ثمة خشية كانت تسيطر على تظاهرة آرت - باريس أبو ظبي، من تأثير تراجع الأسواق المالية العالمية في حركة الإقبال على اقتناء الأعمال الفنية، غير أن الدعم المادي والمعنوي الذي بذلته"هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث"لإنجاح المعرض ذي الطابع الدولي، أكد إصرار استمرار المشاريع الثقافية في النهوض كي تتحول إمارة أبو ظبي عاصمة فعلية للثقافة والفن. من هذا المنظار أطل المعرض الذي نظمته كارولين كلاف - لاكوست بالتعاون مع لور دوتفيل، كتظاهرة فنية كبرى للفن الحديث والمعاصر. فقد تم اختيار 57 صالة عرض تمثل 22 دولة، بينها 6 دول عربية و16 دولة أوروبية وآسيوية وأميركية، قدمت ما يفوق ال 3300 عمل فني، شكلت بانوراما من الأساليب والمدارس الفنية تعود الى القرنين العشرين والحادي والعشرين. فتح معرض آرت - باريس أبو ظبي، الذي أقيم للدورة الثانية في قصر الإمارات، 17 - 21 نوفمبر/ تشرين الثاني نوافذ جديدة للحوار بين الفنون العربية والعالمية، في مشهدية متنوعة ارتكزت على إبراز تعددية المرجعيات المستقطبة لقنوات الفن المعاصر في المرحلة الحاضرة والاعتراف بالمكنونات الحضارية والبيئة الجغرافية للجزيرة العربية، في مرحلة العولمة وحوار الحضارات التي دخلت بقوة في نسيج الفنون العربية: من اللوحة والمنحوتة وفن التجهيز والفيديو - آرت والفنون الطباعية إلى التقنيات المتقدمة للصورة الفوتوغرافية. ثمة هاجس طغى على اهتمامات بعض أصحاب الغاليريات العالمية يتلخص في عرض التجارب الآتية هذه المرة من فناني المشرق والمغرب العربي، لسبب تميزها عن مثيلاتها في الفنون المعاصرة في الغرب، تشديداً على الغرائبية الجديدة ذات الأبعاد الاجتماعية والنفسية، وقد تمثلت في اختراق"تابو"العوالم الداخلية للمرأة في المجتمعات العربية والإسلامية. هذه العوالم التي لطالما كانت مغلقة محاطة بالأسرار وبعيدة من عدسات التصوير، أضحت بمثابة الصورية المعبرة عن المعاصرة Imagerie Moderne. وهو السبب الذي أدى الى رواج أعمال كل من شيرين نشأت ايرانية وللا السيدي مغربية وكلتاهما تعيش وتعمل في نيويورك على نسق متشابه في الفن. إذ في كل مكان من المعرض تتراءى صورة المرأة المحجبة ذات الغطاء الأسود، وهي تحمل وشماً على كفّيها، ذا طابع شعائري ملغز، يتخذ أحياناً هيئة دوامات، لا تكتنف حياة المرأة فقط بل تغطي بياض عينيها، في شيء من الريبة والدهشة والصدمة الاجتماعية. كأنها عودة الى الاستشراقية، بالمعنى الذي تختزنه الصورة الفوتوغرافية المطبوعة على أحجام كبيرة بسطحها الموشوم بالحروفية، من نسيج بصري لحالة تزيينة حسية تثير العين والعاطفة، ناهيك عن الخيال الشعري. ذلك فضلاً عما تختزنه أعمال الحروفية العربية من الإشارات التراثية الضاربة في عمق الجذور الشرقية، مما يعكس العلاقة مع البيئة والمحيط الجغرافي والتراث الشعبي. فالخط العربي حافظ على بريقه ومكانته في بورصة الفن في أبو ظبي، وهو يندرج في مدارس واتجاهات عدة راوحت بين التقليدية الرتيبة الحاملة مبررات تجارية صرف، وأخرى اختبارية سعت الى إطلاق اجتهادات جديدة قائمة على ايهامات الحامل التصويري ومعطيات الخامات والتقنيات، على غرار الاختبارات التجريدية في أعمال كل من يوسف أحمد قطر وعبدالقادر الريّس الإمارات العربية والمعلقات الشعرية الرائعة المقتبسة من الشعر الجاهلي في تجهيزات عبدالله عكر تونس - فرنسا. الحركة والاتصال التجوال بين أروقة الغاليريات يكشف سياسة التجميع الفني التي تبتغي لفت الانتباه الى تجارب إفرادية لا ترابط في ما بينها سعياً خلف أسماء لها مكانتها في السوق الفنية، بينما حظي المعرض الخاص الذي نظمته أمل طرابلسي المختصة بالفن التشكيلي في الشرق الأوسط، تحت عنوان"الحركة والاتصال: أسفار عبر الصحراء والبحر"، بأهمية استثنائية لدى متذوقي الفن وأصحاب المقتنيات، فحقق رقماً قياسياً في المبيعات. إذ ضم أعمالاً ل 19 فناناً من العالم العربي تسلط الضوء على أثر الصحراء والبحر في الإبداع الفني، من خلال التصوير الفوتوغرافي والرسم والنحت والفخار والتجهيز، وتعكس تأثر الفنانين العرب المعاصرين بمكونات الطبيعة الجغرافية الخلابة التي رسمت الملامح الأولى لحوار الحضارات عبر طريق الحرير. من صحراء موريتانيا وسرابها التجريدي بعدسة دانيال شيخاني لبنان، الى صور التقطتها جوسلين صعب لبنان، فالقماش الشفاف الذي يميز خيم البادية، ثم تأثيرات الملامح البدائية التي ميزت أسلوب فيصل السمرا المملكة العربية السعودية في محاكاة ذاكرته الصحراوية، من خلال تشكيل جداري عبارة عن رسم على جلد الحيوان بتقنية الميكسد ميديا. أما جداريات شوقي شمعون فعكست السفر بين أمواج رمال الصحراء العاتية، راسمة حركة الريح وتموجات الخطوط وانكسارات الظلال على الكثبان، تحت سطوة الأشعة الذهبية التي تطغى على سراب المشهد. انه مشهد صعود قافلة من الناس الذين يتراءون بأحجام صغيرة مثل ورود الصحراء الملونة، بين الرهبة والصمت في محيط لا نهائي من رمال الأزمنة. الملاحظ هو صعود تجارب الفنانين الشبان في إيران الذين درسوا الفن في عواصم عالمية، ويجمعهم الشغف بالتزيين الزخرفي والكتابة الحروفية بالخط الفارسي، ومن بينهم شيفا احمدي وخسرو حسن زاده فن الكيدج، حسان حجاج البوب - آرت، برويز تانافولي نحت - برونز، فرمان فرمايان أرابسك - موزاييك على مرايا، مليحة أفنان وفرهد مشيري وشارل حسين زندرودي حروفية عربية - ميكسد ميديا. وتلتقي احياناً التجارب الحروفية في الفن الإيراني على وجه الخصوص تجربة حكيم غزالي بالحروفية الآتية من تونس والمغرب وسورية ومصر والإمارات العربية. واللافت ان نعثر على جداريات الفنان الجزائري محجوب بن بللا الذي يعيش ويعمل في فرنسا منذ العام 1965 وهي تجاور منحوتات أنطوان بورديل الآتية من ذاكرة تاريخ الفن الفرنسي، وأن تظهر تجريديات التونسي عبدالله بوناتور، جنباً الى جنب التجريد الغنائي في فن جورج ماتيو غاليري بروتيه، وأن تدخل حروفيات نجا المهداوي تونس في مقتنيات الغاليري اللندنية"واتر هاوس آند دود"، وأن يتعرف الناظر إلى موهبة النحات السوري الشاب فادي يازجي ضمن مقتنيات غاليري"أيام". الفنانون المخضرمون ثمة فنانون عرب من جيل المخضرمين والراحلين والشبان، طرحت تجاربهم بقوة، من بينهم فاتح المدرّس وزياد دلول وأحمد معلاّ غاليري أتاسي - سورية. وكان مجيء الفنان الأميركي، اللبناني الأصل نبيل نحاس الى المعرض فرصة للتعرف إلى أعماله المعروضة في غاليري أجيال لبنان، فضلاً عن تجارب فنانين عرب كثر اجتذبتهم غاليري بيت موزنا سلطنة عمان والبارح البحرين وغرين آرت وغاليري ب21 دبي والمرسى تونس. استطاع معرض آرت - باريس أبو ظبي، أن يقيم جسراً بين جاذبية فنون الحداثة وعمالقتها الكبار والفن المعاصر، بدءاً من بعض روائع الانطباعيين رينوار وسيسلي وسيزان، والوحشيين ماتيس وفان دونجان والتكعيبيين رسوم ولوحات لبيكاسو والتعبيريين مارك شاغال والسورياليين سلفادور دالي وخوان ميرو وتجمع الكوبرا كارل آبل وألشنسكي والفن الخام جان دوبوفيه، وصولاً إلى أعمال متميزة لفناني البوب - آرت البريطانيين في طليعتهم روبرت أنديانا والأميركيين جيم داين وآندي وارهول وكيس هارينغ، وفناني الواقعية الجديدة الفرنسيين ايف كلان وسيزار وآرمان وماتيو فضلاً عن الموضوعات التي تعبر عن روح العصر في أعمال ميكال انجلو بيستوليتو. وزائر المعرض يكتشف بين أرجائه أشهر رسوم للأماكن التي غلفها كريستو بالأقمشة، وشخصيات فرناندو بوتيرو فضلاً عن منحوتات جياكومتي ومارينو ماريني، انتقالاً الى الحديد المضغوط الملون في عمل جون شمبرلين. غير أن فنان البوب الأميركي آندي وارهول كان من أكثر فناني القرن العشرين انتشاراً بين غالبية مقتنيات الغاليريات الأميركية، التي جمعت له عشرات اللوحات الزيتية الصغيرة الحجم وجه جاكلين كينيدي وعلبة حساء كومبيل والدولار الأميركي وسواها وعشرات المطبوعات الحريرية لوجوه نساء أشهرها وجه مارلين مونرو. وتستوقف العين غرافيكية الأميركي كيس هارنغ التي تتراءى على سيارة حمراء مكشوفة، مغطاة بنسق من الكتابة الخطوطية باللون الأسود، كثيراً ما اجتذبت الزوار لالتقاط الصور التذكارية الى جانبها. وكذلك العمل التجهيزي المنتمي الى الفن الفقير الذي قام به الفنان الكوري"باك سون غي"وهو عبارة عن مجسمات لمحتويات غرفة مكوّنة من قطع الفحم المتدلية من حبال النايلون الشفافة. أما منحوتات الأخوين"كلود وفرانسوا خافيير لالن"وهي عبارة عن تماثيل لحيوانات وحبات فاكهة برونز مغطى باللون الذهبي أو الفضي فتصلح كقطع فنية للعرض أو للاستخدام: كراسٍ وطاولات ومكاتب عصرية، غير أن غالبيتها كانت مطيّة للأطفال الزائرين للمعرض مع ذويهم. وكثيراً ما تهافت الحاضرون لاكتشاف مطبوعة الفنان داميان هيرست التي سبق أن بيعت نسخة منها بخمسين مليون يورو لأحد التجمعات الاستثمارية في مزاد سوثبيز في لندن. واللوحة عبارة عن رسم لجمجمة إنسان يحمل على جبينه قطعة ألماس وهي عمل طباعي من نوع السيلسكرين على ورق يحتوي على سطحه نثار الألماس مما يعطيها لمعاناً مدهشاً، يليق بالحياة أكثر من الموت. ولا يكتشف زائر المعرض متعة النظر إلى الأعمال النحتية إلا في حديقة قصر الإمارات المزدانة بتماثيل عملاقة لفنانين مثل ايغور ميتوراج جذع إنسان - من البرونز، وآلن جونز تاكسي ونيكي دو سان فال الموسيقي الأميركي لويس أرمسترونغ والأخوين لالن قطيع الخرفان المتموضع في الحديقة بجوار حوض مياه. في البعيد ثمة منحوتة لجان فابر، تجسد رجلاً يقود سلحفاة بحثاً عن مثالية مفقودة في عصر سماته السرعة. وكأن شيئاً ما يظل دوماً خارج إيقاع الزمن، شيئاً شبيهاً باللحظة الشعرية التي تتولد من منظر المغيب في حديقة لا يحول بينها وبين موج البحر الأزرق سوى الرمل الناعم الأبيض للشاطئ، حيث يولد في هدوء الطبيعة وروعة المكان حوار بين فنانين من العالم.