تشن دول عربية آخر معارك السلام في قمة الرياض الحاسمة بينما تعيد دول ما يسمى بالاعتدال العربي رص الصفوف وسط تعبئة عربية - إسلامية شاملة تمهيدا لهجوم استباقي في محاور عدة: الساحتان الأميركية والأوروبية، الداخل الإسرائيلي والرأي العام العالمي. إنها الطلقة الأخيرة لتجاوز مماطلة إسرائيل ومحاولتها شراء الوقت لحين انقضاء ولاية جورج بوش الثانية أواخر العام المقبل. لذلك تحشد الرباعية العربية - المؤلفة من السعودية والامارات ومصر والاردن - اسنادا عربيا وإسلاميا للخروج ببيان ختامي يحدّد مطالب واستحقاقات طرفي الصراع العربي الإسرائيلي بالاستناد إلى مبادرة السلام التي أطلقتها قمّة بيروت قبل خمس سنوات. العواصم العربية، لاسيما الرياض وعماّن، ليست واهمة حيال نيات الحكومة الإسرائيلية الرافضة للسلام. كما أنها على دراية بحجم اللوبي الصهيوني واليمين الأميركي المتطرف الذي يحاول تحييد الإدارة الأميركية عن مسارات السلام. لذلك عندما تقذف قمة الرياض الكرة في ملعب إسرائيل، ستكون هذه الدولة قد انكشفت أمام المجتمع الدولي بعد عقود من إلقاء اللوم على الجانب العربي والفلسطيني بالتحديد. الرئيس الفلسطيني محمود عباس يقف في فوهة المدفع. وهو يحتاج لإسناد عربي وإسلامي لا بد من حشده في قمة الرياض. يستخدم عبّاس لغة ديبلوماسية ثابتة ما يعكس نضوجا في الفكر السياسي الفلسطيني في مواجهة"عقلية القلعة"الإسرائيلية. تحدث الرئيس الفلسطيني بإسهاب عما وصفه بالتغيير التدريجي في مواقف حركة المقاومة الاسلامية"حماس"، شريكة"فتح"في حكومة الوحدة الوطنية. واشار بالتحديد إلى إمكانية تعامل هذه الحكومة باعتدال أكثر حيال المتغيرات العربية والدولية. رأى أيضا أن زعيم"حماس"خالد مشعل يسلّم - بخلاف مواقفه السابقة - بمبادرة السلام العربية المرتكزة إلى مقايضة التطبيع والأمن من جانب العرب بانسحاب اسرائيل من الإراضي التي احتلتها عام 1967. ومع أن"حماس"أعربت عن"احترامها"للاتفاقات التي أبرمتها منظمة التحرير مع إسرائيل قبل 14 عاما، يصر الإسرائيليون وصقور الادارة الاميركية على الفارق بين"احترام"الاتفاقات و"الالتزام"بها. لكن تفسير عبّاس أن الاحترام الطوعي والحر أفضل من الالتزام القسري بالاتفاقات. وهنا بيت القصيد وطوق نجاة القمة العربية المصيرية. قادة الرباعية العربية يراهنون على قيام نظرائهم العرب - بمن فيهم الجدليون في سورية وقطر - بعمل المستحيل للبناء على موقف"حماس""المليّن"لا سيما أن حركة المقاومة الاسلامية ولجت الديبلوماسية العلنية من بابها الأوسع عبر مشاركة رئيس الوزراء إسماعيل هنية في وفد فلسطيني برئاسة محمود عباس. ومن المتوقع ان تصدر القمة بالإجماع قرارا بإطلاق المبادرة العربية، والتأكيد على"التزام"وليس"احترام"أعضاء الجامعة العربية ال22 بما فيها دولة فلسطين بزعامة عباس الذي سيمسك بمقود المفاوضات السياسية بينما يعمل هنية وأعضاء حكومته على إدارة الشؤون الحياتية واليومية للفلسطينيين وإعادة تثبيت الأمن والاستقرار ومحاولة فك الحصار المالي. من سيقول بعدها إن هذه التسوية اللغوية ليست خطوة إيجابية تعكس نيات حقيقية ملزمة فإنه لا يعي الواقع ولا يريد سلاماً يرضي الطرفين. لن يدخل العرب أي تعديلات على المبادرة بخلاف ما تطالب به إسرائيل المأزومة لا سيما بند اللاجئين الذي يتحدث عن حل متفق عليه على أساس القرار الدولي الرقم 191، أي تسوية بالحوار والتفاوض. الوضوح في الموقف العربي مدعوم بغطاء اسلامي. إذ ستنضم دول إسلامية إلى قائمة الاعتراف بإسرائيل ما يشكل مدخلا جيدا لأي عملية سياسية مستقبلية إذا كانت الأطراف الدولية جادة لإنهاء نزيف فلسطين المستمر منذ ستة عقود. وينتظر أن تقر القمة العربية آلية تضمن التنفيذ عبر خطوات متزامنة ومترابطة، بحسب أحد الديبلوماسيين العرب. من بين الآليات المقترحة لتنفيذ المبادرة إعادة تشكيل لجنة المتابعة لمبادرة السلام العربية المشكلة حالياً من 11 دولة واستبدالها بلجنة مصغرة برئاسة السعودية وعضوية دول وقعت اتفاقيات سلام مع اسرائيل كالأردن ومصر، وأخرى لديها الاستعداد لاقتناص نافذة الفرصة الأخيرة للسلام قبل بدء التحضيرات هذا الشتاء لمعركة الانتخابات الرئاسية الأميركية للعام 2008. صحيح أن التشاؤم الشعبي تجاه فرص استئناف المفاوضات وإمكانية صدور قرارات جريئة وملزمة عن القمة العربية لا يزال سيد الموقف بخاصة إذا قيست الأمور من زاوية ما حدث لمئات القرارات والمبادرات التي صدرت عربيا وعالميا منذ قيام دولة إسرائيل بعد حرب عام 1948 بسبب انحياز أميركا والغرب وغطرسة الدولة العبرية. كما أن الجامعة العربية أضحت مجرد مبنى وعلم وأمانة عامة ومجموعة ملفات يعلوها الغبار. والمآل الذي آلت إليه المبادرة العربية للسلام قبل خمس سنوات مجرد مثال على الوضع المأساوي في العالم العربي. لكن هناك بصيص من الأمل أن تكون قرارات القمة هذه المرة مختلفة بسبب التحديّات المصيرية التي تعصف بالنظام العربي المنهار والمقسّم بعد سقوط نظام صدام حسين وتغلغل إيران في المنطقة. هذه التحديات تضغط بقوة استثنائية لا سيما بعد انهيار ما مثله لسنوات عدة محور القاهرة - الرياض - دمشق، ما خلق فراغاً قيادياً مكّن قوى الخارج من استغلاله في محاولاتها لإعادة رسم المنطقة وتقسيمها إلى مناطق نفوذ بين إيران وإسرائيل. لكن السعودية، بما تمثله من ثقل سياسي وديني واقتصادي، تحركات واصبحت الاكثر نشاطاً للملمة الصف العربي. وبادرت لملء الفراغ القيادي، بالتعاون مع دول معتدلة ومهددة مثل مصر والأردن ودولة الإمارات. بدايات بلورة جديدة لعمل عربي نوعي كان عنوان التحرك الأخير. شكلت هذه الدول نواة لمجموعة عمل سياسي، أمني واستراتيجي لحماية مصالحها من خلال التعاطي بإيجابية مع الازمات ومن خلال الاتصالات مع كل من الولاياتالمتحدةوإيران وتبادل الاعتراف بمصالح وأدوار الجميع محليا وإقليميا ودوليا لضمان إقليم آمن ومستقر. هذه الدول أقرّت بمحورية القضية الفلسطينية، وضرورة استنفاد الفرصة الأخيرة خلال الشهور الستة المقبلة لتحريك ملف السلام العربي- الإسرائيلي قبل موسم الانتخابات الرئاسية الاميركية. ولعبت أيضا على تطويع التغيير في موازين القوى داخل الولاياتالمتحدة بعد غرق الرئيس الأميركي جورج بوش في مستنقع العراق وخسارة حزبه أمام الديموقراطيين في الانتخابات التشريعية الدورية قبل أربعة أشهر. الآن تراهن هذه الدول على ضعف حكومة إسرائيل بقيادة إيهود أولمرت بعد حربه الأخيرة على"حزب الله"في لبنان وسلسلة فضائح فساد مالي وجنسي تطال المؤسسة السياسية والعسكرية فضلا عن انقسام حاد في الموقف الشعبي حيال السلام والتعاطي مع حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية. شعار العمل العربي الأخير يتمحور حول مبادلة العراقبفلسطين: أي تخليص بوش من ورطة العراق والوقوف مع واشنطن في وجه إيران في حال وقوع مواجهة عسكرية على خلفية الملف النووي مقابل طي ملف السلام العربي الإسرائيلي نهائياً على أسس عادلة ودائمة، عبر الإصرار على ضرورة وضع أفق سياسي لصورة الوضع النهائي للتسوية قبل الشروع في اي محادثات جديدة. الرباعية العربية قسمت الأدوار فيما بينها عربياً ودولياً - كل بلد بحسب تخصّصه وكل زعيم بحسب قدرته على التأثير في محيطه الإقليمي والدولي. مصر تحركت لعقلنة"حماس"وما زالت تسعى لإطلاق سراح الجندي الاسرائيلي المخطوف غلعاد شاليت - وهو أحد شروط أولمرت للاعتراف بالحكومة الفلسطينية. والسعودية بادرت الى جمع"فتح"و"حماس"في قمة مكّة لصيانة قضيتهم التي كادت تلفظ أنفاسها الأخيرة مع اقتتال الأشقاء الفلسطينيين، وسعت لانتشال اللبنانيين من أزمتهم السياسية كما أطلقت سلسلة مبادرات لتخفيف الاحتقان الداخلي في العراق وفتح الأبواب مشرعة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً باتجاه الاتحاد الروسي والصين وآسيا وأوروبا. في موازاة ذلك اعتمدت مقاربة واعية لطموحات إيران ولكن مع الاحتفاظ بهواجسها. والآن تسعى السعودية لإعادة احتضان سورية وتخليصها تدريجياً من حضن إيران. اما الإمارات والسعودية فوفرّتا الدعم المالي للسلطة الفلسطينية وللرئيس عباس ضمن خطة لإعادة هيكلة الاقتصاد والأمن وبناء أسس الدولة الحديثة. وتحرك الأردن باتجاه باكستانوماليزيا واندونيسيا، عماد الثقل الإسلامي في آسيا، وحصل على دعم لخريطة طريق الاعتدال صوب سلام عربي - إسلامي مع إسرائيل. قبل أسابيع وضع الملك عبدالله الثاني مبادرة السلام العربية على أجندة الكونغرس الاميركي الجديد الذي يظل أهم مؤسسة تشريعية وسياسية في العالم بعد أن نجح في انتزاع التزام بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس بتسوية القضية الفلسطينية على أساس الدولتين. الآن الجميع بانتظار رؤية واشنطن لحدود ما ستقوم به مع الاسرائيليين وآفاق التسوية. في ختام قمة الرياض تكون الرباعية العربية قد نجحت في مشروعها لإحياء عملية السلام عبر إيجاد غطاء إسلامي للتحرك وسط تشجيع أوروبي وأميركي مع القوى الاسرائيلية التي تريد السلام. وستجد اسرائيل نفسها بعد ذلك أمام استحقاق عربي - إسلامي بمظلة دولية. لكن على واشنطن أن تلقي بثقلها لدفع هذه الدولة إلى محاكاة هجوم السلام العربي. * صحافية اردنية