كل هذه المحاولات الاسرائيلية لإفشال المؤتمر الدولي للسلام قبل انعقاده المفترض بعد عشرة أيام في انابوليس تضع على الطاولة سؤالاً أساسياً هو: إذا كانت اسرائيل حقاً لا تريد السلام، ماذا عندئذ؟ السؤال مطروح على الاسرائيليين والعرب بقدر ما هو مطروح على الأميركيين لأن سياسة اميركا المتبنية لاسرائيل قد ورطتها وأجّجت ضدها كراهية ملايين المسلمين والعرب. وهو مطروح أيضاً على الأوروبيين والروس والصينيين وبقية العالم. قد يقال إن العالم اعتاد البحث العقيم عن حل للنزاع العربي - الاسرائيلي ولم يعد يجد في هذا النزاع فتيل الانفجار والتفجير. وبالتالي لا أحد يبالي خصوصاً أن هناك الآن صراعاً فلسطينياً - فلسطينياً دموياً حوّل الأنظار عن تقنين المعاناة الفلسطينية في الاحتلال الاسرائيلي الذي فاق 40 عاماً. لكن هذا الاعتياد أو اللامبالاة لا ينفيان عناصر أخرى لضرورة الاجابة على السؤال الأساسي، بينها عنصر الحرب على الإرهاب، ومعارك الاستقطاب الاقليمي، وازدياد التطرف بسبب النقمة على تحويل"عملية السلام"الى مجرد مخدّر وذريعة لشراء الوقت والتنصل من استحقاقات السلام. فالأمور لا تسير كالمعتاد، على رغم الاعتياد على السأم من البحث عن حلول سلمية. فإذا كانت اسرائيل حقاً لا تريد السلام، وعازمة حقاً على تقويض الاعتدال في الصفوف العربية والاسلامية لأنها تجد في شراكتها مع التطرف العربي والاسلامي تبريراً لوجوديتها، ماذا ستفعل الولاياتالمتحدة بذلك بعدما بات الأميركيون أنفسهم ضحية مباشرة للتطرف الاسرائيلي الذي يلبس قناع الاعتدال؟ هذه أحد الأسئلة الضرورية التي على الإدارة والكونغرس والرأي العام الأميركي أن تفكر بها على عتبة مؤتمر الخريف الذي تتهيأ له القيادة الاسرائيلية بسلسلة شروط تعجيزية على رغم أنه يعد من أجل انشاء الدولتين - اسرائيل وفلسطين - لتعيشا معاً في أمان وسلام بضمانات دولية. كبداية، لا مجال للتظاهر بأن القاعدة الشعبية الاسرائيلية غير قادرة على التأثير في سياسات قياداتها في الحكومة والكنيست والمعارضة. فالاسرائيليون يتباهون بأنهم ديموقراطية نادرة في الشرق الأوسط، وما عليهم سوى تفعيل أدوات الديموقراطية. واليهم هذه المعادلة: إذا أردتم استمرار الوضع الراهن، احذروا الغد الآتي عليكم بفرز طبيعي لهذا الوضع غير الطبيعي الذي يحاول التزاوج بين الاحتلال والديموقراطية فيما هما نقيضان طبيعيان. فالاحتلال يخرق وينتهك حقوق الانسان، وهذا مضاد لأسس الديموقراطية الأساسية. أما إذا أردتم السلام حقاً، فتفضلوا وشاركوا في صنع السلام بجدية نحو الفلسطينيين ونحو اللبنانيين ونحو السوريين. فلم يسبق أن كان ثمن السلام بكل هذا الوضوح: إزالة الاحتلال على أساس حدود 1967 مع تبادل أراض، ومعالجة واقعية لحق العودة للفلسطينيين الذين شردوا من ديارهم عام 1948، وإقامة دولة فلسطين بجانب دولة اسرائيل في تعايش وتطبيع مع العالمين العربي والاسلامي. لا داعي لمقاطعة العرب لمؤتمر انابوليس لأن مجرد انعقاده ينتشل السلطة الفلسطينية من مخالب تحجيمها ويطوّق انشاء دولة فلسطين باهتمام عالمي. وهذا تماماً ما لا تريده القيادة الاسرائيلية وما تعمل أدوات اللوبي الاسرائيلي على تحقيقه من خلال حملة على"فاعلية"و"أهلية"السلطة الفلسطينية وقدراتها. انها حملة متجددة من صفحات اللوبي المعهودة أساسها انه لا يوجد شريك فلسطيني مسؤول وقوي للحكومة الاسرائيلية من أجل صنع السلام، وأن حكومة ايهود اولمرت ضعيفة وليست في وضع يمكّنها من صنع السلام. بدعة"الاعتراف"أخذت منحى جديداً هذا الاسبوع مع اصرار القيادة الاسرائيلية على أن تكون مرجعية مؤتمر انابوليس مع انطلاق المفاوضات ضرورة اعتراف الفلسطينيين ب"يهودية اسرائيل". في البدء تبدو هذه البدعة مؤشراً على نقص اسرائيلي نابع عن تلك الحاجة المستميتة الى"الاعتراف"باسرائيل كدولة يهودية ثم"الاعتراف"ب"يهودية اسرائيل"او باسرائيل"وطناً يهودياً". انما الأمر لا يقتصر على النقص وإنما يصب في خانتين: خانة التعجيز المتعمد من أجل عرقلة مؤتمر انابوليس وإفشاله. وخانة الاستباق بهدف حذف بند"حق العودة"طبقاً للقرار 194 للاجئين الفلسطينيين لعام 1948 من المداولات. ثم هناك بدعة اعتزام إعلان تجميد بناء المستوطنات عشية انابوليس وكأن هذا تنازل ضخم من قبل القيادة الاسرائيلية فيما واقع الأمر هو أن هذه المستوطنات غير شرعية بموجب القانون الدولي، وأن"خريطة الطريق"الى حل قيام الدولتين طالبت اسرائيل بتجميد المستوطنات وبتفكيك بؤر استيطانية. مثل هذا التحايل على الالتزامات بموجب"خريطة الطريق"يجب ألا تصادق عليه الإدارة الأميركية لمجرد أنها تستقتل لعقد مؤتمر انابوليس اعتقاداً منها أن فيه انقاذاً للسيرة التاريخية التي سيتركها جورج دبليو بوش لدى مغادرته الرئاسة. فكما على السلطة الفلسطينية واجبات بموجب المرحلة الأولى من"خريطة الطريق"، كذلك على الحكومة الاسرائيلية واجبات. السلطة الفلسطينية مطلوب منها اتخاذ اجراءات امنية، والحكومة الاسرائيلية مطلوب منها اجراءات تجميد وإزالة نشاطات استيطانية. رئيس الحكومة الفلسطينية، سلام فياض، أكد أن حكومته ستمضي في خطتها الأمنية وصولاً الى فرضها في قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة"حماس". وقال إن امتحان مدينة نابلس هو امتحان لحكومته، مؤكداً أن"عهد الفوضى قد ولّى ولن يعود، ولن يفلت من عقاب العدالة وعدالة الشعب كل من اعتدى أو تاجر بأمن الناس". وقال إن"نابلس ربما أهم من انابوليس ليس لأن انابوليس غير مهمة كمحطة دولية تكرس إنهاء العزلة السياسية عن قضيتنا الوطنية، ولكن لأن واحداً من عناصر النجاح في انابوليس وما بعد انابوليس هو أن ننجح هنا في نابلس تماماً مثلما سننجح في كل مدن وقرى ومخيمات فلسطين وفي مقدمها في قطاع غزة، باستعادته تحت راية الشرعية وراية السلطة بل وراية الدولة المستقلة". لغة القيادة الفلسطينية بحد ذاتها تكشف التفاوت بينها وبين القيادة الاسرائيلية التي تتنصل مما حملته اليها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس من اقتراحات قبل بها كل من رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود اولمرت ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. الوفد الاسرائيلي الذي يقوم بإعداد ملف المفاوضات لمؤتمر انابوليس يرفض الآن مبدأ التطبيق المتوازي الفوري للمرحلة الأولى من"خريطة الطريق"ويرفض تشكيل لجنة أميركية - اسرائيلية - فلسطينية لمراقبة تطبيق"خريطة الطريق". اللافت ايضاً هو أن اسرائيل ترفض الآن ذكر المبادرة العربية للسلام كمرجع من مرجعيات العملية السلمية في موقف محرج جداً للإدارة الأميركية التي تبذل قصارى الجهد لإقناع دول عربية رئيسية بحضور المؤتمر، بينها المملكة العربية السعودية صاحبة المبادرة العربية للسلام مع اسرائيل. هذه المبادرة هي خطة السلام العربية. اسرائيل لم تتقدم يوماً بخطة سلام اسرائيلية. انها باستمرار تعمل على إجهاض خطط السلام المطروحة عليها. وما موقفها الاستفزازي الداعي الى رفض ذكر مبادرة السلام العربية كواحدة من مرجعيات العملية السلمية سوى شاهد على المناورات الاسرائيلية العقيمة، شأنها شأن بدعة المطالبة بالاعتراف الفلسطيني المسبق بيهودية اسرائيل لقطع الطريق على البحث في موضوع حق العودة. ثم هناك الكنيست الذي صادق هذا الاسبوع على مشروع قانون يمنع الحكومة من تغيير حدود القدسالشرقية والغربية من دون تصديق ثلثي النواب 80 نائباً بدل غالبية من 61 نائباً، حسبما ينص القانون الحالي. هدف هذا التعديل هو تطويق أي احتمال للتوصل الى اتفاق حول وضع القدسالشرقية. وفي هذا الموقف للبرلمان الاسرائيلي حلقة أخرى من حلقات التعنت الاسرائيلي ضد مقتضيات السلام مع الفلسطينيين. ليس صدفة ن تكون المواقف الاسرائيلية التعجيزية سياسة مدروسة لإسقاط الاعتدال الفلسطيني المتمثل بالسلطة الفلسطينية وبحكومة عباس - فيّاض بالذات في زمن منافسة حركة"حماس"ل"السلطة الفلسطينية". وهذه ليست المرة الأولى التي تستثمر فيها اسرائيل في"حماس"التي ساهمت بصورة مباشرة في انشائها لتتحدى"منظمة التحرير الفلسطينية". انها تلعب أوراق إشعال الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني ظناً منها أن هذا في المصلحة الاسرائيلية. لذلك فإنها تتهيأ عسكرياً لما بعد مؤتمر انابوليس لأنها تتوقع اندلاع موجة عنف ضد السلطة الفلسطينية إذا فشل مؤتمر انابوليس في دفع العملية السلمية جدياً الى الأمام. ولذلك يتناقش اسرائيليون في ما بينهم في أن لا خيار آخر لاسرائيل سوى إشعال حروب فلسطينية أهلية تبرر لاسرائيل اتخاذ اجراءات تهجير جماعي وطرد جماعي الى الأردن ك"وطن بديل"من أجل حل المشكلة الديموغرافية وتحويل اسرائيل الى دولة يهودية صرفة، عسكرياً، ومن دون مفاوضات سلام، وبلا تنازلات أو حلول وسط. انما الآن، ومن أجل إحباط الجهود الدولية الرامية الى إعادة القضية الفلسطينية الى الصدارة بقيادة اميركية وعلى مستوى الرئيس، يتنافس أقطاب القيادة الاسرائيلية على تقزيم"السلطة الفلسطينية"وعلى فتح قنوات حوار مع سورية. والمعركة دائرة بين رئيس الوزراء ايهود اولمرت ونائبه ايهود باراك الذي يمسك وزارة الدفاع، وبينهما وزيرة الخارجية الطموحة تسيبي ليفني. اولمرت يقيم قناة اتصال مع الرئيس السوري بشار الاسد بواسطة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ومن خلال كبار المسؤولين في قطر علماً بأن لهم علاقة مميزة مع اسرائيل وعلاقة مميزة مع القيادة السورية. باراك ايضاً يلعب على القناة القطرية وهو اتخذ هذا الاسبوع خطوة تعيين أوري ساغي، الجنرال في الاحتياط، مسوؤلاً عن البحث في امكان استئناف الحوار مع دمشق علماً بأنه كان عضواً في الوفد الاسرائيلي المفاوض مع سورية، والتقى مع رئيس أركان الجيش السوري حكمت الشهابي ومع السفير السوري لدى واشنطن حينذاك، وزير الخارجية الحالي وليد المعلم. وساغي سبق وترأس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الاسرائيلي في حكومة اسحق رابين ما بين 1992 و1995، ثم قام باراك، عندما كان رئيساً للوزراء، بتعيينه مسؤولاً عن المفاوضات مع سورية عام 1999. باراك يريد تفعيل الدفع بالمفاوضات مع سورية لمنع انجرار اسرائيل الى التعاطي مع المبادرة العربية للسلام التي لا تريحها. دمشق لا تحتضن المبادرة العربية بأي قدر من الإقبال، وقطر تعمل دائماً على تقويضها لمجرد أنها مبادرة سعودية أصلاً. انما اختيار باراك لساغي له دافع آخر فائق الأهمية وهو أن ساغي أحد أكبر الدعاة الى تجميد المفاوضات مع الفلسطينيين وهو يرى أن ألاعيب المسارات مفيدة وأن التفاوض مع سورية هو الخيار الواقعي. كلاهما، باراك وساغي، يريدان المقايضات مع سورية بما في ذلك على فلسطينولبنانوايران. اولمرت أقل حذاقة وحنكة من باراك في هذه الناحية، لذلك أبدى استعداده للانسحاب من هضبة الجولان مقابل إبعاد سورية عن المحور الايراني."رسائل السلام"السرية التي بعثها اولمرت الى الأسد اشترطت انفصال دمشق عن حليفها في طهران مقابل إعادة الجولان الى سورية، بحسب ما نقلت الصحافة الاسرائيلية عن مصادر رفيعة المستوى ومقربة من اولمرت. وهو كلف اردوغان باستكشاف ما إذا كان الاسد مستعداً لاستعادة الجولان مقابل قطع علاقاته الاستراتيجية مع الجمهورية الاسلامية في ايران. باراك يستحسن التفكير بنفسه على أنه أكثر فهماً للغة المقايضات، لذلك نقلت عنه مصادر تحدثت معه بعمق أخيراً أنه جاهز لإعادة النفوذ السوري في لبنان في الصفقة التي تريدها سورية أكثر من الجولان. انه يعتقد أن السلام مع سورية سيضعف محور ايران -"حزب الله"-"حماس"في أعقاب اخراج سورية من هذا المحور عبر العلاقة الثنائية مع اسرائيل. ويرى باراك أن هذه العلاقة الثنائية، السورية - الاسرائيلية، هي الضمان الأهم لدمشق بأن لا تغيير للنظام. جانب من اعتبارات باراك هو أن تحريك المسار السوري من المفاوضات سيؤدي الى عزل السلطة الفلسطينية التي يعتبرها غير مؤهلة للتوقيع على اتفاقية سلام مع اسرائيل. الجانب الآخر يتعلق بلبنان وهو يرى في إعادة لبنان الى التدجين السوري له ثمن صغير إذ أن الصفقة الثنائية لها أبعاد استراتيجية أهم. انما مشكلة باراك - وكذلك اولمرت - هي في موقف الرئيس الأميركي المعارض لصفقة كهذه على حساب لبنان وعلى حساب رؤية قيام الدولة الفلسطينية. كذلك ان نائب الرئيس ديك تشيني ليس جاهزاً للتضحية بلبنان في صفقة اسرائيلية - سورية. ثم هناك في الادارة الأميركية، كما في اسرائيل، من يرى في لعبة المسارات تكتيكاً معهوداً، لكنه يرى في تكتيك فصل سورية عن ايران سياسة جاهلة لأن فصل"حزب الله"في لبنان عن ايران ازداد استحالة مما يضع عصا عريضة في عجلة التمنيات. اسرائيل تلعب بالنار في فلسطينولبنان برهانها على الورقة السورية. فإذا أرادت السلام مع سورية بانسحابها من الجولان، تكون اتخذت قراراً حكيماً. أما ان ترهن لبنانوفلسطين في أحلام فصل سورية عن ايران، فكفى استهتاراً بالعقول وبالمصالح الوطنية حتى لعرابها الأميركي.