يتحول الصالون الدولي للفن المعاصر "آرتويل" عاماً بعد عام، تظاهرة احتفالية بالعمل التشكيلي، ولكنها ترتدي طابعاً تجارياً صرفاً، يخلو من أي طرح ثقافي أو شعار فني، يعطي لبيروت حقها من الأهمية كعاصمة للإبداع المحلي والعربي وكنافذة للفن العالمي. هل يكفي أن تقوم الجهة المنظمة للصالون، بدعوة أصحاب الغاليريات للمشاركة وحجز أمكنتها في أجنحة ال"بيروت هول" فقط لأجل اصطياد زبائن الفن على نطاق واسع ومنفتح وتنافسي بالضرورة؟ وإذا فشلت الغاليريات في تسويق معروضاتها تكون الخسارة مضاعفة عليها لأسباب تكاليف العرض، وتكون غايات الصالون المتجهة لإغناء فرصة التلاقي والتعاطي مع جمهور الفن عبر أصحاب المهنة قد أحبطت أيضاً!! وإذا كانت أفكار الأرتويل تتجه الى التسويق الفني فحسب، في تقليد مشوّه لتظاهر الفياك Fiac في باريس، فإن الأخيرة تسعى لترويج الفن ضمن آلية إنتاجية كبيرة، تتغطى بطروحات ثقافية تطاول فنون العالم والحضارات والإتنيات ما عدا العالم الثالث. وذلك ضمن شعارات تحريضية وقضايا تتعلق بذاكرة الفنون المعاصرة وآفاقها المستقبلية. لذلك لا يمكن التعاطي مع الصالون الدولي الثالث للفن المعاصر، إلا "كبازار" للمعروضات التشكيلية الآتي بعضها من كساد موسم الشتاء الى مهرجان موسم الصيف. أو هو مناسبة استعراضية للغاليريات ومعظمها لبنانية، ذلك لأن الإطلالة العالمية ضعيفة وفقيرة أو تكاد تكون غائبة وكذلك الإطلالة العربية. فقد شارك في "الأرتويل" 32 غاليرياً من 12 بلداً عربياً وعالمياً لبنان وسورية والأردن والبحرين والسودان والعراق وقبرص وفرنسا وألمانيا وسويسرا والبرازيل والولايات المتحدة الأميركية من ضمنها 13 غاليرياً لبنانية وكذلك محترف خاص بالفنان هرير. عند مدخل ال"بيروت هول" وُضعت منحوتة زياد أبي اللمع وهي منفذة من الحديد المطلي بالألوان، وفي محاذاتها أعمال تنتمي الى "فن التجهيز"، وهي لأنيتا توتيكيان وماريو سابا، ثم تطل في مقدمة الأجنحة رسوم شارل خوري ومجسماته الخشبية. وهي عبارة عن كائنات خرافية ظريفة، بألوانها وأشكالها وأحجامها، شبيهة بألعاب الأطفال. وبمحاذاتها تجارب من سمير خداج في أعماله التجريدية المتحررة ومن إيلي كنعان في زيتياته ذات الألوان الغنائية الحارة. هكذا تبدأ العين لتهتدي شيئاً فشيئاً من تلقائها، على أسماء الغاليريات التي تدل عليها أعمال الفنانين وهي باتت عناوين معلقة وثابتة أو تكاد. وكأننا ندرك مسبقاً مختارات الغاليريات اللبنانية، ومن معروضاتها التي قلما تتغير من عام الى عام. وثمة حال تسابق بين الغاليريات لتطعيم الإنتاج اللبناني بأسماء فنانين أجانب، ربما للفت الانتباه أو بحثاً عن التجديد والانخراط في مجريات فنون الغرب. وأحياناً يعثر المشاهد على أسماء غاليريات لبنانية جديدة لم يسمع بها من قبل، وليس لها أي حضور على الساحة الفنية وكأنها استحدثت لترويج بعض الأنواع الفنية. وبديهي أن نبحث عن الجديد في معروضات كل من غاليري "جانين ربيزا" و"الأيبروف- دارتيست" لأنهما في الطليعة. ولكننا نلاحظ أهمية المختارات التي انتقتها أوديل مظلوم اندراوس من مجموعة غاليري "ألوان" لكل من شفيق عبود وأسادور وفريد عواد وحسن جوني وبيار - جان كواراز. ومعروف أن غاليري ايماغوس تعرض حصراً إنتاج عائلة غيراغوسيان. أما غاليري "مرايا" فاختارت باقة من الرسامين الشبان: أبرزهم صلاح صولي، كذلك فعلت غاليري "صادر". أما صالح بركات فخالف تقليد التعليق الجماعي لأعمال الفنانين واختار بعض المنحوتات البرونزية الخاصة بالنحات العراقي منقذ سعيد، كمقدمة للمعرض الذي سوف يقيمه له في غاليري "أجيال". والملاحظ أن بعض الأسماء التي أطلقها متحف سرسق في معارض الخريف الأخيرة، وجدت لها مكاناً في أجنحة "بيروت - هول" عبر صالة "سنتر داغر" التي تتبنى عادة، الاتجاهات الجديدة والمغايرة في الفن الجديد ولاسيما المرتبط منها بفن التجهيز والتركيب و"الفيديو- آرت" كأعمال فولفيو قدسي وآرام جوغيان وسواهما. وعلى رغم أن المشاركة السورية لافتة ومميزة، فهي تذكّر بمعروضات العام الفائت ولاسيما لوحات فاتح المدرس ونزار صابور وجبر علوان، التي تملكها غاليري "أتاسي". أما غاليري "قزح" فعرضت تجارب صفوان دحّول على الخشب ومصطفى علي في النحت. إلا أن موجة الرسم على الخشب العتيق تجتاح الفن السوري الشاب ربما لأنه يثير الحنين الى التراث الشرقي القديم الذي يتمثل في المنازل العربية الطراز، بنوافذها وأبوابها المتفسخة من عوامل الزمن أو الهجر أو الإهمال. وذلك في مناخات ايقونوغرافية تستعيد بعضاً من سحر الأيقونة البيزنطية بأسلوب معاصر. فهاجس الأمكنة المفعمة بذاكرة الطقوس الشرقية، يطغى على تطلعات بعض الفنانين الذين يكملون المسار الذي بدأه كل من لؤي كيالي وفاتح المدرس. أما النحت العراقي الشاب فيهجس بأطياف جياكومتي وما يعتورها من رموز تتقاسم الحركة مع تلك القامات المتطاولة. كأنها وحدة الكائن ومأساته في الوجود هي تلك التي تظهر في أعمال عماد الطاهر ومنقذ سعيد. وربما جديد الصالون الثالث للأرتويل، تمثل في دخول السودان، الى دائرة العرض عبر غاليري "دارا للفنون" التي قدمت تجارب الفنان راشد دياب، في المحفورات الآحادية - المونوتيب - والأعمار الزيتية، المستوحاة من التجريد المعاصر الممزوج بالتراث البدائي والصحراوي السوداني. ذلك التراث المدبّج بالزخارف والوشم والطلاسم. في جانب من المعرض تراءت أعمال "هرير" وهي منثورة على طول الواجهات وعرضها، في الجناح المخصص لإنتاج محترفه، في مشاركته الخاصة التي لا يرى أنها تحتاج في علاقتها مع الجمهور الى وسيط. وكذلك فعلت منى السعودي. وكان من الأجدر أن ينتمي إنتاجها في الرسم والنحت الى محترفها الخاص، وليس أن يُفهم أنه يمثل الفن الأردني!! ويتوقع المرء أن يجد في غاليري "تانيت" التي تديرها اللبنانية "نايلا كتانة" التجارب الطليعية للفنون الألمانية، فلا يعثر إلا على وجوه جان - مارك نحاس ومنحوتات زياد أبي اللمع. كما يتوقع أيضاً أن تحمل الغاليريات الفرنسية الى لبنان، مشاركة أوسع في تغطيتها لاتجاهات الفنون الصاعدة في فرنسا وأوروبا. فيكتشف أنها لا تحمل الى العين الفضولية أي جديد لافت، على رغم وجود بعض المحفورات والقطع ذات الأحجام الصغيرة، لأسماء كبيرة، من أمثال كورنيل وفرناند ليجيه ونيكي دي سان فال وميوت وسواهم. ربما استطاعت غاليري "الفن الحر" الفرنسية أن تطرح بجدية موهبة الفنانة "فرانسواز بودرو" التي تعتمد في تنفيذ لوحاتها على العجائن والمواد المختلفة واللصق، بغية إيجاد حوار متنوع الإيقاع بين علاقات انسانية مقطوعة. واستطاعت غاليري "فيفاندي" الفرنسية، أن تطلق "فانسان ماني" كموهبة عصامية مميزة في النحت والتصميم، ولاسيما أن أفكاره أثارت من قبل إعجاب بعض الغاليريات اللبنانية التي عرضت له مقامات إنسانية منفذة بالحديد على طريقة "الروسور" Ressort المتحرك. وعلى رغم كل الثغرات، فإن وجود "الأرتويل" كتقليد فني هو ضرورة ملحاح وحاجة، كحاجة تلازم التجارة والفن. ولكن إذا خلا من حيوية المضمون الثقافي، سيفقد "الأرتويل" قدرته على استقطاب ليس المشاركة العربية والعالمية فقط، بل الغاليريات اللبنانية وهي العمود الفقري لتلك التظاهرة. وفي المقابل يتمتع "الأرتويل" بمستوى فني مقبول وهو على أي حال، مناسبة جيدة لمن فاته الموسم الفني لبيروت.