الهوية المزدوجة، من المنظور الذي طرحته، لا تتجزأ ولا تتصارع حتى وإن توترت مكوناتها وهو لا يرى نفسه وحيداً في ذلك، فالأمر نفسه موجود لدى أي شاب فرنسي، يولد من أبوين جزائريين، أو مغربيين، أو صربيين، أو بوسنويين الخ، هاجرا إلى فرنسا، فأصبح هذا الشاب يعيش لغة ليست لغته الأم، ويكتب بهذه اللغة الغريبة التي ينتسب إليها، بحكم التعليم، مشكلات وهموماً متصلة بلغته الأم وهي تجربة غنية وخصبة إذا شعر مثل هذا الشاب أنه حر ليحياها كلية، وإذا شعر بتشجيع لكي يفيد من إيجابيات التنوع الذي يسمح له بمواصلة طريق الإبداع الذي لا يجد عائقاً يوقفه، في عالم اللغة المكتسبة، ما ظل يملك الموهبة الحقيقية والرؤية الإنسانية التي تجاوز الصراع بين العوالم، وتحيل الهوية القاتلة إلى هوية إنسانية، تبدو كما لو كانت تسعى إلى الإسهام في إيجاد إنسان جديد لعالم جديد، في حالة صنع، عالم إنساني يحترم إنسانية البشر ولا يقوم على التحيز العصابي لأية عقيدة دينية تنقلب إلى عقيدة تعصب، أو دوغما سياسية، ويسمح بالاختلاف ويحترمه، بعيداً عن التمييز بين البشر على أساس من الجنس أو العرق أو الدين أو اللون أو اللغة أو أصل الموطن وإذا كان الخوف يدفع إلى التقوقع داخل بُعد من أبعاد الهوية الكثيرة، في عالم يقوم على صراع الهويات لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية أو غيرها من الأسباب، فإن هذا الخوف ينداح عندما توجد الهوية المزدوجة في عالم إنساني، آخذ في التشكل، وتلوح وعوده الموجبة في أفق بعيد يمكن الوصول إليه، لكن بعد القضاء على ما يختزل الهوية إلى انتماء واحد، يضع الرجال والنساء في موقف متحيز ومذهبي ومتعصب، وأحياناً انتحاري، يحوّل البشر إلى قتلة أو إلى أنصار للقتلة، كما يعلمنا التاريخ. والهوية المزدوجة الإيجابية التي يتحدث عنها معلوف هي الهوية التي تعتز بثقافتها، وتحترم ثقافة البلد المضيف، قابلة هذا التنوع بين كيانين ثقافيين تتحول العلاقة بينهما إلى مصدر ثراء للطرفين، بعيداً عن التعصب لأحد الكيانين بما قد ينتهى إما إلى التغريب والفرنجة أو التقوقع في الأصولية الإسلامية، على نحو ما أصبحنا نرى في المجموعات الإسلامية الأصل التي تتعصب لمعتقداتها التي تسعى إلى فرضها على المجتمع الذي منحها، ابتداء، حق الاختلاف وفتح لها أفق التنوع الذي عليها أن تسعى لتعميق تنوعه الخلاق، ثقافيّاً وعرقيّاً، لا انقسامه وصراعه ويرى أمين معلوف أن ذلك هو السبيل الصحي الذي يتيح للمهاجر أن يتمكن من التماهي، ولو قليلاً، مع البلد الذي يحيا فيه ومع عالمنا اليوم، فتكون النتيجة نوعاً من الانتماء الإنساني الذي يتيح الإمكانات الإيجابية للانتماء المزدوج دون الكثير من سلبيات التمزق، ومن ثم الحفاظ على انتماء البشر إلى ثقافتهم الأصلية، وألا يشعروا أنهم مجبرون على إخفائها كمرض مخزٍ، والانفتاح بالتوازي مع البلد المضيف، خصوصاً إذا انطوت ثقافة البلد المضيف على ما يوازي النزعة نفسها، وانبنت على تقبل الآخر والتفاعل معه في إطار سياسات التنوع البشري الخلاق وإذا حدث ذلك يحق لأمثال أمين معلوف أن يقولوا «أنا الذي أتبنى كلاً من انتماءاتي بأعلى صوتي، لا أستطيع الامتناع عن الحلم بيوم تسلك فيه المنطقة التي ولدت فيها الطريق ذاته، تاركة خلفها زمن القبائل وزمن الحروب المقدسة وزمن الهويات القاتلة التي لا تبني شيئاً مشتركاً أحلم بيوم أستطيع فيه أن أنادي الشرق الأوسط بمثل ما أدعو به لبنان وفرنسا وأوروبا «بلدي» وكل أبنائه مسلمين ويهوداً ومسيحيين من كل المذاهب وكل الأصول «مواطنيّ» تلك هي الحال في رأسي الذي يتأمل ويتوقع باستمرار، وأود أن يصبح الأمر كذلك، يوماً ما، على أرض الواقع، وللجميع». هذا الحلم الإنساني البهيج الذي يحلم به أمين معلوف عن عالم إنساني جديد، وأخوّة بشرية تتيح خلق إنسان كوني مختلف، خال من أمراض التعصب والهويات القاتلة، هو ما حاول أن يصوغه، إبداعيّاً، في روايته «ليون الإفريقي» التي تدور حول شخصية الحسن ابن محمد الوزان الفاسي الذي ولد في الأندلس، وهاجر منها مع صعود الهوية القاتلة للمسيحية التي سعت إلى تطهير عالمها المسيحى من المسلمين الغزاة، عرقيّاً ودينيّاً، فانتقلت عائلة الحسن الوزان الصغير إلى المغرب، حيث وجدت الموئل الآمن في فاس، وظلّت كذلك إلى أن كبر الحسن الذي اشتغل بالعلم، وبرع في علوم الجغرافيا، وكتب كتابه عن «وصف إفريقيا» الذي انتسب إلى أدب الرحلات، مثلما فعلت كتابات ابن بطوطة وابن جبير، وحدث أن ارتحل الوزان في البحر الأبيض المتوسط، ذات مرة، فوقع أسيراً لجند الفرنجة الذين باعوه عبداً في إيطاليا، إلى أن وصل إلى روما، حيث تلقفه رجال الدين المسيحي، وأعادوا تثقيفه بما جعله أهلاً للاقتراب من البابا والعمل في خدمته، بعد أن أصبح اسمه ليون الإفريقي ويعيش الوزان ليون بين عالمين، كأنه الوجه القديم المعادل للوجود المعاصر لأمين المعلوف، وينجح في المصالحة بين العالمين، ينتسب إلى الثاني الذي أخذ يكتب بلغته، لكن من دون أن ينسى عالمه الأول وكانت هذه المصالحة بشارة رمزية بإمكان وجود إنسان من نوع جديد، يجاوز ازدواج الهوية وانقسامها إلى نوع من الإنسانية الجديدة التي كانت حلم فرح أنطون، في روايته «أورشليم الجديدة» وذلك قبل أن تتعاقب الأيام ويصبح حلم فرح أنطون هو حلم أمين معلوف، مع تقدير فارق السياق الزمني ومغايرة الشروط التاريخية والاجتماعي. وليس من الضرورى أن نتفق أو نختلف مع أمين معلوف الذي مضى في طريق إدوارد سعيد في كتابه «الهويات القاتلة» الذي ترجمه نبيل محسن، ونشرته دار «ورد» سنة 1999، فالأهم من الاختلاف أو الاتفاق، تأكيد أن بروز ظاهرة «الهوية المزدوجة» أوضح ما تكون في الرواية من ناحية، وأن الروايات التي تتناول هذه الظاهرة، إبداعيّاً، فضلاً عن المبدعين الذين كتبوا عنها نظريّاً، إنما تمثل أحد التحديات الجديدة التي يواجهها الإبداع العربي المعاصر، نتيجة تصاعد أخطار ما سماه أمين معلوف بالهويات القاتلة في العالم العربي أعني ظهور نزعات التعصب التي دفعت عدداً غير قليل من المبدعين العرب إلى الهجرة حيث وجدوا مراحهم الإبداعي في عالم ليس فيه قيود ولا كوابح للكتابة قد نقول إن العوالم واللغات الجديدة التي هاجر إليها هؤلاء المبدعون لا تخلو تماماً من التعصب وآثار الهويات القاتلة التي لم تنته تماماً، حتى في العالم الذي يبدو مهرباً، ولكن المسألة تظل نسبية، والحرية الإبداعية المتاحة لهم، في هذا العالم الجديد، أكثر بكثير من الحرية التي كانت، ولا تزال، شحيحة في أوطانهم الأصلية التي لا يزال كتابها يستعينون على إنطاق المسكوت عنه، أو المنهي عن النطق به، بالرموز والتمثيلات التي تقول ولا تقول، تناور وتداور، وذلك على عكس الصراحة التي جعلت بعض هؤلاء الكتاب يخترقون محرمات الجنس والدين (الميتافيزيقا) والسياسة بما لا يمكن ترجمته إلى اللغة العربية، أو لغاتهم الأصلية بوجه عام وأهداف سويف المصرية والطاهر بن جلون المغربي وحنيف قريشي الباكستاني، وسلمان رشدي الهندي أمثلة على ذلك، لقد سمحت لهم اللغة التي انتقلوا إليها بالكتابة عن موضوعات لا يمكن الكتابة عنها في لغاتهم الأصلية ولذلك أصبحت اللغة الجديدة ساحة لممارسة نوع من الحرية الإبداعية التي لا حدود عليها، ولا رقيب متعدد الجهات والأشكال، ولا مجموعات قمعية ضاغطة تطارد الكتابة المتحررة وتصادره. لكن يبقى السؤال المهم الناتج عن تحدي هذا الحضور الإبداعي الجديد الذي كان، في ذاته، استجابة إلى تحدي السؤال إلى أي هوية ينتسب هذا النوع من الإبداع لقد كانت الإجابة عن السؤال سهلة في حالة أمثال جبران خليل جبران الذي كتب بالعربية والإنكليزية، وانتسب إلى الأدب الأميركي انتسابه إلى الأدب العربي الذي كانت كتاباته فيه أوفر كميّاً فيما أحسب ولذلك حسبناه على الأدب العربي الذي جعلناه علماً من أعلامه، خصوصاً حين نتحدث عن أدباء المهجر، لكن ماذا عن تحدي هذا الوضع الجديد الذي يؤدي إلى ازدواج الهوية الإبداعية، هل ننسبه إلى طرفي الهوية، أو إلى أحدهما، سواء كان الأصل هو اللغة التي هجرها المبدع، أو الواقع اللغوي الذي انتقل إليه؟ أعتقد أن الإجابة ليست سهلة، وتثير إشكالاً أولاً لأنها جديدة نسبيّاً، وثانيّاً لأن كتابة الهوية المزدوجة كتابة تصل ما بين تخوم عالمين والحل الأوفق والأسهل أن ننسبها إليهما، فهي كتابة عربية، إسلامية أو مسيحية المحتوى، وهي إنكليزية أو فرنسية أو حتى ألمانية اللغة ولا بأس من تقبل هذا الوضع الجديد، خصوصاً بعد أن أصبحت الظاهرة عامة، ولا تقتصر على الإبداع العربي وحده، بل امتدت إلى غيره في كوكب أصبح معولماً بالفعل، وتولت الثورة المذهلة للاتصالات تحويله إلى قرية كونية، انداحت فيها الحدود القديمة للزمان والمكان والمفاهيم التقليدية لعزلة اللغات والتباعد بين الثقافات، وأصبحنا نشهد محاولات ملحة لتطوير تقنيات الترجمة الآلية التي تحمل من وعود المستقبل ما سيقضى، في تقديري، على الحواجز القائمة إلى اليوم. والواقع أن التحدي المعاصر الذي تفرضه إشكالية «الهوية المزدوجة» التي أصبحت تمثل جانباً من الإبداع العربي المعاصر، شئنا أم أبينا، هي المجلى الأجد للإشكالية اللغوية التي خلقها الاستعمار الكولونيالي في الأقطار التي استوطنها، وحاول فرض لغته عليها، عبر وسائط التعليم والتثقيف المختلفة، في موازاة مغريات كثيرة، أدّت إلى التخلي عن اللغة الأصل أو الأم إلى الكتابة بلغة المستعمر التي سادت الأقطار المستعمرة، منذ القرن التاسع عشر، والتي أصبحت علامة من علامات التمييز الاجتماعي والسياسي هكذا، نشأت ظاهرة الكتابة بلغة الاستعمار الإنكليري، في الأقطار التي احتلتها إنجلترا، وظاهرة الكتابة بلغة الاستعمار الفرنسي فيما أصبح يعرف باسم الثقافة الفرانكوفونية وقد تصاعدت هذه الظاهرة على نحو خاص في الجزائر على وجه الخصوص، فضلاً عن تونس والمغرب، في الدائرة الفرنكوفونية، كما برزت في الأقطار الإفريقية المماثلة في الوضع الاستعماري، وذلك مقابل الدائرة الأنكلوفونية المضادة التي امتدت لتشمل الأقطار التي احتلتها إنكلترا. وكان من نتيجة ذلك الكتابة بلغة المستعمر حتى في مدى مقاومته، ونشوء ظاهرة الأدب المقاوم للاستعمار بلغة الاستعمار وبرر الروائيون الجزائريون، فرنسيو اللسان، كتاباتهم الإبداعية المقاومة للاستعمار بأنهم لا يكتبون أدباً فرنسيّاً، وأن استعمالهم اللغة الفرنسية مجرد وسيلة، تشبه استعمال الرسام لألوان صنعت في فرنسا أو أية دولة أجنبية، ويؤيدهم في هذه النظرة بعض الدارسين الذين برروا ذلك بالذهاب إلى تشبيه اللغة بالأنغام الموسيقية أو الألوان التي تخلق ألحاناً مختلفة أو لوحات متباينة، ولذلك قال مولود معمري إن اللغة فرنسية لكن التعبير جزائري. هكذا فصل أمثال هؤلاء بين اللغة والأعمال الأدبية، فاعتبروا الأولى أداة عمل كالمطرقة أو المنشار أو السكين، أو أي أداة لا تتأثر بما يحيط بها وبالطبع يتناسى أصحاب التبرير هذا، بحكم آلياته الدفاعية، أن اللغة نتاج سياق اجتماعي في النهاية، وأنها أداة سابقة الصنع محمّلة، سلفاً، بالكثير من الإيحاءات الاجتماعية والسياسية، أو التاريخية الحضارية التي لا يمكن فصل كلماتها وتراكيبها عنها، فاللغة وعاء وأداة فكر فاعلة، محملة بمضامين إيديولوجية في النهاية صحيح أن مثل هذا التبرير كان يُواجه بما يقابله من وجهة نظر تؤكد أن الكتابة المقاومة بالفرنسية أو الإنكليزية للاستعمار الفرنسي أو الإنكليزي، تخضع لعملية ترويض، أو غسيل إيديولوجي، يصفّيها من مصاحباتها الدلالية المناقضة لفعل المقاومة الإبداعي، بما يجعل منها أداة مقاومة، سواء للمستخدمين لها قسراً بحكم التعليم المفروض عليهم منذ الصغر، أو القراء الذين يتوجهون إليهم للتدليل على عدالة قضيتهم واستمالتهم للوقوف إلى جانب قضيتهم العادلة، وهي السعي إلى التحرر من الاستعمار ولكن مثل هذه المحاجة كانت تواجه بنقيضها، في حالة الأدب الجزائري مثلا.