هجر طلاب المدارس الفرنسية ثقافة النخبة. ويستسيغ، الشباب، اليوم، الثقافة الشعبية والاستهلاكية. فنقل الثقافة من جيل الى آخر شهد انعطافاً كبيراً في سيرورة التوارث الثقافي المعهودة بين الأجيال. وتُبلور، اليوم، قيم التراتب الثقافية في كنف الأنداد والاقران. فانتقال هذه القيم، عمودياً، من الأهل إلى الأبناء لم يبق الشائع ولا الغالب. ويعزز ضعف دالة قيم الأهل مكانة الثقافة الشعبية في نفوس الشباب. وثمة حلقات شبابية يتباهى المشاركون فيها بالامتناع من قراءة الكتب، وسماع الموسيقى الكلاسيكية، وتذوق الأوبرا وغنائها. فعدد لا يستهان به من الشباب فقد اهتمامه بالثقافة. وبعضهم لا يخفي عداءه الثقافة ونبذه لها. ويرى الشباب ان ثقافة النخبة"بورجوازية"، وموروثة من أجيال سابقة بائدة. ويرفضون ان تكون هذه الثقافة جزءاً من اهتماماتهم ومشاغلهم. ولا ينجم عن نبذ الشباب ثقافة الأهل، ومراتبها ومراجعها فراغاً ثقافياً. فثقافة بديلة من الثقافة"المثقفة"تولد من رحم البيئات الشبابية وميولها. ولا شكّ في أن ثقافة"الماضي"تأفل، شيئاً فشيئاً. وجليّ أن الانفصال عن ثقافة الأهل شائع في جيل الأبناء. ويغرد الشبان الملتحقون بمدارس راقية وخاصة، وهم من"ورثة"ثقافة الأهل، خارج سرب عامة الشباب. وبلغت نسبة من يتذوقون الموسيقى الكلاسيكية في هذه المدارس 30 في المئة، نظير صفر إلى 2 في المئة في مؤسسات تعليمية أخرى. فآباء التلامذة الملتحقين بمدارس راقية يراقبون أولادهم في أثناء مشاهدة التلفزيون واستخدام الإنترنت، ويمنعونهم من لعب ألعاب الفيديو في البيت. وشطر كبير من الطبقات الاجتماعية الوسطى والعليا لا ينقل قيمه الثقافية والتربوية الى أبنائه، على ما كان يحصل في الماضي. وجيل الآباء المعاصر تخلى عن رعاية ثقافة الأبناء. فالآباء يرتضون تنوع الخيارات الثقافية في المنزل. وهم يحترمون، أكثر مما مضى، رأي أبنائهم، ويراعون ذوقهم في اختيار ما يسمعون ويقرأون. وهذا التحوّل في علاقة الشباب بالثقافة وثيق الصلة بتغير القواعد الناظّمة للعلاقات الأسرية. والولد أمسى يملك حيزاً خاصاً داخل منزل الأسرة. وفي هذا الحيز المجهز بتلفزيون ومسجل، أو"أي بود"، وكومبيوتر وانترنت وهاتف، يستقل الابن او الابنة عن الأهل وثقافتهم. والأهل يقرّون بأصول التعامل المستجدّة، فيقرعون باب غرفة صغيرهم، ويستأذنوه قبل الدخول. وفي وسع الولد ألا يأذن لهم بالدخول. وهذا قرينة على انقلاب الأحوال: فإلى وقت غير بعيد، كان دخول حجرة نوم الأهل محظوراً على الأولاد. فالوالدان يحملان الولد على إنشاء عالمه الثقافي الخاص، ويحثونه على اختيار هويته و"تثبيت"ذاته، على الاستغلال ثقافياً عن آبائهم. ويقيمون شبكة علاقات خاصة بهم وغير أهلية، ويستقبلون الاصدقاء، ويعيشون حياة اجتماعية خاصة بمنأى من الأهل وعيونهم. وفي ستينات القرن المنصرم، عارض الجيل الشاب ثقافة البالغين. وأبصرت النور حركات تناهض الثقافة السائدة، وتمرد الشباب على ثقافة الأهل. ولكن الشباب لم يستبعدوا الميراث الثقافي العائلي استبعاداً كاملاً. وعلى خلاف جيل الأمس، انقطعت ثقافة الشباب المعاصر من ثقافة الأهل، ولم تنهل مراجعها الثقافية من السلف وقيمه. وهي ليست في مواجهة مع ثقافات الأهل، ولكنها خارجها. ويجب دراسة مؤشرات هذا التغير الاجتماعي، ومتغيراته. ومن هذه المؤشرات الجنس سواء كان الشاب ذكراً أو أنثى، ونزول أسرة الشاب في وسط المدينة، أو في محيطه، أو ضواحيه. ففي الضواحي يختلط الشاب أكثر بمحيطه الاجتماعي، ويتأثر به. وتشذب دينامية الاختلاط الاجتماعي بين الشباب ذوق هؤلاء. فيبتعد الشاب عن قراءة كتب معينة، او عن الاستماع الى موسيقى لا تلقى رواجاً في الأوساط الشبابية، ولا تيسر تفاعلهم مع أقرانهم وأندادهم. والعروض الثقافية المتنوعة هي في متناول أبناء وسط المدينة، والقيود المفروضة على ثقافة النخبة ضعيفة. والحق ان الثقافة الشعبية، وهي سائدة في الضواحي وتدعو الى ما تحظره ثقافة الأهل، تدين انصراف التلميذ الى الدرس ونجاحه فيه، وتشجب حب قراءة الكتب أو مشاهدة فيلم قديم بالأسود والأبيض. وتغيب هذه المحظورات عن عالم التلامذة المنتمين إلى طبقات اجتماعية ميسورة وراقية. فالثقافة الشعبية هي ثقافة عامة، وجوهرها مشاركة الآخرين أذواقهم. ودور وسائل الإعلام راجح في هذه الثقافة. فالشباب يتكلمون عن برامج تلفزيونية، أو أفلام سينمائية، أو مغنّين. وشرط اندماج الشاب في المدرسة، وفي شلة أصدقاء، هو إلمامه بالثقافة العامة"التلفزيونية"هذه. فالمدرسة هي حيز اختلاط وفيه يمضي التلميذ ساعات طويلة. ودالة البيئة المدرسية الاجتماعية كبيرة. وهذه الثقافة الشعبية لها سندان، الأول السلع الإعلامية الجماهيرية، والثاني وسائل التواصل التكنولوجية. فموضوعات هذه الثقافة تُناقَش في وسائل التراسل الإلكتروني على شبكة الإنترنت، وخصوصاً على موقع"أم أس أن"للدردشة. وتستضيف بعض المنتديات الإلكترونية هذه المناقشات. فبعد بث التلفزيون البرامج والأغاني ونشر المجلات أخبار النجوم، تقترح الثقافة العامة على المشاهدين الشباب"سلّة"ثقافية جاهزة. ولا تبعث الموسيقى او كلمات الأغنية وحدها الإعجاب في نفوس الشباب. فالأغنية لا تقتصر على الأداء الغنائي والموسيقي. وهي تروج"موضة"ثياب، وطريقة في المشي أو في تصفيف الشعر. والإعلام يقترح نماذج أخلاقية على المراهقين. والتلفزيون، اليوم، هو من أبرز وسائل التنشئة الاجتماعية، ومن أنجع وسائل نقل القيم الى الناشئة. ويحتذي الشباب حذو الشخصيات التلفزيونية. فهم يراقبونها، ويحاكون بعض تصرفاتها وأسلوب مخاطبتها. وهذه"المعرفة"التلفزيونية تثير اهتمام شلل الشباب، وتدور مناقشاتهم عليها. وهذه المعرفة هي في مثابة الرابط بين أعضاء الجماعة ولحمتهم. ووطأة مخالفة رأي الجماعة، والإفصاح عن رأي شخصي وميل فردي ثقيلة. فمن يغامر ويطعن في ما تجمع الجماعة عليه يُستبعد من الشلة، ويطرد. فيعاني الشاب جراء تمسكه برأيه العزلة والوحدة. والمراهق يرى ان الوحدة لا تطاق. فعلى سبيل المثال، يزعم الشباب ان مقياس شعبية شاب ما هو عدد أسماء الأصدقاء في مفكرة أسماء وأرقام هاتفه الخليوي. وإذا لم تكن الموسيقى الكلاسيكية أو موسيقى الجاز رائجة في وسطه، تكتم المراهق عن ميله الى هذا النوع من الموسيقى. وزاول هوايته في المنزل وبعيداً من عيون وآذان الأصدقاء والزملاء. فينتقل المراهق من مسرح الحياة العامة، وهو المدرسة، الى كواليس الحياة الخاصة. وفي هذه الكواليس، يسع الشاب التخفف من الدور الموكل إليه في إطار الجماعة. ونجاح المراهق في مقاومة ضغط الجماعة رهن تحليه بشخصية قوية. وخلف ميل الشباب الى الانفصال عن ثقافة الأهل والنخبة أثراً سلبياً في أدائهم الدراسي، وفي علاقاتهم بالفتيات. وعلى خلاف المراهقين، تميل المراهقات الى إقامة صداقات شخصية ثنائية مع صديقة أخرى أو ثلاثية مع صديقتين. وسند هذه الصداقات الأنثوية هو الثقة المتبادلة بين الصديقات، وثقافة البوح بالمشاعر والمشاغل. وصداقات المراهقين الفتيان غير شخصية. وتكون الصلة بالصديق ضعيفة، ومحورها أمور عامة وتلفزيونية. ويفوق عدد أصدقاء الشباب عدد صديقات الشابة. وفي العلاقات الأنثوية الشخصية، لا تُطالب الصديقة بمماشاة آراء الشلة، ولا يفرض عليها الإجماع على ما تقترحه جماعة الصديقات. وينزع الصبيان نحو أفلام وألعاب فيديو تنطوي على التشويق والعنف، ويرفضون قراءة الكتب. ويزعم الشباب أن القراءة فعل هادئ يليق بالفتيات. فتتسم تصرفاتهم وأفعالهم بالعدائية والعنف. ويتناول الصبيان والبنات الثقافة من زوايا مختلفة جداً. ولا شك في ان حمل الشباب على التماهي بثقافة النخبة عسير على المعلمين. فهؤلاء يمضون ساعات قليلة يومياً مع الطلاب، ولا ينجحون في استمالة تلاميذهم الى ثقافة النخبة. وهذه تفتقر الى وسائل الترفيه الجماهيرية الجذابة. ولا شك، كذلك، في ان المدرسة هي معقل نقل الثقافة الى جيل الناشئة الأخير. ويجب تذليل مشكلات الشباب في المدرسة، والاحتذاء على تجربة المدارس الأميركية، أي قراءة نصوص قصيرة مع الطلاب، وتغيير المناهج لتماشي اهتمامات الشباب وتواتيها. عن دومينيك باسكييه باحثة فرنسية، "ديبا" الفرنسية، أيار مايو - آب أغسطس 2007