فعل التحدي هو التجاوز الذي يواجه به الفعل العقبات والمشكلات التي تحول بينه وغاياته التي يريد الوصول إليها وتحديات الإبداع العربي هي محاولاته تخطي شروط الضرورة إلى حيث تقع آفاق التقدم الواعدة. والتحديات نوعان من هذا المنظور إيجابية وسلبية الأولى طموحة ولا تتوقف عن الطموح، فهي قفزات صاعدة على طريق التقدم المتزايد والصاعد الذي يغوي ما تحقق في مداه للانطلاق إلى ما لم يتحقق، على نحو لا نهاية لإمكاناته الخلاقة التي لا تتوقف عن الإضافات الكمية والكيفية التي تدفع إلى ما لا آخر له من إنجازات التقدم المتسارعة، والتحديات الثانية علاجية، هي محاولات الذات القومية مفارقة وهاد التخلف إلى أفق واعد من التقدم الذي يحررها من قيودها الموروثة أو المكتسبة أو المفروضة بفعل قوى خارجية وهي قيود تشد هذه الذات إلى الوراء، أو توقف عقارب الزمن الذي تعيش فيه، فلا تتحرك في حال من الجمود والثبات المتطاول. وعندما نتحدث عن تحديات الإبداع المعاصر في عالمنا العربي، تحديداً، فإننا نتحدث عن تحديات النوع الثاني التي تقترن بخصائص نوعية لهذا العالم، في زمن تاريخي متعين، محكوم بشروط الضرورة والتخلف، سياسياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً وعندما أقتصر على الإبداع الروائي، في هذا السياق، فلا أملك، إجرائياً، سوى التمثيل له بالرواية التي تدل على غيرها من أجناس الإبداع، في الأدب العربي المعاصر، إذا شئنا تحديد المجال الزمني والنوعي على السواء، خصوصاً بعد أن أصبحنا نصف الزمن الذي نعيشه بأنه"زمن الرواية". وللإبداع الروائي، شأن كل إبداع، تحدياته العالمية العامة أو المشتركة، لكن له تحدياته الخاصة التي تختلف باختلاف الثقافة التي ينتسب إليها، والتي تحددها خصوصية هذه الثقافة وسياقها التاريخي والاجتماعي وأتصور أن تحديات الإبداع الروائي العربي هي تحديات متعددة الأبعاد تتجسد بها خصوصية هذا الإبداع وملامحه النوعية، سواء في علاقته بالعالم المتقدم من حوله، أو علاقته بواقع التخلف الذي يعانيه في مجتمعاته العربية التي ينتسب إليها، متخذاً منها موقفاً نقدياً، فهو دائماً إبداع في حالة مواجهة أو رفض لكل ما يراه متصلاً بشروط الضرورة، معرقلاً لحركة تقدم الجماعة أو الفرد، أو كليهما معاً، في السعي نحو كل ما يغني التجربة الإنسانية ويحررها من قيود التخلف بكل أوجهه السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية والنفسية ولعل في ذلك ما يفسر درجة الوعي الذاتي المتزايد التي يتميز بها الإبداع الروائي العربي، سواء في علاقته بنفسه أو علاقته بالعالم الذي يرصده كي يوازيه رمزياً، أو يعيد خلقه على سبيل المواجهة أو الرفض والتحدي، أو المقاومة بالكتابة عبر أشكال السرد وأنواعه المختلفة. ولا يفعل المبدع الروائي ذلك، وهو في وضع من فراغ، أو في أقطار معزولة عن غيرها، سواء في علاقاتها القطرية أو العالمية، فالإبداع الروائي العربي أخذ يتوزع ما بين الأقطار العربية كلها، كما يتوزع المحتوى السائل في الأنابيب المستطرقة التي يختلف الشكل الظاهري لكل واحد منها، ولكن حضورها يظل مستوياً في كل الأشكال، فلا تزال الهموم والتحديات العربية مشتركة مؤتلفة، متزايدة، تتجلى آثارها سياسياً واجتماعياً وثقافياً، بما ينعكس على أشكال الحكم التي لم تتحرر من التبعية، وأشكال الفكر التي تتزايد غوصاً في الرمال المتحركة للاتّباع والتقليد، والظواهر الثقافية التي لا تخلو من طبائع الاستبداد، فضلاً عن الأشكال المتزايدة للتطرف الديني، فضلاً عن التصلب الاجتماعي الذي يقترن بحضور الدولة التسلطية التي انتهى فسادها إلى زيادة الأرض العربية المحتلة، منذ كارثة العام السابع والستين، وأخيراً الأوضاع الاقتصادية التي تزداد تأزماً، فتؤدي إلى طحن الإنسان العربي، خصوصاً في الأقطار العربية، الأكثر فقراً وكثافة سكانية. وبقدر ما هو مقدور على الإبداع الروائي العربي، منذ نشأته في منتصف القرن التاسع عشر، أن لا ينفصل، واعياً أو غير واع، عن محيطه الذي تتبادل أقطاره الهموم والأزمات، فإن هذا الإبداع، في الوقت نفسه، لا يملك الانفصال عن العالم الأوسع الذي يعيش فيه، خصوصاً العالم المتقدم الذي أصبحنا أكثر اتصالاً وتأثراً به من ذي قبل. ويلفتني في هذا السياق، تغير علاقة المبدع الروائي، من حيث هو مثقف عربي، بالعالم المتقدم الذي يتسارع إيقاع تقدمه يوماً بعد يوم، وتتزايد حدّة المسافة التي تقيم تضادّاً متزايداً بين تسارع إيقاع تقدمه وتقهقر إيقاع الواقع المتباطئ والمتدهور لمجتمعاتنا العربية، تلك التي لا تستطيع، بحكم ما هي عليه من تخلف متعدد الأبعاد، متفاقم المخاطر، أن تتحرر من علاقات التبعية السياسية الاقتصادية، أو الاتّباع الفكري الثقافي الذي غلب عليها، خصوصاً بعد أن انتصرت نزعات العولمة، وتعولم الكوكب الأرضي كله بوسائط متعددة وهو وضع يفرض على الإبداع العربي موقفاً متميزاً في تعقده أو تناقض طرفيه، وآية ذلك أن المبدع العربي، في الفضاء الكوني لهذا الإبداع، عليه أن يتابع أوجه تقدم الإبداع الأدبي، في الكوكب الأرضي. ويفرض هذا الوضع المتحوّل ضرورة اتساع حدقتي عيني المبدع الروائي في قراءة إبداع الكوكب الأرضي الذي امتد وتكاثف وتراكم على نحو غير مسبوق، يفرض المتابعة والوعي والمعرفة النقدية، خصوصاً بعد إضافة عامل جديد يتمثل في التحولات الديموغرافية لأقطار عالم المركز الأوروبي الأميركي القديم، منذ أن تغير وضع مبدعي المهاجرين من الأقطار المستعمرة، وأصبحوا مواطنين بكل معاني المواطنة القانونية والدستورية وآية ذلك وصول أوباما الأسود الأفريقي الأصل إلى منصب رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية، ووصول أكثر من مواطنة فرنسية عربية الأصل المغربي أو الجزائري إلى منصب الوزارة في حكومة ساركوزي الفرنسية الجديدة، وهو نفسه يرجع إلى أصل غير فرنسي ويوازي ذلك التغير الديموغرافي التغير في خريطة الإبداع التي لم تعد تقتصر، في أوروبا والولاياتالمتحدة، على المواطنين الأصليين بحكم الأصول العرقية الوطنية، بل أصبح إبداع هذه الأقطار الأوروبية، يضم مبدعين من أصول عربية وأفريقية وآسيوية إلخ هكذا أصبحت أهداف سويف المصرية وجمال محجوب السوداني وحنيف قريشي وطارق علي الباكستانيين وسلمان رشدي الهندي محسوبين على الأدب البريطاني المعاصر وينطبق الأمر نفسه على غير إنكلترا من دول أوروبا والولاياتالمتحدة التي أصبح التنوع الإبداعي الخلاق عرقياً سمة من سمات إبداعاتها وثقافاتها التي انتقلت من سياسات التعدد الثقافي إلى التنوع الثقافي ويقوم الأول على قبول الثقافة المضيفة للمغايرين، تحت مظلة ثقافة واحدة مهيمنة للأصل المضيف أما التنوع فهو تفاعل لا تمييز فيه بين أصلي وغير أصلي، فالكل سواء في نظر الدستور والقانون، وللجميع الحقوق نفسها بلا تمييز، ومنها حق الإبداع والاختلاف وقد قام الرئيس ساركوزى في فرنسا مؤخراً بتشكيل لجنة لتعزيز أوضاع التنوع الثقافي بين الأعراق التي تفرنست، خصوصاً بعد أن أصبحت الثقافة الفرنسية المعاصرة تتكون من التفاعل المتكافئ بين العناصر الفرنسية الخالصة والعناصر المتفرنسة. ويفرض هذا الوضع المتغير، متسارع الإيقاع، تحدياً جديداً على وعي الروائي بالكوكب الأرضي الذي يعيش فيه، خصوصاً بعد أن أصبح يدرك اتساع حدود هذا الكوكب، إبداعيًّا، وتحوّل عوالم الثقافة العالمية بما جعلها تفارق العالم الإبداعي الذي كان يعرفه أدباء القرن الماضي وروّاده على وجه الخصوص، أولئك الذين كانت معارفهم تتوقف عند الآداب الفرنسية أو الإنكليزية أو الألمانية أو الإسبانية أو الإيطالية على أكثر تقدير، وكانت حدود الترجمة عن الآداب العالمية لا تفارق اللغة الفرنسية والإنكليزية في أغلب الأحوال وهو وضع لم يعد صالحاً لإبداع عربي يتطلع إلى توسيع معرفته بالعالم الذي أصبح مرادفاً للكرة الأرضية، في كون جديد لم يكن يعرفه حتى نجيب محفوظ في الأربعينات من عمره ودليل ذلك ما كان متاحاً أمامه للترجمة، أو القراءة بلغة أجنبية واحدة على الأغلب، وما أصبح متاحاً أمام أي مبدع أو مبدعة من العالم العربي، في سن الشباب المليء بالنشاط والطموح. وأتصور أن هذا الوضع بقدر ما أصبح مربكاً للإبداع الذي اتسعت أمامه الرؤية، إلى درجة لم تكن متخيلة من قبل، أصبح يفرض عليه واجباً أصعب ومسؤولية كبيرة، سواء في مدى المشاركة في الإبداع العالمي الذي أصبح متسعاً باتساع الكوكب الأرضي، أو مدى المتابعة النافذة والناقدة، إزاء كم إبداعي ومعرفي لا يتوقف عن التراكم كميًّا وكيفيًّا إلى مدى غير محدود، يقلب الأفكار والمفاهيم والتصورات والتقاليد والتقنيات القديمة والمتوارثة، أو يضعها، على الأقل، موضع مساءلة جذرية. نشر في العدد: 16777 ت.م: 11-03-2009 ص: 31 ط: الرياض