مع معرض "آثار المُقدَّس" الذي انطلق حديثاً في متحف مركز بومبيدو باريس، يستأنف القائمون على هذا الصرح الفني العريق من جديد سياسة المعارض الضخمة والمتعدِّدة الاختصاصات التي أرست شهرته، باقتراحهم مساراً مثيراً وحسّاساً يتناول إحدى المسائل الأكثر سخونة في زمننا، أي دور"المقدَّس"في بلورة بعض أشكال أو مفاهيم الفن الحديث، أو بالعكس، الطريقة التي يواصل فيها الفن الحديث الشهادة، بأشكالٍ غالباً غير متوقّعة، على ما وراءٍ يتخطى المعتاد والمألوف، وعلى بقائه، في عالم غربي تخلّص من مراجعه الدينية، سبيلاً دنيوياً لضرورةٍ لا تقاوم في السمو. ولهذه الغاية، تم جمع أكثر من 350 عملاً فنياً تعود إلى كبار فناني القرن العشرين وتتألف من لوحات ومنحوتات وتجهيزات وفيديوات وتحف فنية أخرى. وتجدر الإشارة أولاً إلى أن الأديان في الغرب تعمّقت في موضوع الربط بين القلق الروحي والإبداع. ولكن منذ القرن الثامن عشر في الغرب، طرأت تحوّلاتٍ عميقة على علاقة الفن بما هو ديني. إذ أفضى ازدهار الرأسمالية ومُثُل"الأنوار"والعقلانية وتطوّر المدن، إلى نوعٍ من"الإحباط الروحي للعالم"ماكس فيبر، كما أدّى الشعور بانحسار الإلهي الذي عبّر عنه الفنانون الرومنطيقيون، ثم مقولة نيتشه الشهيرة في نهاية القرن التاسع عشر، وتقدّم العلوم الفيزيائية وظهور الماركسية وعلم التحليل النفسي، إلى إعادة النظر في موقع الإنسان داخل العالم، وبالتالي في علاقته بالديني. في هذه الظروف بالذات وُلد الفن الحديث. لكن انخراط الفنانين داخل عملية ردّ المجتمع إلى ما هو دنيوي sژcularisation التي كانت سائرة آنذاك لم يعنِ إطلاقاً تواري التساؤل الميتافيزيقي عندهم، بل الحقيقة - التي يتمكّن المعرض الراهن من إظهارها - هي أن جزءاً مهماً من الفن الحديث والمعاصر ابتُكر انطلاقاً من هذا التساؤل. طريقة تنظيم المعرض التي تحترم التسلسل التاريخي للأعمال المعروضة، تقترح موضوعات تتجلى فيها وفي عملية تعاقبها المشاغل الجمالية والروحية الرئيسة خلال القرن العشرين، ما عدا الصالة الأولى التي خُصِّصت لبداية الأزمة الدينية في أوروبا خلال القرن التاسع عشر ولتجلّياتها في كتابات نيتشه المعروفة وفي أعمال الفنانين الرومنطيقيين المركّزة على تصوير"الأنقاض"و"الكآبة". ففي الصالة الثانية، ننتقل مباشرةً إلى موضوع"الحنين إلى المُطلَق"المتجسّد في توق عددٍ من الفنانين إلى معانقة أو ولوج عظمة الكون رودون، هودلر، دو كيريكو، ماليفيتش، برانكوزي. وفي الصالة الثالثة، نتوقف عند اهتمام بعض الفنانين بالفكر الباطني وبالعلوم التي تستكشف الجوانب غير المرئية للواقع، مثل موندريان وكاندينسكي وكوبكا وكليمت وشتاينر، وبدرجة أقل، هوغو بال ودوشان. الفكر الميتافيزيقي في الصالة الرابعة، نقارب حقل الفكر الميتافيزيقي الذي دافع عن فكرة وجود عالمٍ خفي لا يمكن بلوغه بواسطة الحواس، خلف العالم المرئي، واستفاد من تطور الفن الفوتوغرافي والاكتشافات العلمية، كأشعة اكس أو النظريات حول الذرّة أو تلك التي تخطت ثنائية المادة والروح، لإثارة تأملات الفنانين مثل كوبكا ودوشان وكاندينسكي وجياكوميتي وشتاينر وسيروزيي. وفي الصالة الخامسة، نشاهد خلفية الفن التجريدي الذي ظهر في بداية القرن الماضي كوسيلة للتحرر من مظاهر العالم الخدّاعة ولتأكيد استقلالية موضوع العمل الفني كمُطلَق. الصالة السادسة تشكّل فضاءً لتساؤلات الفنانين على طول القرن الماضي حول سر الكون وكيفية بلوغ الحقيقة المخفية التي تتمسّك بقدره، أو جعل ما يتوارى عن أنظارنا مرئياً، ولأجوبتهم المختلفة التي تتراوح بين ميولٍ صوفية وأخرى طوباوية. أوغستان لوساج وهيلما أف كلينت مثلاً اعتقدا فعلاً بأنهما وسيطَان لروحٍ متفوّقة كشفت لهما هندسة العالم الروحية المخفيّة. ولدى تأسيس مدرسة"باوهاوس"، اهتم جوهان إيتن وتلميذه غيولا باب بنصوص المتصوّف الألماني جاكوب بوم. أما الفنان المعاصر مات موليكان فيتابع ذلك البحث الذي يهدف إلى الكشف الكوني من خلال وضعه خرائط عالمه الداخلي على طريقة رسوم"الماندالا". وفي السياق ذاته، خُصِّصت الصالة الثامنة للنزعة الطوباوية التي ميّزت مهندسي مدرسة"باوهاوس":"نريد أن نبتكر معاً الصرح الجديد للمستقبل الذي سيرتفع بأيدي ملايين العمّال نحو السماء كشعارٍ شفّاف لإيمانٍ جديدٍ قادمٍ"غروبيوس. الصالة الثامنة تستحضر الصورة الأسطورية"للإنسان الجديد"التي ظهرت في أعمال الفنانين خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين، والتي تطلّب تحديدها البحث عن سلوكٍ وتنظيمٍ اجتماعي يسمح بتخطي الأزمة الروحية. طوباويةٌ لن تلبث الفاشية والنازية أن تضعا اليد عليها وتحرّفا مقصدها. فالفنانون المعنيون نظروا إلى"الإنسان الجديد"كآدم جديد يشهد على حلفٍ أعيد تأسيسه بين الروحي والزمني. وفي هذا السياق، نشاهد لوحات لجان دِلفيل وكوبكا وكلي وشاغال وديكس وعادل عبدالصمد... وفي الصالة التاسعة، تتجلى لنا تلك الرغبة في التجدّد الروحي التي تسلّطت على بعض الفنانين في القسم الأول من القرن العشرين وتجسّدت في انتخاب الطبيعة كمكان طوباوي يمكن أن نعثر فيه على إمكان للخلاص، وكمكان مصالحة الإنسان مع المطلَق كلي، آرب، ومارك، بارانوف، هيكل، مجموعة"دي بروكي"الألمانية.... الصالة العاشرة تتناول موضوع الحرب التي اعتبرها بعض الفنانين المستقبليين والتعبيريين"وسيلة وحيدة لتنقية العالم"مارينيتي وتجربة ضرورية أو مرحلة في اتجاه مجتمع روحاني جديد. أوتو ديكس مثلاً يُقدّم نفسه كفنانٍ يغوص في العالم داخل سديمٍ من الأشكال والألوان ترمز إلى النزوات القاتلة. وموضوع"الطوفان"المتواتر في أعمال كاندينسكي، ذو طابع ألفي يطرح الفنان فيه فرضية الانبعاث ومجيء عالمٍ جديد من الأنقاض. ولكن في الصالة اللاحقة، نشاهد سقوط ميتافيزيقيا الحرب، بعد الحرب العالمية الأولى، وحلول خيبة الأمل واليأس من أي خلاصٍ مكانها، كما في لوحات بكمان وكاندينسكي وديكس ولمبروك... في الصالة الثالثة عشرة، نتوقف عند افتتان الفنانين التكعيبيين والدادائيين والتعبيريين والسرياليين بالفنون البدائية بفضل افتتاح المتاحف الاتنوغرافية ونشاط البعثات العلمية وولادة علم الانتربولوجيا. وأبعد من التأثيرات الشكلية بساطة الأشكال وعنف الألوان واستخدام مواد خام، تأثّرت الطلائع الفنية في القرن العشرين بيكاسو، جانكو، بروتون، براونر، ماتولكا بالطاقة السحرية للقطع الفنية البدائية. في الصالة الرابعة عشرة، يتبيّن لنا كيف أصبح ديونيزوس مرجعاً رئيساً بفضل تقاطع اكتشافات علم التحليل النفسي والأبحاث الاتنوغرافية وفتح فضاءاتٍ جديدة للاوعي واللامعقول، الأمر الذي دفع بفنانين وكتّاب، معظمهم سرّياليون، إلى تركيز انتباههم على جوانب الإنسان المعتمة وإلى التلاقي حول فكرة أن نزوة الموت والتدمير الذاتي هي ملازمة لغزيرة الحياة ماسون، بيكاسو، لوتار، دالي، مان راي، مولينيي. الصالة الخامسة عشرة تركّز على موضوع التجديف الذي استخدمه السرياليون وكثيرون بعدهم بغية كشف الفظ والمبتذل في الأمور الميتافيزيقية. فمن بيكابيا حتى سيرّانو، مروراً بغروس وأرتو وأرنست ودالي ومان راي ومنير فاطمي، عمل الفنانون على إبراز الإنسان الشهواني والفاحش بواسطة مفردات شكلية، وعلى تقويض الخطاب الميتافيزيقي والتشكيك. الصالة السابعة عشرة مرصودة لفظائع الحرب العالمية الثانية التي أدّت إلى إلغاء عمليات السرد التي تقوم على فكرة ولادة إنسانٍ جديد. ففي الأعمال المعروضة، لا يبدو الإنسان بطلاً يلتفت إلى المستقبل، بل جسداً ممزّقاً بلا مبررٍ أو معنى أو قضية بايكون، سترومهولم، غروتوفسكي. في الصالة العشرين، نشاهد كيف حاول الفنانون الأميركيون التمايز والابتعاد من المراجع الفنية الأوروبية، بعد الحرب العالمية الثانية، لبلورة فن رسم جديد، أميركي الهوية ماتا، ماسون، لام، موليكان، بالن، بولوك، روتكو، نيومان.... الصالة الحادية والعشرون تقارب إنجازات جيل"البيت"، ثم التيار الهيبّي"، التي جاءت نتيجة تأمّلٍ في الفكر الصوفي وتفسير النصوص واهتمام بعلم الباطن والقيام باختباراتٍ هلوسية ميشو، غينسبرغ، برمان، بوروس، هيوكسلي، لوبل، كرولي.... في الصالة الثالثة والعشرين، يتجلى أثر الفكر الطاويّ والمذهب الهندوسي وفن الرسم الصيني والياباني في أعمال بعض فناني المقلب الثاني من القرن العشرين، مثل كلاين وكايج وكوتوريي وراينهارت وفيليو. أما الصالة الأخيرة فخُصِّصت لسلسلة"ظلال"وارهول التي توحي لنا بحضورٍ غير مرئي وملغّز عبر أعمال حققها موشي نينيو وبول شان وتشكّل تأمّلاً مثيراً في الأخطار السياسية لعودة الديني بقوة إلى المجتمعات الغربية.