بعدما قدّم قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال بترايوس والسفير الأميركي في بغداد رايان كروكر تقريرهما المشترك حول السياسة الأميركية في العراق الى الرئيس بوش، أصبحت الأوساط العراقية المعتدلة تتوقع أن يركز بوش في المرحلة المقبلة على العملية السياسية العراقية. فهذه العملية التي واجهت عراقيل كثيرة، تشكل، في المحصلة النهائية، بوصلة النجاح أو الإخفاق للاستراتيجية الأميركية الخاصة بالعراق. وطلب كروكر من الرئيس والكونغرس دعم جهوده من أجل الإسراع في إحراز تقدم ملموس في إطار العملية السياسية التي تجد نفسها في المصالحة الوطنية. لهذا كلّه، قد يولي الرئيس بوش تنشيط العملية السياسية في العراق اهتماماً استثنائياً خاصة بعد أن اقنعه تقرير بترايوس - كروكر بجواز خفض تدرجي نسبي للقوات الأميركية العاملة في العراق. والهدف من التركيز الأميركي على العملية السياسية هو التمهيد لأن يأتي التقرير المقبل للسفير كروكر في آذار مارس المقبل، اي قبل أشهر من موعد الإنتخابات الرئاسية الأميركية، محطة أخرى لنجاح استراتيجيته العراقية التي لقيت خلال الأشهر الماضية انتقادات عنيفة داخل أميركا وخارجها. أياً تكن الحال، فالمتوقع أن يشرع البيت الأبيض، في بحر الأسابيع القليلة المقبلة، بالتركيز على ملفات ملحة في إطار العملية السياسية العراقية، على أمل أن يعزز هذا نجاحات قواته الأمنية والعسكرية. وتعتقد الأوساط العراقية أن تشكل الملفات التالية أهم ما ستركز عليه إدارة بوش في الأشهر المقبلة: 1- مضاعفة الضغوط على حكومة نوري المالكي بغية دفعها الى تعامل جدي مع عملية المصالحة الوطنية خصوصاً المتعلقة منها بالتصالح مع التكوين السني العربي في العراق. لهذا، تأمل تلك الأوساط أن يشدد الرئيس بوش في أحاديثه مع المالكي حين يزور الأخير واشنطن في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري، على ضرورة التركيز على استكمال عملية المصالحة الوطنية. 2- مضاعفة الجهود لاقناع المالكي وبقية القوى الشيعية العراقية، بما فيها"المجلس الأعلى"الإسلامي العراقي وتيار الصدر وحزب"الدعوة"وبقية منظمات الإسلام السياسي الشيعي بالابتعاد عن إيران وعدم السماح بانتشار نفوذها في العراق. في هذا الإطار، قد يشرح الأميركيون للمالكي أن المراهنة على دور إيراني إيجابي في العراق لا يمكن أن تكون رابحة. فأجواء الصراعات الأميركية والدولية مع إيران تتصاعد وتنذر بتطورات مستقبلية خطيرة. كما أن واشنطن غير مستعدة للقفز على مصالح التكوين السني في العراق لأسباب لا أقلها أن هذا التكوين أساسي في العراق وأن الدول العربية تلح على ضرورة احترام إرادته. كما أن دمج السنة في إطار العملية السياسية في العراق سيفقد"القاعدة"ميداناً حيوياً من ميادينها الإرهابية. والأكيد، في رأي الأميركيين، أن الثمن الذي ينبغي أن تدفعه حكومة المالكي في سبيل إنجاح عملية دمج السنة العرب في العملية السياسية هو تخلي أوساط شيعية عدة في أوساط الحكومة العراقية عن الاتكاء على نفوذ إيران. والأرجح أن تشدد واشنطن على أن إذعان المالكي لهذه الشروط سيشكل الإشارة الحقيقية الأكثر أهمية لبقائه أو رحيله عن السلطة. 3- في المقابل، ستحاول الإدارة الأميركية إقناع القوى السنية العربية في غرب العراق ووسطه، أحزاباً وعشائر، بعدم التخوف من التعامل المباشر مع حكومة بغداد ذات الصبغة الشيعية والكردية. فالعراق الجديد الذي يجري بناؤه يقوم أصلاً على معادلة تكافؤية دقيقة بين التكوينات العراقية. ثم ان السنة العرب سيرتكبون خطأ فادحاً إذا اعتقدوا أن الولاياتالمتحدة مستعدة للانسحاب من العراق أو لاخراج السلطة الحالية من أيدي الشيعة والأكراد بغية تسليمها الى السنة العرب وإعادة تشكيل دولة عراقية مماثلة للعراق القديم. لهذا فإن الأميركيين غير مستعدين لدفع الاثمان السياسية الباهظة مقابل ضمان تعاون سني عربي مع بقية التكوينات العراقية. ولا بد من الإشارة الى أن القوى السنية العربية في العراق لا تشعر بأي حرج من الحوار مع الأميركيين أو التعاون والتنسيق معهم. بل ان الزعيم العشائري عبدالستار أبو ريشة الذي قتل قبل ايام في انفجار غامض في محافظة الأنبار، لم يتوان عن إعلان دعمه لسياسة الرئيس بوش وانخراطه في مقاتلة منظمة"القاعدة". لكن المشكلة أن تلك القوى تفضل الحذر في موضوع التعاون مع حكومة المالكي بذريعة النفوذ الايراني الطاغي على سياساتها. هذه الحالة، بحسب الأوساط السنية العراقية، قابلة للتغيير إذا أبدت حكومة المالكي استعداداً للابتعاد عن النفوذ الإيراني وإذا سارعت الى إلغاء قانون اجتثاث البعث في شكله الراهن وأبدت استعداداً لدمج البعثيين في المجتمع السياسي العراقي. 4- ستحاول الإدارة الأميركية مضاعفة ضغوطها على طهران ودمشق لاقناعهما بوقف تدخلاتهما في الشأن الداخلي العراقي. في هذا الخصوص، قد تلجأ واشنطن الى تكثيف جهودها على صعيد التلويح بوسائل التهديد والوعيد العسكري والعقوبات الاقتصادية ضد الدولتين. لكن الاكيد أنها ستفضل في البداية اللجوء الى وساطات إقليمية ودولية، أو عبر قنوات الأممالمتحدة، أو حتى عبر المؤتمرات والاجتماعات الخاصة بدول الجوار كالمؤتمر الذي عَقد في بغداد قبل أسابيع. 5- الأرجح أن واشنطن ستطلق حملة ديبلوماسية وسياسية واسعة لحشد تأييد عربي وإسلامي لسياستها العراقية بعدما أكد تقرير بترايوس - كروكر حصول تقدم في الميدانين الأمني والعسكري في العراق. في هذا الإطار، ترى الإدارة الأميركية أن دول الجوار العربي والإسلامي مطالبة بدعم العملية السياسية والاقتصادية والديبلوماسية في العراق. وكذلك بممارسة نفوذها في اتجاه إقناع التكوينات الداخلية العراقية باللجوء الى لغة الحوار السياسي لحل خلافاتها والاتفاق على صيغة عمل وطني عراقي يتوافق حولها الجميع. 6- تخصيص مبالغ وميزانيات، عراقية وأميركية ومن الدول المانحة، لإصلاح قطاع الخدمات وتنشيط الدورة الإقتصادية خصوصاً في العاصمة بغداد والمدن التي تضررت من أعمال المواجهات خلال السنوات الأربع الماضية. في الواقع، يشكل هذا الأمر تحدياً لا يقل في انعكاساته في ميدان الوضع الأمني عن بقية التحديات السياسية والعسكرية. ففي رأي الأميركيين والعراقيين المعتدلين أن الحالة الاقتصادية والمعيشية المتردية في العراق شكلت، ولا تزال تشكل، مصدراً أساسياً من مصادر الإرهاب. 7- زيادة الجهود السياسية والعسكرية والأمنية في اتجاه تجريد جيش المهدي من سلاحه. في هذا المنحى، ستحاول واشنطن إقناع المالكي بممارسة نفوذه في اتجاه تحويل التجميد الحالي لجيش المهدي لفترة ستة اشهر الى قرار حاسم بحله نهائياً. وفي حال عدم رضوخ الصدر، المطلوب من المالكي وقف تحالفه مع الصدر والتعاون بشكل صريح مع القوات المتعددة الجنسية لتجريد ميليشيات المهدي من اسلحتها. والمتوقع أن تزداد وتيرة المواجهات على الخط الأوسط الأنبار - بغداد - ديالى. وتزداد معها عمليات إقناع عشائر أخرى في ديالى وكركوك والموصل بالانخراط في مواجهة"القاعدة". الى هذا، لم يفهم العراقيون قرار الرئيس بوش سحب أقل من ستة آلاف جندي أميركي من بلادهم في غضون الاشهر القليلة المقبلة، على أنه إشارة الى تراجع في أفق السياسة الأميركية إزاء العراق. لكن الاكيد أن التقرير العسكري والسياسي المشترك وما بعده، سيسهم في تعزيز موقع السفير كروكر ودفع دوره الديبلوماسي والسياسي الى مقدمة العمل الأميركي في العراق. * كاتب عراقي