرة"وداعاً بلجيكا"التي من الصعب نسيانها بالنسبة الى الطرفين، يقول الصحافي المشارك بإعدادها انها كانت محاولة تحلت بروح الفكاهة وغمزة مازحة"لتصحية"الناخبين، بناء على واقع ان ثلث البرلمان الفلماني كان آنذاك مؤيداً للانفصال. لكن فرانكس يخالف رأي زميله:"اعتقد انها النشرة كانت تسخر من الفلمانيين، فنحن كنا نلعب دور الولد السيء في القصة"المفبركة، مشيراً الى انها كانت"شجاعة"ان يقدموا تلك النشرة التي، في رأيه، دلت على مدى"خوف"الولونيين من احتمال الانفصال بعكس"ثقة"الفلمانيين بوضعهم. ربما تشير معطيات المشاهدة في بلجيكا الى قلق جمهور واسترخاء آخر، كما سبق وعلق فرانكس. تتركز مشاهدة معظم البلجيكيين على قنوات تلفزيونهم الوطني، وأكثر البرامج متابعة في القسم الفلماني هو برنامج"أسئلة ومسابقات"على القناة الأولى الذي بلغت نسبة مشاهدته 900 ألف مشاهد خلال الأسبوع الثالث من شهر آب أغسطس بحسب إحصاءات مجلة"هيمو"الفلمانية، وتلاه برنامج"سيدكوم"محلي 850 ألف مشاهد، ومن ثم نشرة أخبار السابعة مساء 675 ألف مشاهد. أما التلفزيون الولوني فأعلى نسب مشاهدة فيه حققتها نشرة أخبار السابعة والنصف مساء بين500 و555 ألف مشاهد بحسب ما قاله ل"الحياة"الناطق باسم التلفزيون الولوني برونو دوبلاندر. والى قنواتهم، يشاهد الفلمانيون القنوات الهولندية الناطقة بلغتهم ومثلهم يفعل الولونيين بمشاهدتهم القنوات الفرنسية، لكن من النادر أن يتابع أي من الجمهورين قنوات الآخر. ووضع الصحف يشير أكثر الى أحد خلفيات بعد الجمهورين، والذي تحدث عنه الصحافيان. الجرائد الفلمانية لا توزع في غير أرضها. مسؤولة التوزيع في جريدة"دو مورغن"الفلمانية استغربت سؤالها ان كانت توزع في القسم الولوني، وعلقت:"ولكن هذه جريدة فلمانية"، مشيرة الى ان الجريدة توزع 60 ألف نسخة في القسم الفلماني، وأعدادها التي تصل الى ولونيا تذهب بناء على طلب مسبق ممن يريدونها. جريدة"دو ستاندرد"الفلمانية هي الأخرى لا توزع في ولونيا من أعدادها التسعين ألفاً إلا"بناء على طلب خاص"كما تؤكد مسؤولة التوزيع فيها. لكن مسؤولة التوزيع في صحيفة"لو سوار"الولونية تقول انها توزع 15 في المئة من أرقام توزيعها 90 ألف عدد أيضاً في القسم الفلماني، وهذا ما يعزوه مراقبون الى كثرة الولونيين المقيمين في الفلاندر علق كريستوف دبرسو بأن الجرائد الناطقة بالفرنسية في بلجيكا كانت لديها سوق في فلاندر، إلا أن التوزيع تراجع الى النصف في السنوات العشر الأخيرة. ويرى رودي فراكس ان بذل جهود لتعريف جمهوري بلجيكا ببعضهما بعضاً،"على ضرورته"، هو بحكم"العبث". ويضيف:"تستطيع ان تبذل جهداً تلفزيونياً لكن أحداً لن يراك من الجمهور الآخر، وإذا ترجمت كتباً فلا أحد سيقرأك". أما دبرسو، فينوه بوجود خطوات إيجابية من ترجمة وغيرها"لم نكن نتخيل حدوثها سابقاً"، لكنه يحاذر ان يبدو من كلامه انه"متفائل"، فهو يعلق على واقع"التباعد"بالقول:"لا توجد عندي الجرأة لأقول ان بلجيكا بعد 10 سنوات ستكون موجودة". وبالنتيجة، فإن الصحافيين يضحكان بسخاء من واقع"تقسيم"مبنى التلفزيون الوطني الذي يجمعهما في بروكسيل. نشر في العدد: 16963 ت.م: 13-09-2009 ص: 31 ط: الرياض