صدر كتاب"الحياة الثانية"لماتيس متأخراً عن المعرض الذي كان من المفترض أن يرافقه تحت العنوان نفسه في"متحف لكسمبورغ". تخصص المعرض والكتاب ببعض المنعطفات الحاسمة الأشد تأثيراً في تيّارات الفن المعاصر. هي السنوات التي استخدم فيها ماتيس ملصقات الأوراق الملونة وشظاياها المقصوصة بين 1941 و1954 عام وفاته. من المثير للانتباه أن توأمه بيكاسو نسخ آخر فصول هذه"المرحلة -الوصية"، واستمر في تطويرها سنوات، معترفاً بذلك، ومقراً بأهمية هذه المرحلة. لا يمكننا أن ندرك أهمية مفروضات هذه المرحلة الا اذا راجعنا بدايات تجربة ماتيس وبالذات تاريخ التعبير النقدي المتعسّف:"الوحشيون"، وهو النعت الذي وسمت به لوحات ماتيس ومجموعته في"الصالون الرسمي"لعام 1905. وذلك لسبب عرض النحّات الكلاسيكي بورديل في"قفص الوحوش"بحسب تعبير ناقد من دون أن يدري أنه يسخر من أرهف ملوّن في تاريخ الفن المعاصر. ثم ما إن استقل ماتيس وجماعته بعد سنتين بمعرضهم الخاص حتى بدأ يجاهر بقوة تأثير الأنظمة اللونية الموسيقية التي اكتشفها في معارض الفن الإسلامي. هي التي أقيمت على ندرتها في باريس ولندن في نهاية القرن التاسع عشر. معارض منمنمات فارسية وسجاجيد اسلامية وسمها هنري ماتيس بوصفه الشهير:"الفن الاسلامي هو الوحيد الذي يقتصر في التعبير على اللون، واللون وحده"تحول هذا الاعجاب الى عقيدة عندما أخذ يعاقر بصورة ميدانية ألوان هذه الصناعات النخبوية ما بين طنجة وتونس. حوّل ماتيس"الزخرفة"التي كانت تهمة الى مشهد لوني روحي معاصر، بلغ تأثيره ما بين موسكو مالفيتش ولاريونوف ونيويورك مروراً بباريس ما بين استيف وكوبكا عبوراً"بالتعبيرية اللونية"في المانيا فرانز مارك وماك اللذان قتلا في الحرب العالمية ثم فان دونجين. بل ان هذه المرحلة تبدو اساساً لعدد من التيارات الانعطافية بخاصة مدرسة نيويورك ابتداءً من فنون"الوهم البصري": أللوني، وانتهاءً ببعض اتجاهات"المنماليزم"مروراً بالتجريدية الأميركية الهندسية التي خرجت منها لوحات صليبا الدويهي. يعتبر ماتيس مثله مثل بهزاد أحد أهم من اكتشف في العلاقات اللونية المسطحة والمشرقة طاقة روحية وتعبيرية هائلة. تخلص مثلاً من عادة"احالة"مقام اللون الأزرق الى السماء والبحر. تحول الأزرق لديه الى كيان حسّي مستقل عن الموضوع. تتراوح برودته وحرارته ما بين اللازوردي والتركواز، مستثمراً حواره الموسيقي البصري مع مقام البرتقالي وضمن احتمالات مفتوحة لا تقبل التنميط أو التكرار. اكتشف ماتيس في تكامل الألوان وتضادها المتزامن معادلاً للعواطف المنزّهة عن الدلالة. وعلى رغم قدرة ماتيس الخلاقة على الرسم المختزل بالخط، فقد تخلّى فجأة في العام 1941 عن القلم والفرشاة، مستبدلاً هذه الأدوات التقليدية"بالمقص". مقتصراً في ذلك على لصق شظايا الأوراق الملونة"بالغواش"على أرضية بيضاء. بدأ بقص عرائسه المشرقية الزرقاء، فبدت بشارته وكأنها اختزال لقصاصات عرائس"خيال الظل"، لعلها أولى بوادر"المنمالية"، والاقتصار في التعبير على المساحات اللونية ضمن نواظم موسيقية مطهرة من أي دلالة أو مضمون سوى اللون المسطّح ذاته. يقول هو نفسه عن هذا التحوّل:"اذا أردنا أن نقنص جوهر التصوير علينا أن نقص لساننا"، دعوة صريحة الى الاستقلال عن المفاهيم والأطروحات النظرية، وتأمل الشكل الملوّن لذاته. منذ تلك الفترة عدّل اسمه"ماتيس"بتورية لغوية فرنسية فأصبح مفصولاً:"ما - تيس"بمعنى حياكتي أو رقشي، الماحاً الى نسج السجاجيد وسواها. يشير في كتابه"مذكرات"الى"الاملاء"الداخلي الغامض الذي يقود حركة هذه الأشكال الفردوسية المختزلة وولادتها، بما يقترب من القيادة القدرية الغيبيّة. معتبراً أن الحدس أو القلب يقود حركة اليد المقص بطريقة"التجلي"والاستسلام المستكين الى الدعة الروحية. لعلّه الجانب التصوّفي الذي نادراً ما نتعرض له في خصوص تجربته الصوتيّة - البصرية، انها أشبه بتجليات أحد رفاق جلال الدين الرومي الموسيقية. تروي سيرته عن ايقاظ صحبه له من غفلة مباغتة فيقول معاتباً:"كنت في الجنة وما تدرون"، أي أنه كان يصيخ السمع الى أجراس أشجار الجنة التي تملي عليه ألحانه عادة. يعمل ماتيس بهذا المنطق الاتصالي القريب من يقين المصوّرين"النقشبنديين"من أمثال الجنيد وبهزاد وشيخ زاده ومظفر علي. تكشف لنا هذه الآلية الحدسية ودعتها الروحية معنى عنوان المعرض والكتاب:"الحياة الثانية"وفق تعبيره، مشيراً الى الحياة الداخلية أو الضرورة الباطنة التي تملك حقائقها الذوقية التي تتفوّق على حقيقة الواقع والحياة الأولى الخارجية... كان ماتيس على قناعة بأنّ من الواجب الانصات بالعين الى موسيقى اللون، من هنا جاءت مواجيده الغبطوية وسعادة ألوانه. فقد كان يقول:"تكفي أحزان العالم حتى نضيف اليه كآبة اللوحة"لعلها الأطروح المناقضة لروح الغضب والاعتراض والمأساة الميثولوجية لدى قرينه بيكاسو. بقي أن نذكر من التظاهرات الرديفة الأشد اثارة، ما عرضته أخيراً"غاليري دي سنتر"من لوحات"برون فيغا"، وهو الذي يكرر مقصوصات ماتيس ضمن تأويل جديد لا يخلو من الحنين الى طوباوية عصره. يجمع أحياناً أساليب الثلاثة: بيكاسو وماتيس وغوغان.