لا يكفي توجه ايهود أولمرت إلى الشعب الفلسطيني من"سدي بوكير"كيبوتس ديفيد بن غوريون في النقب ليتحول إلى بن غوريون جديد. فقد كانت خطوته هذه عبارة عن مناورة محكومة بعقلية وأسلوب المؤامرات الحزبية الصغيرة ضد الخصوم لم تتمخض إلا عن مداورة في الربع الخالي من السياسة. وفي خطابه غير التاريخي في هذا المكان التاريخي نطق أولمرت بأفكار أكل عليها التاريخ وشرب وفعل أيضا أمورا أخرى تدخل في باب الحاجات الطبيعية للبشر يمكن أن تنسب مثل غيرها للدهر، وحولناها نحن إلى التاريخ مثل الأكل والشرب. فإعلانه أن إسرائيل سوف توافق على دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً في الضفة الغربية ليس جديدا. وقد نطق به بكلمات شارون وبموجب رسالة الضمانات من بوش إلى الأخير التي تحولت إلى وعد بوش لاسرائيل من نوع وعد بلفور. والمقصود هو دولة فلسطينية مقابل التنازل الفلسطيني عن حق العودة وعن القدس وحتى عن ضرورة انسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران 67. هذا ما يعد به أولمرت الشعب الفلسطيني، ولكن حتى هذا ليس مجاناً. فلدى أولمرت شروط ليحصل الشعب الفلسطيني على امتيازات هذا العرض السخي الذي يرفضه الشعب الفلسطيني أصلا. ومع ذلك نقول: حسنا، فما هي هذه الشروط؟ هنا بيت القصيد. وهو الذي جعل أولمرت يطرح أفكاره فجأة من دون مناسبة وفي هذا المكان. تتلخص الشروط بقبول الفلسطينيين بشروط الرباعية، وهي نبذ الإرهاب والاعتراف بإسرائيل والالتزام بالاتفاقيات الموقعة معها، حتى تلك التي لم تعد إسرائيل تعترف أو تلتزم بها. إنه يتدخل إذاً عبر هذا الخطاب في النقاش الجاري حاليا حول حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية. ولكي نفهم ما المقصود علينا أن ندرك ماذا خططوا. والكل يعلم أنه قبل أن يخططوا للخطوات السياسية نفذوا الحصار الشامل الذي جعل حكومة منتخبة تسلم بضرورة تغيير نفسها. ولا بأس طالما أنه لا بد من مخرج من المأزق الذي وصل حد احتمال الصدام الفعلي إبان أزمة الرواتب. والحكومة مسؤولية، وهي مسؤولية في ظروف دولية معطاة. ولكن حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية ليست هدفاً إسرائيلياً طبعاً. هذا صحيح. ويكمن الهدف في فرض شروط الرباعية كمقدمة للتفاوض واعتراف المقاومة بهزيمتها. ولذلك فإن الخطة تبدأ بتغيير الحكومة بناء على قاعدة سياسية جديدة. وكما هو معلوم لم تقبل القيادات الفلسطينية التي تراهن على الضغط الدولي على حكومة"حماس"بوثيقة الوفاق الوطني إلا مرحليا وعلى مضض. وفي رأيها المعلن فإن هذه الوثيقة وإن شكلت أساسا للوحدة الوطنية، فإنها لا تشكل أساسا حتى لبداية التفاوض مع إسرائيل. إنها non starter كما يقال في لغة التفاوض. ولكن الضغط الشعبي على الطرفين لتشكيل الحكومة استمر، تقوده الفطرة والرغبة في تجنب صدام أهلي، ولذلك لا بأس من اعتماد وثيقة الوفاق أساسا للتغيير الداخلي. وماذا عن إزالة الحصار، وهو الذي جعل حكومة منتخبة ترضى بالتغيير بما فيه تنازل من يقف على رأسها عن منصبه؟ لا شيء. يتم وعد"حماس"فلسطينيا بأن الحصار سوف يرفع حال تشكيل الحكومة. ثم يتضح أن على حكومة الوحدة الجديدة أن تفاوض بعد قيامها على فك الحصار مقابل قبول شروط الرباعية. مع الفرق أنه في هذه المرة يدور النقاش داخل حكومة ذات تركيبة مختلفة، والجوع سيد الموقف واللقمة كادت تصبح في الفم، وسوف يقال إن"حماس"قطعت شوطا في المرونة والواقعية، ولم يتبق إلا مسافة صغيرة تفصلنا عن شروط الرباعية، فلم لا تقبل بشروط الرباعية أو بعضها، مثل الموافقة على الاتفاقيات الموقعة والالتزام بها؟ وسوف تلام"حماس"أنها برفضها هذا تفشل حكومة الوحدة ورفع الحصار من قبل جزء من الحكومة. ولكن هذه الاتفاقيات تشمل اعترافاً بإسرائيل، هذا ما سوف يدعيه وزراء"حماس"، ولكنها سوف تكون حكومة ذات تركيبة أخرى. وكل من يرغب بتفكيكها من جديد سوف يحمل مسؤولية شق وحدة الصف من قبل الشعب الفلسطيني. وإذا لم توافق"حماس"على ذلك بعد تشكيل حكومة الوحدة، وهي لن توافق، فسوف تتبع معها طريقة أخرى مثل المطالبة باستفتاء جديد، أو إعداد صفقة سرية مع حكومة أولمرت والإعلان عنها بعد أن تصبح جاهزة مع مزاياها وعرضها على الشعب الفلسطيني المحاصر في ظروف البؤس التي نعرفها على نمط ما جرى في أوسلو سراً قبل عرضه. هذا سيناريو من يقبل بوثيقة الوفاق على مضض من أجل تشكيل الحكومة ووضع"حماس"في موقع دفاع عن النفس داخل الحكومة نفسها. حكومة الوحدة الوطنية هي أداة لرفع الحصار والصمود لفترة طويلة، بالضبط لأنه لا يوجد حل عادل مطروح حاليا على الفلسطينيين. وكما نستطيع نحن أن نحلل، كذلك أدرك قادة"حماس"هذا الموضوع. وكانت مصر صريحة معهم أنه لن يرفع الحصار قبل الاعتراف بشروط الرباعية. وأن على الحركة أن تتقدم خطوات أخرى للتوصل إلى حل وسط مع الأوروبيين والأميركيين. عند ذلك تم الإصرار على تجميد مسألة الحكومة ريثما يتم الحصول على وعد واضح برفع الحصار قبل تشكيلها مقابل معادلة سياسية من جملة واحدة واقعية لا تشمل الاعتراف بإسرائيل ولا التخلي عن المقاومة، هذا إضافة إلى شرط الاتفاق على المناصب والوزارات مع حركة"فتح"والقوى الأخرى. هنالك إذا شرطان للتقدم نحو حكومة وحدة وطنية فلسطينية في الوقت الراهن، أولاً تسلم وعد قاطع وواضح ومن طرف خارجي مسؤول برفع الحصار، والاتفاق على الوزارات داخلياً. عند هذه النقطة تحديدا وجه أولمرت خطابه المعنون خطأ مبادرة إلى الشعب الفلسطيني، كأنه يريد أن يظهر لهذا الشعب مزايا القبول بشروط الرباعية مقابل بؤس استمرار الحصار. لكي يضغط الشعب الفلسطيني أو على الأقل قواه الفاعلة المعنية بتسوية على قيادته. وانطلقت فورا أصوات أوروبية مجتمعة مع العرب في اللقاء الاوروبي المتوسطي لم تنتظر لتهنئه على شجاعته وإبداعه الذي وصل حد نفخ الغبار عن أفكار شارون مقابل قبول شروط الرباعية، كما سمعنا أصواتاً فلسطينية متوقعة اعتبرت كلامه"إيجابيا ويصلح أساسا لبدء المفاوضات". وحبذا لو استخدم هؤلاء المصطلح الذي يسمعونه من الإسرائيليين non starter في وصف أفكار أولمرت هذه، فهي لا تصلح أساسا لأي تفاوض جدي. المهم أنه في هذا الظرف تحديدا ورغم محاولة أولمرت أن يظهر بمظهر من يقرأ الخريطة الفلسطينية ويتدخل فيها لصالح"القوى المعتدلة"، إلا أن هذه"القوى المعتدلة"قادرة لو شاءت أن ترفض هذا التدخل لأنها أصبحت من دون أن تدري أقوى من السابق. لقد قوّتها المقاومة العراقية التي تعاديها بالفطرة، وقوّاها انتصار"حزب الله"الذي تسخر منه... لأن أميركا أصبحت أكثر حاجة لها بعد أن دخلت سياستها العدوانية الجديدة التي انطلقت بعد 11 أيلول طور الأزمة. وعلى الصعيد العربي نجد أن هذه القوى لا تدرك أن نفوذها قد تعزز رغما عنها، وأن عليها أن تقدم تنازلات في الشأنين العراقي والفلسطيني وغيرهما من القضايا القومية. وفي الواقع فقد دخلت السياسة الأميركية طور الأزمة بل العكس هو الصحيح، لقد أصبحت أميركا بأمس الحاجة الى القوى العربية، كما في أيام الحرب الباردة. منذ أن اتضح عمق الأزمة الأميركية في العراق ثم عمق أزمة فرض المخطط الأميركي على لبنان بعد اغتيال الحريري وفشل العدوان الإسرائيلي على لبنان، أخذت أميركا تحاول إرضاء الانظمة الصديقة في المنطقة بسبب ازدياد حاجتها اليها كمحاور إقليمية، ولكن هذه الأنظمة تتجاهل أن هذا التغيير يمكنها من تبني نبرة أقوى في التعامل مع أميركا، مثلا في قضايا مثل رفع الحصار الجائر عن المناطق الفلسطينية المحتلة، فهنالك دول عربية قادرة على الضرب على الطاولة إذا أرادت لحث الأوروبيين والأميركيين على قبول نتائج الوفاق الفلسطيني كمبرر لرفع الحصار، وبإمكانها أن تحذر وتهدد بما ستكون عليه النتيجة إذا لم يحصل ذلك. ويستطيع بعضها حاليا أن يقدم نصائح لأميركا بشأن حماقة سياسة المواجهة مع سورية وتجاهل رأيها حتى في شأن يعد ضدها مثل المحكمة الدولية. فبغض النظر عن نتائج التحقيق تناقش هذه الأخيرة كأنها موجهة للضغط على سورية، ومن الواضح أن سورية ترفضها، ولذلك فهنالك من يحرض منذ اللحظة على المواجهة. وكل عاقل يعلم أن الوضع في العراق لن يستقر على استقلال حقيقي إذا لم تتفق دول المنطقة وأقصد تركيا والسعودية وإيران وسورية على التعاون على دفع العراق للاستقرار مقابل انسحاب أميركي كامل وشامل، وعلى حلفاء أميركا أن يطالبوا بذلك، وعلى أميركا أن تقبل بتفاهم كهذا، لا أن تعرقله لكي يكون هنالك مخرج من المأزق في العراق. ويستطيع طرف ثالث حليف لأميركا أن ينصحها بدفع حلفائها في لبنان إلى قبول فكرة الوحدة الوطنية، وإذا كان لا بد من تغيير الرئاسة فهي ستؤول الى ميشال عون، حتى بمنطق الأقوى بين المرشحين، وبمنطق من يروج لفكرة الرئيس المسيحي القوي وغير الخاضع لقيادات طوائف أخرى من زاوية تركيبة لبنان بعد الطائف، لا أن تدفع اميركا حلفاءها نحو المواجهة في لبنان بوعود كارثية مطمئنة الى أن كل شيء على ما يرام، ولا شيء تغير، وأن أميركا ماضية في سياستها نفسها. * كاتب عربي