لصعود حركات اليمين المتطرف في أوروبا مظاهر شبابية. فإضافة الى ان اجسام الحركات والاحزاب اليمينية هي شبابية، فإن الكثير من مظاهر نشاطاتها لا يمكن توافره إلا في الشباب. فإعادة بعث الروح الوطنية القديمة، ومضاعفة المشاعر القومية، والعداء للاجئين ... جميعها تتطلب تمسكاً بقيم وأذواق يشكل تبني الشباب أحد أهم مظاهرها. فالموسيقى مثلاً تشكل محط انظار اساسي لهذه المجموعات، إذ الموسيقى المحلية وتلك القوية المنبعثة من الطبول يمكن لها ان تشكل باعثاً للمشاعر القومية. الثياب أيضاً، فمعظم الجماعات اليمينية في الدول الأوروبية تتمثل بالأزياء القريبة من ازياء المنظمات الفاشية والنازية، إضافة الى احتقارهم الى نزوع الشباب لتنويع مصادر ثيابهم. ويميل معظم شبيبة الاحزاب اليمينية الأوروبية الى حلق الشعر وإلى ارتداء ثياب خاصة وإلى تقاليد صارمة في النظام والالتزام بالقواعد الداخلية لحركاتهم. ملفنا هنا جولة في أذواق شبيبة هذه التيارات الصاعدة في أوروبا. من فرنسا وروسيا. للمرة الأولى في تاريخهم الانتخابي اقترع 20 في المئة من الشبان 18 الى 25 سنة لمرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبن، في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية. ولم يقلوا عن 21 في المئة في الدورة الثانية. ويزيد متوسط المقترعين الشبان لمرشح "الأمن" وضبط عمالة المهاجرين وهجرتهم و"الأولوية" الفرنسية في العمل والتجارة، ولداعية العودة الى التزمت الأخلاقي وسلطة المراتب "العليا" سناً وجنساً واجتماعاً وأصالة على المراتب الدنيا - يزيد عن المتوسط العام او الوطني الفرنسي ثلاث نقاط الى اربع نحو 17 في المئة. ولعل اضطلاع الفتيان والشبان، بين دورتي الانتخابات في أوائل ايار مايو المنصرم، وفي أواخره، بشطر كبير من التظاهرات المناهضة للوبن، ودورهم "التعبوي" في انحياز فوق اربعة اخماس الفرنسيين 82 في المئة الى المرشح اليميني المعتدل جاك شيراك، من الأمور التي تنبئ عن انقسام الشباب الفرنسي كتلتين متناقضتين وإن غير متكافئتين عدداً. ويلاحظ المراقبون ان معظم ناخبي جان ماري لوبِنْ من الشبان هم من اقل اقرانهم، أو فئتهم وشريحتهم، تعليماً. فمعظمهم اضطر الى الاقتصار على تعليم متوسط او ثانوي، مهني، قطع الطريق الى الجامعة، وحال بين المهنيين وبين الدراسة الطويلة. ومن هذا شأنهم تقل حظوظهم في الخروج من البطالة، في غضون الأشهر الستة التي تلي تخرجهم، في المقارنة مع من هم في سنهم، وأتموا سنتي تعليم او ثلاثاً بعد الشهادة الثانوية بكالوريا. فيجمع ناخبو لوبن في ربيع 2002، تواضع التعليم، والتبكير في دخول سوق العمل، الى التعرض للبطالة. ومن يجمعون هذه هم اولاد الطبقات الاجتماعية "الضعيفة" التي اصابتها البطالة المتفشية في المجتمعات الأوروبية منذ منتصف السبعينات، ولم تبدأ الخروج منها خروجاً بطيئاً إلا منذ 1997 فتدنت بطالة اليد العاملة الفرنسية من 12 في المئة الى اقل من 10 في المئة بقليل. وهؤلاء يقيمون في ضواحي المدن الكبيرة باريس، وليون، ومرسيليا، وستراسبورغ، وليل...، وفي بلدات الجنوب والشرق الفرنسيين، وينزلون تالياً بجوار المهاجرين العرب والمسلمين - وكثرتهم من الجزائر والمغرب -. فلا عجب إذا تحصنوا بانكفائهم و"توتر" هويتهم، وإلقائهم التبعة عن مصاعبهم على "الغرباء"، من مشكلاتهم وأزمتهم. ويتفق هذا مع مظاهر اخرى من احوال الشباب في مطالع العقد الأول الجاري. فالعائلة أو الأسرة هي الرابطة التي يقدمها معظم الشباب، في سن 18- 29، على غيرها من روابط العمل والصداقة والتدين والسياسة. والأسرة كانت، الى وقت قريب يرجع الى اوائل السبعينات، "قيمة" محافظة أو "رجعية"، وقرينة على علاقات التسلط التي يدعو السياسيون المحافظون الى التمسك بها والرجوع إليها. وكان من اعراض "أزمة المراهقة" القيام على الأهل، والتمرد عليهم. اما اليوم، اي طوال تسعينات القرن العشرين، فيعلن 94 في المئة ممن سنهم بين 11 و19 سنة انهم على خير ما يرام مع اهلهم والأهل هم الأب والأم اولاً، والجدان والجدتان أكثر فأكثر. ويذهب 84 في المئة من الفئة نفسها الى انهم احرار في فعل ما يحلو لهم، وهم يقيمون مع اهلهم، فلا يحظر عليهم اهلهم فعله، ولا يتذرعون بإقامتهم معهم الى تكثير المحظورات. وترى النسبة نفسها تقريباً من الشبان 81 في المئة ان السلطة او الدالة التي يتمتع بها اهلهم معتدلة، ولا يشتط الأهل في استعمالها، والإثقال عليهم بها. وليس الأولاد، الى سن الثلاثين تقريباً، على وئام مع اهلهم وحسب. فهم يقيمون عندهم، في كنفهم ورعايتهم، الى سن متأخرة، لم يعهدها الشبان والشابات طبعاً من قبل. فلما كانت شروط الانفصال عن الأهل، والإقامة المستقلة، هي العمل الثابت والاستقلال بمسكن والإقامة "الزوجية" بزواج او بغير زواج، قلما اجتمعت هذه الشروط قبل بلوغ 28 سنة من العمر. وكان ربع الشبان المولودين في الخمسينات يجمعون الشروط الثلاثة هذه حين بلوغهم 22 سنة. فأمسوا 8 في المئة بعد عشرين سنة اي ان من ولدوا في السبعينات لا يجمع غير 8 في المئة منهم شروط الاستقلال في هذه السن. وتأخرت سن الاستقلال الى 28 سنة. وهي نفسها سن الإقامة "زوجين"، ومتوسط السن التي تلد فيها المرأة الفرنسية ولدها الأول. ولا تستوي حظوظ الاستقلال بالإقامة والعمل والزوجية واحدة. فالأقل تعليماً، والأضعف كفاية مهنية وثباتَ عمل، هم الأطول إقامة في كنف أسَرهم، والأكثر تبعية مادية ومعنوية. والأكثر تبكيراً في مغادرة اسرهم قلما يبكرون الى المغادرة بغير مساعدة اسرهم الميسورة. وتثقل هذه الحال على الأولاد، فينزعون الى حمل حالهم على قدر متوارث يلقون بالمسؤولية عنه على عوالم اجنبية وخارجية التوحيد الأوروبي، والأمركة والعولمة، وما تجره هذه من اشتداد المنافسة وهشاشة، وموجات هجرة وانتقال، ومن ضعف في تعريف الهويات الوطنية والمحلية والشخصية. ويضطلع الإخفاق المدرسي، وهو يصيب ثلث من يسري عليهم التعليم الإلزامي الى سن 16-18، بدور راجح في انكفاء هذا الشطر من الفتيان والشبان الفرنسيين، وتحميلهم العوامل الخارجية والسياسيين التبعة عن اخفاقهم المدرسي والمهني والاجتماعي. والحق ان استثناء ثلث الشبان من الاندماج المدرسي والمهني والاجتماعي ينتهك نازعاً قوياً، ويكاد يكون عاماً الى التجانس الثقافي. ففي اثناء العقود الأربعة الأخيرة امسى الفتيان والشبان، وذلك منذ سن لا تكف عن الانخفاض والتدني الى ما دون الأربعة اعوام فيما يعود الى سوق الألعاب وسوق الألبسة والوشم الى سن تتطاول وترجأ لتبلغ الثلاثين، أمسوأ كتلة متصلة وتكاد تكون متجانسة قيماً ومثالات واستهلاكاً. فالسينما والإذاعة والصحافة والمسلسلات المتلفزة تستقل بحيز عريض يتوجه الى هذه الكتلة، ويتغير مضموناً وصورة وطرائق بحسب تغير أذواقها وميولها وحاجاتها. فثمة، في هذه الأبواب وفي أبواب الاستهلاك، سلع تنتج لهذه الكتلة او الشريحة من المستهلكين. فيخصها الإنتاج، والتسويق والترويج، بشطر كبير من الأشرطة وأجهزة الفيديو وألعابه والأقراص المدمجة وبرامج الراديو والمحطات والدراجات الهوائية والنارية والحاسوب والهاتف النقال وآلات الرياضة وألبستها والموسيقى والزينة والتبرج والموضة والطعام الخ. فمنذ اوائل "مجتمع الاستهلاك الجماهيري"، غداة عقد على نهاية الحرب الثانية، انفردت كتلة الفتيان والشبان، المتعاظمة العرض والاتساع، بموسيقاها ونجومها و"أبطالها" ولباسها، وميلها الى بعض المخدرات، وإيثارها حياة جنسية غير متزمتة ولكنها متحفظة. ويتصدر هذه النزعات نازع الى "الشلة" والأصحاب. فالاحتفالات الموسيقية والراقصة، من "الروك" بالأمس الى "الراب" و"التكنو" اليوم، انما تحتفل بها جماعة قد تبلغ العشرين ألفاً. وتتوج هذه الاحتفالات تظاهرات مثل "استعراض الحب" الألماني أو "استعراض التكنو" الفرنسي. ويؤمهما المليون او المئتا ألف تباعاً. وتؤدي مزاولة "التشاتش"، من طريق البريد الإلكتروني والمحادثة بواسطه الهاتف النقال، الى نشوء "قبائل" من الأصحاب والأصدقاء. وقامت هذه الظاهرة بدور فاعل وراجح في التظاهرات السياسية الأخيرة. وينفرد الفتيان والشبان بطريقة في تلقي المسلسلات التلفزيونية، ومن أبرزها "لوفت ستوري" "حكاية جناح"، تجمع بين الإقبال الظاهر والإدمان وبين النظرة الساخرة والناقدة. فمثل هذه البرامج، وهي من تظاهرات ثقافة "فتية"، ذريعة الى المناقشة والمحادثة والتعارف فوق ما هي مثال يتبع ويحتذى عليه. فمثل هذا الجمهور يزاوج التقليد والمحاكاة مع الاختيار الناقد والفاحص.وليسوا قلائل، بين ناخبي جان ماري لوبن الشبان، الذين يطرحون من برنامجه العودة عن الإجهاض الإرادي أو رفضه بعض التشريعات التي تيسر الطلاق أو العقد المدني، على حين ينزل الداعية المحافظ هذه البنود منزلة القلب او النواة من دعوته ودعاوته.