شعرت بالفرحة والفخر والأمل عندما تطلعت إلى التجمع الاستثنائي من الباحثات والباحثين الذين جاؤوا من أقطار الوطن العربي المختلفة، ومن أقطار أوروبية عدة، فضلاً عن الولاياتالمتحدة الأميركية، كي يشتركوا مع الباحثات والباحثين المصريين، في مناقشة قضايا إبداع المرأة في كل مجالاته، ومواجهة كل مشكلاته، وذلك ما بين يوم السبت السادس والعشرين إلى يوم الأربعاء الثلاثين من تشرين الأول أكتوبر الماضي. وكانت الفرحة ناتجة من تجمع أكثر من مئة وثلاثين باحثة عربية وأجنبية وما يزيد على مئتين وخمسين من الباحثات والمبدعات المصريات، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الثقافة العربية الحديثة. والفخر لأننا استطعنا في المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة أن نجمع هذا العدد الاستثنائي من الباحثات والمبدعات مع الباحثين، مهيِّئين لهم المناخ الحر للتعبير عن آرائهم، والفضاء الحواري السمح للنقاش والتفاعل وتبادل الأثر والتأثير سواء في الجلسات العلمية أو المعارض والأمسيات الشعرية أو العروض السينمائية والمسرحية، وأخيراً معرض كتاب المرأة الذي حاولنا فيه إبراز كتابات المرأة وحدها. وكان شعوري بالأمل نابعاً من ضخامة التجمع وتميّزه الكيفي، فقد كان التجمع في ذاته تعبيراً عن إصرار المرأة العربية المبدعة على إنطاق المسكوت عنه من خطاب الوعي الاجتماعي المحافظ، وحرصها على مواجهة العقبات السياسية والفكرية التي تحول دون المرأة والإسهام الكامل في إبداع العالم من حولها، كما كان التجمع في الوقت نفسه إعلاناً على إمكان التقاء تيارات عدة مختلفة حول هدف واحد، والاستعداد الكامل للحوار الذي لا يعرف التعصب. وذلك في ذاته تجسيد لموقف ثقافي واعد، موقف ثقافي يجاوز التطرف والتعصب، ويقضي علىهما، مؤسِّساً ثقافة الاستنارة التي تنبني على التسامح، ودعم قيم الإبداع التي لا تنفصل عن الحرية والعدالة والتقدم والحداثة في آن. وعندما مضيت في تأمل الجمع المحتشد في القاعة الكبرى للأوبرا، في الجلسة الافتتاحية، تداعت إلى ذهني أربعة من المعاني التي يجسِّدها هذا التجمع ويتجسّد بها. وهي معانٍ متداخلة، لا يمكن فصل واحد منها عن غيره لأنها معانٍ متفاعلة، كاشفة في تبادلها الأثر والتأثير عن منظومة ثقافية جديرة بتأمل عناصرها وعلاقاتها. وهو تأمل تفرضه تحولات الواقع التي نعيشها، وتعدد علاماته التي تفرض نفسها على الوعي. ويرتبط أول هذه المعاني بتعدد مجالات الإبداع بمعناه الواسع الذي لا يقتصر على الآداب والفنون، وإنما يمتد إلى كل ما يؤكد أهمية الابتكار الإنساني في كل مجال، ابتداء من أصغر دقائق الحياة الىومية إلى أكبر تحدياتها. لقد عانت ثقافتنا طويلاً من قصر مفهوم الإبداع على الآداب والفنون، كما لو كانت العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية يمكن أن تقوم لها قائمة، أو تتقدم من غير الإبداع الذي هو جوهر الابتكار في كل مجال من مجالات المعرفة، بل كل مجال من مجالات الحياة. وكان من نتيجة ذلك تقلص الحضور الإبداعي بين المشتغلين بالعلوم الطبيعية، وشحوب القدرات الابتكارية الجذرية في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية. وأدّى ذلك - على نحو غير مباشر - إلى غلبة التلقين على الكثير من برامجنا المعرفية والتثقيفية والإعلامية. ولم نُعْطِ تنمية القدرات الإبداعية الأولوية الجديرة بها في كل مجال من مجالات المعرفة والحياة على السواء. وفي ذلك يكمن الفارق بين عوالم التقدم التي تجعل من الابتكارية معياراً لكل إنجاز، ومقياساً لكل تمييز، وعوالم التخلف التي تكتفي بالتلقين أو التقليد، مقلِّصة حدود الابتكار ودوائر الإبداع إلى ما ينفي مبدأها الخلاّق في الوجود الإنساني نفسه. وحرصنا على تجنّب القصور في المجلس الأعلى للثقافة، وأكَّدنا حضور "العلم" بصفته مكوناً أساسياً للثقافة المتطورة الحية، ولم نفهم الثقافة العلمية بعيداً من المدي الإبداعي الذي لا قيمة لأي فرع من فروع الثقافة في غيابه، فالإبداع هو لحمة الثقافة الحية وسداها، وهو موضوعها وغايتها، على امتداد الفعل الإنساني الذي لا يكف عن الارتقاء أو التطور. ولذلك حرصنا - في التخطيط لمؤتمر المرأة العربية والإبداع - أن تشترك فيه تخصصات عدة، مختلفة، تبدو متباعدة في الثقافة التقليدية، ولكنها متضافرة، متجاوبة في الثقافة الحية. ولذلك جمع المؤتمر بين الباحثات والباحثين في علوم الاجتماع والنفس والإنسان والاقتصاد والتاريخ والفلسفة والسياسة والعلوم الطبيعية أو البحتة، جنباً إلى جنب الباحثات والباحثين والمبدعات والمبدعين في الآداب والفنون بكل أجناسها وأنواعها. وفي هذا التجمع ما يبرز الاتساع اللانهائي والترابط الضروري بين فضاءات الفعل الابتكاري الذي يؤكد مسؤولية الإنسان، من حيث هو إنسان، في مجاوزة شروط الضرورة إلى آفاق الحرية بأوسع دلالاتها. ويتصل ثاني هذه المعاني بوحدة التنوع الخلاّق التي تصل بين أنواع الإبداع ومجالاته، مهما تعددت أو تباينت أو تباعدت، فالأصل في الفعل الإبداعي هو طاقته الخلاّقة التي تجمع ما بين المبدعات والمبدعين، مؤكدة وحدة الهموم والمشكلات، ووحدة المطامح والتحديات، مبرزة الأنواع نفسها من الصراعات والمعارك التي لا يزال يخوضها الإبداع، دفاعاً عن وجوده وتوسيعاً لمجالاته وآفاقه. وتصل وحدة التنوع الخلاّق ما بين المبدعات والمبدعين العرب بالقطع، كما تصل غيرهم من المبدعات والمبدعين في كل مكان من عالمنا الحديث. لكن الوحدة التي تصل بين المبدعات العربيات من دون غيرهن لها ما يبررها ويبرزها في أشكال التمييز الواقعة علىهن، فهن يعانين مع المبدعين العرب مشكلات التخلف وإحباطاته العامة على تعدد أنواعه وأسبابه، ولكنهن يزدن على المبدعين الرجال بمعاناة أشكال التمييز المجتمعي ضد المرأة في شكل عام، وضد المرأة المبدعة في شكل خاص. ونحن - للأسف - لا نزال نعيش في ظل ثقافة ذكورية سائدة، ومهيمنة، ثقافة لا تزال بعض مكوناتها الجامدة تستريب بحضور المرأة التي لا تزال عورة ومصدراً للشر والإثم والضلالة في أعين الحرَّاس المتحجِّرين لهذه الثقافة، كما لا تزال المرأة محرومة من الاعتراف بحقها الطبيعي في ممارسة فنون الإبداع عند أولئك الذين لا يزالون يتناقلون ميراث التخلف الثقافي الذي هو أصل التطرف والإرهاب. أقصد إلى ذلك الميراث الذي لا يزال يضرب لنا أمثاله التي تقول: النساء شر كلهن. لا تثق بامرأة. من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه. ذَلَّ من أسند أمره إلى امرأة. من اقتراب الساعة طاعة النساء. إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن. لا تطلُعوا النساء على حال ولا تأمنونهن على مال. اعص النساء وهواك وافعل ما شئت. كرامة النساء دفنهن. المرأة أفعى تنفث سُمَّا. المرأة تُلقّن الشر من المرأة، كما أن الأفعى تأخذ السم من الأصلة. لا تُسكنوا النساء العلالي، ولا تُعْلِّموهن الكتابة. جنِّبوهن الكتابة واستعينوا علىهن بلا، فإن نعم تضرِّيهن في المسألة. إذا زَقَتْ الدجاجة زُقاء الديك فاذبحوها. وإزاء هذا الميراث الثقافي الجامد الذي لا يزال منطوقاً على بعض الألسنة، ومكتوباً في كتب ذائعة، ومطبوعاً في جرائد ومجلات سيَّارة، وممارساً في دوائر تشبه في عنف تطرفها عنف تطرف "طالبان" التي سلبت المرأة حق التعلىم والعمل والإبداع، أقول إزاء هذا الميراث الجامد الذي لم ينته لا بد أن تتخذ وحدة التنوع الخلاق لإبداعات المرأة العربية حضوراً مميزاً، وإلحاحاً مستمراً، وجسارة أشد، فالمسافة بين المأمول والواقع بعيدة، ومؤرقة، وحدة التباين بين التقدم المتسارع لإنجازات الإبداع العالمي والتباطؤ المفروض على إبداعات المرأة العربية تتزايد يوماً بعد يوم، وذلك في عالم سريع الإيقاع، لا يرحم المتباطئ أو الكسول، وينبذ الجامد، أو يتركه في جموده بعيداً من المسار المتصاعد لأحلام التقدم الذي لا نهاية لوعوده الرائعة. ولا شك في أن بعض أهمية مؤتمر المرأة العربية والإبداع تأتي من تمثيله الرمزي لإمكان هذا التلاحم القومي لوحدة إبداع المرأة العربية، فالوطن العربي كان ممثلاً في المؤتمر على اختلاف ظروفه التاريخية التي لا تمنع إمكان تلاحم الطليعة المبدعة من النساء العربيات في كل قطر عربي، سواء في سعي هذه الطليعة إلى التحرر من قيودها الاجتماعية والسياسية والثقافية الكثيرة، أو في سعيها لتحرير قدراتها الإبداعية من أي قمع خارجي. إن هذا التلاحم القومي - أيا كانت أشكاله - هو السند الحقيقي لمواجهة المشكلات التي لا تمايز بين قطر عربي وغيره، والتي لا بد من مواجهتها بحركة عريضة يؤدي نجاحها في أي قطر إلى التأثير في بقية الأقطار. وقد أثبت تاريخ المرأة العربية الحديث أن كل نجاح تحرزه الطليعة النسائية المبدعة في أي قطر، يؤدي إلى التأثير الإيجابي في بقية الأقطار، والعكس صحيح بالقدر نفسه لمن يريد الاعتبار. أما ثالث المعاني التي تداعت إلى ذهني، في حضرة ذلك الجمع، فيرتبط بالطريق الطويل الشاق الذي قطعته المرأة العربية على مدى ما يزيد على قرن من الزمان، غير مترددة في التضحية والفداء، متحدية كل قيود التخلف، مجاوزة كل عوائق الجهود، في جسارة وشجاعة وعزم. ولا يمكن لأي مؤرخ منصف إلا أن يقدِّر لطلائع المرأة العربية ما أنجزت وحققت، بل ما فتحته من أبواب مغلقة، وما حطمته من جدران صلدة وقيود عاتية. ولكي نتخيل الفارق بين بدايات المسيرة، وما وصلت إلىه، الىوم، يكفيني التذكير بأنه عندما افتتحت الجامعة المصرية الوليدة، بعد عامين من إنشائها، قسماً نسائياً، وأخذت إدارتها ترسل خطابات دعوة الحضور إلى العدد القليل جداً من الدارسات في هذا القسم، قامت الدنيا ولم تقعد سنة 1911، واحتجَّ الغاضبون على وجود أسماء النساء على أظرف الخطابات التي يراها رجال البريد، فقد كان اسم المرأة عورة كبقية حضورها، وتحمَّل عبدالعزيز فهمي باشا سكرتير الجامعة، بسبب ذلك الكثير من الشتائم العلنية وخطابات التهديد بالقتل، دفاعاً عن شرف أسماء النساء التي ينبغي أن تستر، ونال الهجوم من القسم النسائي كله، وتزايد الضغط إلى الدرجة التي اضطرت معها الجامعة إلى إغلاق القسم، والتخلّص من جريمة تعلىم المرأة في الجامعة وإثم كتابة أسماء النساء على أظرف الخطابات. وها نحن، الىوم، بعد واحد وتسعين عاماً على وجه التحديد من هذه الحادثة، في القاهرة، نعقد أضخم مؤتمر عربي لإبداع المرأة العربية، ونرسل إلى مئات النساء خطابات، كتبنا أسماءهن على الأظرف، فجئن إلىنا من كل مكان، واجتمعن مع السيدة الأولى التي يعرف الجميع اسمها، ولا يفكر أحد في مهاجمة من يكتب اسمها في الجرائد والمجلات أو أسماء الباحثات اللائي حضرن ليناقشن قضايا إبداع المرأة، محتفلات بحضورهن العفي الواعد، مؤكِّدات المنجزات الإبداعية التي تسجل بأحرف من نور أسماء النساء العربيات، على امتداد ما يزيد على قرن، ويسعين إلى توسيع معنى الإبداع ومفهومه، وينشرن أسماءهن على كتبهن وأبحاثهن وأعمالهن الإبداعية الجسورة التي لا تعبأ بجمود الجامدين، أو تخلّف المتخلفين، في مدى الإنجاز الذي يعد فخراً لهن ولنا على السواء. وأتصور أن تجمّعهن على هذا علامة على تقدم المسيرة، وإشارة إلى أن المستقبل لا بد أن يكون أكثر وعداً ما ظلت المرأة العربية تحفر في حوائط التخلف ثقوب النور الحر للإبداع المتزايد.