يتفاءل بعض العرب بتصريحات ايهود أولمرت بأن المبادرة العربية، إذا تم تعديل بعض بنودها قد تصلح أساسا للتفاوض. وهو ووزيرة خارجيته يشيران إلى تضمنها للقرار 194 كعطب لا بد من تعديله، وكخط أحمر لا يمكن لأي حكومة إسرائيلية تجاوزه. ولا يخفى الدافع من وراء تصريحات أولمرت على أحد، وهو لا يحاول إخفاءه أصلا، فقد قدم له بالقول إنه لا يمكن تجاهل تطورات إيجابية في دول عربية معتدلة. من هنا يأتي هذا الالتفات الإسرائيلي غير المفاجئ للمبادرة العربية بعد تجاهل دام خمس سنوات. وتبدأ التطورات الإيجابية في نظر الإسرائيليين مع الموقف من الحرب على لبنان، ثم المساهمة في فرض الشروط على"حماس"... وهو جهد تتفاوت الدول في صراحتها وعلنيتها بشأنه، ولكنه ما زال مستمراً. وقد حلت السنوات السمان بعد العجاف 2001 - 2006. وفي تلك السنوات العجاف اقتصرت حركة"الاعتداليين"على الدأب على تجنب الشر الأميركي المستطير بعد 11 أيلول. ونحن لا ندري هل كسبوا هامش الحرية لأن اميركا فشلت في العراق، أو لأنه تبينت بلادة الجيش الإسرائيلي في لبنان وتعثره برباط حذائه، أم لأن حرب لبنان اثبتت حالة العداء"للمتطرفين"في المنطقة. والنتيجة هي هامش أميركي أوسع وتعامل إسرائيلي أكثر جدية في عهد أولمرت مقابل عهد شارون مع"الدول المعتدلة"، كما تسمى. ولنعد إلى تصريحات أولمرت: لماذا اختار البند 194 تحديدا مع أن المبادرة العربية لا تتحدث بشكل واضح عن حق العودة، بل عن حل عادل بموجب هذا القرار؟ لم يصرح أولمرت بأنه يرفض أيضاً الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران بما فيها ما احتل من القدس في ذلك اليوم. أولا، لأنه يقول ما لديه بالتقسيط، كي يقابل بتنازلات تدريجية. وثانيا، يصعب عليه أن يعتبر رفضه أي حديث عن انسحاب من القدس مساعدة"لمحور المعتدلين"قبل القمة العربية. وهو طبعا يعارض مثل هذا الانسحاب، وسبق أن حاول تأكيد موقفه بأن اتهم حتى إيهود باراك بالتنازل في قضية القدس في كامب ديفيد، مع أن الأخير لم يوافق على أمر كهذا. والسعودية لن تقدم على طرح حتى فكرة التراجع عن حدود الرابع من حزيران ناهيك عن التخلي عن القدس في مبادرة السلام العربية. لذلك، ومنعا لإحراج الدول المعتدلة، تبدأ إسرائيل بمناقشة مسألة حق العودة للاجئين الذي ترفضه من حيث المبدأ. ولنفرض جدلا أنه تم التخلي ضمنا أو علنا عن حق العودة، فهل تقبل إسرائيل عندها المبادرة العربية؟ الجواب هو لا. لننتبه هنا! إنها تقبل بها عندئذ فقط أساساً للتفاوض، فهي تقبل بالانسحاب من حيث المبدأ ولكنها ستفاوض على عمقه وعلى الحدود. أي أنها لا تقبل أي بند من بنود المبادرة العربية. ترغب إسرائيل عبر قبول التعاطي مع المبادرة أن تحولها إلى عملية تنازل تدريجي من قبل العرب، كما حوّل قبولها التعاطي مع منظمة التحرير عملية التفاوض نفسها إلى عملية تنازل فلسطيني تدريجي. وكنا في الماضي نميز مفترقات التنازل الأساسية، ولكن مع مرور الوقت ومع تدحرج"العملية"بات من الصعب حتى متابعة مفاصل التنازل الأساسية، لأن"العملية"أصبحت سائلة تماما لا يعرف لها أول من آخر، خصوصاً أنها أصبحت هدفا يبرر بالحديث عن"طرفين"، وعن"معتدلين ومتطرفين من الطرفين"، وانتظار انتخابات إسرائيلية يتلوها انتظار انتخابات أميركية جديدة، ثم مبعوثين جدد... حتى وصلنا إلى انتخابات الشعب الواقع تحت الاحتلال، وبدأت عملية انتظار أخرى أن يرفع الحصار عن الشعب الواقع تحت الاحتلال هذه المرة، أو أن تتشكل الحكومة، أو ننتظر أن يتوقف هذا الانتظار بانتظار انتظار آخر لا يتضمن حصاراً واقتتالاً داخلياً و"توزيع حقائب"على الأقل في بلد ما زالت تجمع فيه الأموال لتوزيع الحقائب المدرسية قبل بداية كل عام دراسي. إضافة الى البدء بإرساء أساس جديد ل"العملية السلمية"بعد أن فشلت عملية تحييد مبادرة السلام العربية بخارطة الطريق على فكرة، ماذا حصل لها؟ كم من السنوات والمؤتمرات والحوارات ضاعت عليها؟ ترغب إسرائيل بعد نهاية عهد المحافظين الجدد أن تتملق ما تسميه"معسكر الاعتدال"بأن تظهر كأنها تتجاوب معه على الأقل قبل انعقاد قمة عربية. أولاً لأنها تعلم أنها مضطرة للقبول به كما هو، مثلما اضطرت أميركا في عودة لمواقف حرب باردة افتراضية تقسم الدول بموجب"من معنا معتدل ومن ضدنا متطرف"، وثانياً لأن إسرائيل تخشى أن يقود هامش حرية حركتها خارج الهامش إلى صلب الموضوع ذاته، فتأخذ هذه الدول مثلاً حريتها لحل معضلات إقليمية - واتفاق مكة بين الفلسطينيين مثال مصغر جداً، صحيح أن هذا الاتفاق لم يحل معضلة ولكنه حقن دماء. ربما لم تنجم هذه المعضلات عن سياسة المحاور، ولكن سياسة المحاور أنجبت استعصاء هذه المعضلات على الأقل. خذ مثلا الحالة العراقية. المسؤول عن إشعال النار في هذا البلد هو أميركا. ولكن العراق هو ساحة صراع بين محاور إقليمية، وقد يصبح ساحة تعاون بين دول إقليمية لديها أجندات أخرى تتبادل بشأنها التنازلات والأجندات. تهدأ الساحة العراقية بشرط أن يتضمن هذا الهدوء انسحاباً أميركياً وأن تساهم دول إقليمية في إخماد النار بدل النفخ فيها، ويتسنى ذلك إذا لم تشعل الولاياتالمتحدة نيراناً في مناطقها ومصالحها. منطق قوة سياسي دموي وبسيط كانت الولاياتالمتحدة تتقن إدارته في مرحلة الحرب الباردة. ويشكل لبنان حالة أسهل من العراق. فهو مثال لما كان يمكن حله بسهولة فائقة، فكيف أصبح معقدا إلى هذه الدرجة؟ هنالك شعوب مستعدة أن تدفع بآلاف الشهداء ثمن انسحاب دول أخرى لو كان وجودها احتلالا فعلا، فكيف لم يعد الانسحاب بحد ذاته كافيا؟ وكيف أصبح من كان حليفا لتلك الدولة وحاليا وبأثر رجعي يعتبر نفسه كان"واقعا تحت الاحتلال"مطالبا بإسقاط النظام الذي تعاديه أميركا وتعادي أهدافه وتعتبره متطرفا لأسبابها هي؟ لا يوجد أي منطق هنا. فإما أن النظام الذي كان سائدا في لبنان وكان يشارك فيه بعض من يحرضون عليه حاليا في العواصم، لم يكن احتلالا، والمطلب لم يكن الانسحاب الذي يستحق التضحية كما كان فعلا بنظر من كانوا معارضيه الفعليين أمثال ميشال عون الذين يكتفون الآن بانسحاب سورية من لبنان ويتحالفون مع المقاومة، وإما أن المسألة صراع محاور. ولا المنطق دفع من انتقل من محور كان يلتزم به سياسياً مع سورية وإيران والمقاومة إلى محور جديد يلتزم به وبسياسات القوة فيه، ولا تماسك الحجة يخرجه منه. لم يكن متطرفاً ولم يصبح معتدلاً. إنه مقتنع أن الانضمام الآن إلى محور مضاد فيه مصلحته، مع أنه كان في المحور نفسه مع النظام الذي يطالب بإسقاطه حالياً عندما كان الأمر مريحاً له. وهو لن يغير رأيه إلا إذا فهم أن هذا غير ممكن ورغما عن مصلحته، أو على الأقل ليس فيه مصلحته، ولا مصلحة غيره. إنها سياسة محاور. ولا يوجد تفسير آخر لازدياد تعقيد صراع يمكن أن يحل بسهولة في لبنان... خصوصاً أن المعارضة التي عارضت الوجود السوري والتي تعارض الآن المحور الأميركي سوية مع المقاومة لا ترغب بقلب النظام في لبنان بل المشاركة فيه كي تضمن ألا ينقلب عليها... وإذا رغب الطرف الآخر بالمشاركة فسوف توجد المعادلة. الشرط هو ألا يكون لبنان مسرحا لصراع محاور، أقلها اعتدالاً وأقلها ديموقراطية هو السياسة الأميركية، وألا يكون حلبة لإظهار جدية أميركية في مواجهة إيران. تخشى إسرائيل أن يقتنع"الاعتداليون"أن لعبة المحاور ليست في مصلحة أحد. فعندما تفكر دولة جدية في هذا المحور في مدى القدرة على طرح مطلب إسقاط نظام في دولة عربية أخرى، فسوف تصل إلى نتائج مختلفة. وينطبق ذلك على مسألة شن الحرب على إيران. يستطيع المواطن العادي، ناهيك عن الدولة، أن يحسب ويقدر ماذا يعني شن مثل هذه الحرب. وإسرائيل تخشى حاليا أن يقع المحظور وأن يسمح هامش الحرية"للدول المعتدلة"أن تفكر بذاتها بعواقب مثل هذه الأمور. أما سياسة الولاياتالمتحدة الشرق أوسطية فقد وجدت نفسها بين نارين، نارها التي تستعر وينفخ فيها الآخرون، ونار التنازل عن إشعال النيران في شؤون وفي بلاد الآخرين لكي يتوقفوا على الأقل عن النفخ في نارها ناهيك عن مساعدتها على إخمادها بما فيه صالح العراق نفسه. وهي تحاول أن تلعب بداية لعبة إسرائيل: أن تفرض على إيران وسورية لعبة تصحيح الأفكار المروجة أميركياً عنهما وتغيير صورتهما، وأن تثبتا ذاتهما... وغير ذلك من المهمات التي لا تنتهي، وأن تساعداها في العراق: المساعدة مقابل السماح بالمساعدة، مثل معادلة"السلام مقابل السلام"الإسرائيلية، أو مقابل مجرد الجلوس معهما بناء على الدعوة نفسها في بغداد، وهو ما تستطيعان أن تقدماه كإنجاز. من الواضح تماما أن ما أنجز حتى الآن بفك الحصار عن سورية وانتقالها إلى الهجوم سياسيا، والتفاوض مع إيران بشأن مشروعها النووي، كان بفضل إفشال المخططات الأميركية والتصدي لها بشكل حاسم في لبنانوالعراق وفلسطين، وليس بفضل مثل هذه اللعبة الأميركية. وهي لعبة ما زالت تخضع للعبة القوة على الأرض، بين محاولة"فضح"سورية وإيران كما كان يجري في الاجتماعات مع القيادة العراقية قبل شن الحرب، وبين استسلام الإدارة الاميركية فعلاً للواقعية كما عبرت عنه توصيات بيكر - هاملتون. * كاتب عربي