يكفي قطع شارعين في إحدى المدن البلجيكية الكبيرة للتأكد من أن السكان هم خليط من ثقافات مختلفة وأعراق شتى، وأن مجتمعاً مهاجراً قائماً بذاته يعيش هنا. مجتمع مهاجر، والكثير من المسنين، وتفاصيل تنوع أخرى. لكن ماذا عن الصورة المنعكسة في وسائل الإعلام؟ هذا ما توقفت عنده، أخيراً، شبكة التلفزة الوطنية البلجيكية، الناطقة بالهولندية، وقدمت أطروحات أثارت جدلاً في الإعلام. فبعد بحث أجرته شبكة التلفزة «في آر تي»، وجدت أن نسبة ظهور المهاجرين في القناة الأولى لا تتجاوز 9 في المئة، فأعلنت عن خطة لتحقيق أرقام دقيقة. تريد ان يصل ظهور الوجوه «الملونة» إلى 12 في المئة على القناة الأولى، و20 في المئة على قناة المثقفين «كانفاس». الأمر لا يتوقف على عكس التنوع الثقافي، أو العرقي، فالخطة أيضاً تستهدف ألا يقل الحضور النسائي عن الثلث، وزيادة نسبة ظهور المسنين ومثليي الجنس على الشاشة الوطنية. على أثر إعلان هذه الأرقام، استطلعت وسائل الإعلام البلجيكية ردود الفعل على خطة «التنوع». وكانت طبيعة ظهور وجوه من أوساط المهاجرين على شاشات التلفزة أقرب إلى صورة كاريكاتورية. هذا ما بدا من مراجعة مجلة «هيمو» الواسعة الانتشار ومقابلاتها في هذا الشأن. نور الدين فريحي من الوجوه المهاجرة النادرة، التي يعرفها الجمهور في القسم الشمالي الفلماني، الناطق بالهولندية (6 ملايين نسمة من أصل 10 ملايين هم سكان بلجيكا). طوال عشر سنوات كان فريحي يلعب دور «مور فوزي» في السلسلة الدرامية الاجتماعية «تويس» (البيت). أجزاء السلسلة مستمرة، لكن المفارقة تكمن في ان دوره سينتهي في المسلسل في الوقت الذي تناقش «خطة التنوع». ويجسد فريحي دور مهاجر طيب ولطيف في شكل مبالغ فيه. يقول للمجلة البلجيكية انه طلب مراراً من منتجي المسلسل أن يغيّر دوره ويلعب دور مجرم «لأن المجرمين مثيرون أكثر للممثل». لكن المنتجين رفضوا الفكرة لأنهم أرادوا أن يبقى «مور فوزي» يعطي «مثالاً جيداً للمهاجرين». انطلاقاً من هذه النقطة الأخيرة، يعطي الممثل المهاجر رأيه في خطة التنوع، ويقول: «لو كان هنالك (مواطنون بلجيكيون من عائلات) مغاربة أو أتراك أكثر، فطبعاً سيمكنك أن تجعل أحدهم يلعب دور المجرم». يبدو نقاش ظهور البلجيكيين من أصول مهاجرة على الشاشة الوطنية مسألة شديدة التشابك والحساسية. فالسياسة الرسمية تحاول نبذ تعريفات من قبيل «هم ونحن» بين المواطنين الأصليين وأولئك المهاجرين. ملايين اليورو تصرف على مؤسسات الهجرة، وسياسات دمج المهاجرين لهذا الغرض. لكن الشاشة الوطنية ستساهم في تكريس «هم ونحن» إذا بقي المهاجرون غائبين عنها، على رغم أن نسبتهم ليست قليلة. فوفق إحصاءات 2008، كانت نسبة المواطنين المهاجرين 22 في المئة من سكان بلجيكا، و65 في المئة في بروكسيل. هكذا سينظر هؤلاء إلى أن مواطنيتهم لا تزال منقوصة، طالما ليسوا موجودين كما يجب في صورة المجتمع كما تعكسها الميديا. وخلال مداخلة لها، على احدى محطات الراديو الوطنية، أيدت وزيرة الإعلام الفلمانية انغريت ليتن خطة التنوع، معتبرة أنها خطة إيجابية. وقالت: «من المفروض ان يكون التلفزيون الوطني مرآة للمجتمع، فتنوع أكثر يعني برامج أفضل». وأحصت ليتن بضع فوائد لتطبيق الخطة، معتبرة أن «تنوعاً أكثر يعني برامج أفضل، وستصل في الوقت ذاته إلى مجموعة أكبر من الناس، وهذا ينعكس إيجاباً على أرقام المشاهدة». ويرى بعض مسؤولي التلفزيون البلجيكي أن ليس من السهل تطبيق الخطة. ويقول بيورن سوننس، رئيس تحرير الأخبار على القناة التلفزيونية الأولى، ان من «الصعب» أحياناً إقناع المهاجرين بأن يعلّقوا أمام الكاميرا، لأنه «إذا طلب الصحافيون ذلك فهم يرفضون». ويعتبر فريحي أن تلك حجة واهية، ويقول إنها قد تصح على الجيل الأكبر من المهاجرين «لأن لديهم إحساساً بعدم التمكن الكافي من اللغة، لكن ليس على الشباب». ويلفت فريحي إلى أن «التنوع» يحتاج أكثر من «التعليق أمام الكاميرا»، ويقول: «إذا كان الصحافي هو نفسه من المهاجرين، فسيكون الإقناع بالتعليق أكثر سهولة». وتشدد الشبكة التلفزيونية «في آر تي» على «الالتزام» بالأرقام التي أعلنتها، لتطبيق خطتها. لكن ذلك لن يتم ب «ضربة واحدة»، وإنما «هو مشروع على المدى الطويل، لأنه يتعلق بالتنوع في أوسع معنى للكلمة»، كما أوضح بيورن فردوت، الناطق باسم «في آر تي»، للصحافة البلجيكية. فشبكة التلفزيون لن تغيّر برامجها الجارية، لكنها «ستطبق المخططات الجديدة في كل قراراتها الجديدة المقبلة». وعلى رغم كل هذا التفاؤل والتهليل، هناك من يشكك في الحكاية من أصلها. بودا آوا، ممثل بلجيكي من أصول افريقية، قرر في العام 2006 أنه لن يقبل لعب الأدوار التي يعرضها عليه التلفزيون البلجيكي، لأنه «سئم» من لعب دور اللاجئ. وعلى رغم تأكيده أنه «غير متشائم»، يقول: «حالياً لا أرى تغيراً كبيراً مقارنة بعام 2006، وهم «في آر تي» منذ سنوات يحكون عن التنوع، لكن كل شيء يبقى كما هو». هذا الحكم يستشفه من تجربته الشخصية، إذ يقول: «مرة في السنة هم في حاجة الى شخص يلعب دور المسكين أو اللاجئ، فيتصلون بي». لا مجال للمقارنة بين التلفزة البلجيكية وتلفزات أخرى لجهة التنوع، ففي رأي آوا أن التلفزيون البريطاني يعرض ممثلين سوداً أو آسيويين يعلبون دور الطبيب أو المحامي، قبل أن يستطرد مؤكداً: «لكن هذا مستحيل عندنا» في بلجيكا. وفي موسمه الأخير، ضمّ برنامج «ذي لاست شو» الفصلي، على القناة الأولى في «في آر تي»، المؤدية الكوميدية السمراء ليز لوفيفر. قدمت لوفيفر، التي تعاني من إعاقة بصرية، فقرة كوميدية موسيقية أسبوعية. وهي تخالف زملاءها السابقين، وتبدي خوفها من مضاعفات خطة التنوع. خوفها هو من «انحراف» التنوع الى ممارسة «تمييز إيجابي» باتجاه المهاجرين. فهي تقول إنها لم تفكر سابقاً بضرورة هذا التنوع، مؤكدة أن الكفاءة هي وحدها المعيار لاختيار من يظهر على التلفزيون، ولكفالة جودة برامجه. ومن منظور عملي، ينبه بعض الإعلاميين البلجيكيين إلى أن «خطة التنوع» ليست مجرد كرم أخلاق. يذكرون بأنه «لا ضرائب من دون صورة تمثيلية» صحيحة. وهؤلاء موجودون: المهاجرون والمسنون (22 في المئة من البلجيك هم فوق سنّ ال65) والنساء وذوو الحاجات الخاصة ومثليو الجنس. الغمز هنا هو لحقيقة أن معظم المؤسسات الوطنية، بما فيها الميديا، ممولة أيضاً من دافعي الضرائب. ومن تعتزم التلفزة الوطنية التكرّم بإظهارهم أكثر، هم عملياً نسبة قائمة بذاتها ممن يموّلونها.