إن إطلاق حكم على نظام سياسي ما أنه ديموقراطي أو يقترب من الديموقراطية، عملية تتطلب فهما عميقا للديموقراطية من حيث هي مقولة اجتماعية سياسية اقتصادية، ذلك أن الديموقراطية ليست مفهوما ناجزا مطلقا يمكن تعريفه تعريفا مانعا جامعا، بقدر ما هي مفهوم تاريخي يختلف باختلاف السياقات والبلدان، الأمر الذي يطرح داخل كل نظام سياسي إشكاليات متعددة مثل عملية صنع القرار والتمثيل السياسي والعلاقة بين الأغلبية والأقلية والمواطنة وحقوق الإنسان والمجتمع المدني... مع ذلك يمكن القول مبدئيا إن آلية عمل النظام السياسي في إسرائيل من حيث أنه نظام برلماني نسبي يعتبر البلاد دائرة واحدة، يحقق أعلى معايير الديموقراطية الشكلية، لأنه أفضل الطرق للتمثيل النسبي للأحزاب، ولأنه الأسلوب الأقدر على تشكيل الأمة - الدولة الحديثة في حال غياب أحزاب طائفية. لكن آلية الانتخاب في النظام السياسي لم تعد معياراً، أو أحد العناصر المكونة للنظام الديموقراطي كما كانت الحال أثناء الحداثة الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث تراجعت أهمية الاقتراع والتداول السلمي للسلطة في الأبحاث الحديثة حول الديموقراطية لصالح قضايا أكثر أهمية كمسألتي حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني. إن أول مشكلة يواجهها الباحث في مفهوم الديموقراطية الإسرائيلية هي غياب دستور مدون غيابا مطلقا، ويمكن اعتبار إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي لا تمتلك دستوراً، فهي قائمة على مجموعة من الأعراف والتقاليد كما كانت الحال في العصور الوسطى الأوروبية. ويعود غياب الدستور في إسرائيل إلى سببين رئيسيين: أولا إن الدستور المدون من شأنه أن يحدد وظيفة الدولة ومهماتها، الأمر الذي يتنافى مع الأهداف الحقيقية للدولة الإسرائيلية مصادرة الأراضي من أصحابها الفلسطينيين ومنحها للمواطنين اليهود، تهجير الفلسطينيين، قانون العودة، الهجرة اليهودية، تطبيق نوع من المواطنة لا ينسجم مع أي دستور، كما أن من وظيفة الدولة الأساسية تعيين الحدود السياسية والقومية، وهو أمر لا يتفق مع العقلية الاستيطانية العنصرية الإسرائيلية، لأن هذه الحدود هي نفي موضوعي للممارسة الاستيطانية. والسبب الثاني أن الدستور سيحدد أيضا ماهية الدولة وطبيعتها، وهو ما يشكل خلافاً حاداً بين المتدينين والعلمانيين على الأقل في البواكير الأولى لنشوء الدولة، فالمتدينون لا يعترفون بالدولة العلمانية، لأن هذه الدولة ستنزع القدسية عن أرض إسرائيل. ولهذا السبب تعتبر هذه الأحزاب غير الصهيونية أن الصهيونية حركة كاذبة، الأمر الذي يعني أن الدولة من وجهة نظرها ليست بداية الخلاص كما تدعي الأحزاب الدينية الصهيونية وفق مفهوم غوش إيمونيم وأغودات اسرائيل على سبيل المثال. والنتيجة أن غياب الدستور في إسرائيل منح المؤسسات الإسرائيلية كافة، بما فيها المؤسسات الأكاديمية، حرية تجسيد المفاهيم الدينية الصهيونية على أرض الواقع ضد العرب الفلسطينيين، وهي مفاهيم تتعارض بطبيعة الحال مع أي دستور ديموقراطي، وهذا ما تنبه له كثير من الإسرائيليين، فعمدوا إلى ربط مقولتي اليهودية والديموقراطية ربطاً عضوياً من دون أي تحديد لماهية كل منهما، لأن أي تحديد من شأنه أن يشكل أساسا حقوقيا للمجتمع السياسي، ويفرض بالتالي دسترة هذه المفاهيم. ومع ذلك بقي التناقض الجذري يلف العلاقة بين هذين المفهومين، وظلت الإشكالية مستمرة في ظل نقد عربي مستمر، الأمر الذي دفع بعض الباحثين الإسرائيليين إلى إيجاد مخرج لهذه المسألة بالتأكيد على أن العنصرية الاستيطانية لا تتعارض مع ديموقراطية الدولة، مستعينين بالنموذج الديموقراطي للدولة الاستعمارية الأوروبية، التي كانت في الوقت نفسه ديموقراطية واستعمارية، لكنهم نسوا أن هذا المفهوم الديموقراطي كان يعبر عن روح العصر آنذاك، وكان يشكل القاعدة وليس الاستثناء كما هو حاصل اليوم في إسرائيل. لقد ترافق تطور مفهوم الدولة - الأمة القومية في أوروبا فيما كانت أوروبا ذاتها سائرة في طريق تحقيق سيطرتها على العالم، إنها الصياغة البرجوازية لمفهوم السيادة القومية، ومع ذلك بقيت هذه الرؤية للديموقراطية مقتصرة على اليسار الراديكالي الذي يعتبر الديموقراطية والبرجوازية وجهين لعملة واحدة هي نفي طبقة لطبقة أخرى داخل المجتمع، وبالتالي ليس غريبا أن تكون هذه الدولة استعمارية في سياستها الخارجية. وتأتي المحاولة الثانية في إضفاء الطابع الديموقراطي على الدولة الإسرائيلية من اعتبار بعض الباحثين الإسرائيليين أن منح مساواة معينة للعرب عبر إقامة بنية تحتية ما لحقوق فردية متساوية وفق إطار دستوري مع إبقاء السيطرة الحقوقية والقانونية في يد الأغلبية اليهودية، يسمح بوصف إسرائيل بأنها دولة ديموقراطية من نوع ما. يتبنى هذا الطرح البروفيسور اليساري سامي سموحة من جامعة حيفا تحت عنوان"الديموقراطية العرقية أو الإثنية"، وبحسب سموحة يمكن أن تكون الدولة ديموقراطية وعرقية في الوقت نفسه، مما يسمح بجعل النموذج الديموقراطي الإسرائيلي أحد النماذج الديموقراطية المتنوعة في العالم، فهي ليست دولة ديموقراطية بالمفهوم الليبرالي تعتمد المواطنة كأساس لنيل الحقوق، لكنها في نهاية المطاف ديموقراطية من نوع ما رغم أنها تقيم مستويين من المواطنة: المواطنون الإسرائيليون والمواطنون الفلسطينيون الذين لا يتمتعون بالحقوق نفسها الممنوحة للمواطنين اليهود. إن الديموقراطية العنصرية التي يتحدث عنها سموحة تجعل من الانتماء الإثني المدخل الوحيد للانتماء إلى الأمة - الدولة، والانتماء الإثني ليس ناجما عن أغلبية إثنية، فمفهوم الأكثرية هنا مفهوم أيديولوجي، إسرائيل ليست دولة يهودية بحكم أغلبية اليهود الموجودة فيها، وإنما بحكم تعريفها لذاتها كدولة يهودية، الأمر الذي يعني وجود أغلبية وأقلية دائمتين، وهذا ما ينتفي مع التعريف السوسيولوجي للديموقراطية وفق المفهوم الأوروبي ذي الإرث الفرنسي: من أن الديموقراطية هي النظام الذي تعترف فيه الأكثرية بحقوق الأقلية، إذ تسلم أن أكثرية اليوم قد تتحول إلى أقلية غدا، وتخضع لحكم قانون من شأنه أن يمثل مصالح مختلفة عن مصالحها، لكنه لا يمنعها من ممارسة حقوقها الأساسية. التماهي الحاصل بين الدولة والمجتمع والثقافة الإثنية اليهودية يضعف الديموقراطية لأن هذا التماهي يقضي على الأقليات لصالح ثقافة الأغلبية التي هي ثقافة الدولة، ولذلك تأتي محاولة سموحة في إطار الإدراك العميق للتناقض الجذري بين اليهودية والديموقراطية في إسرائيل، لكن محاولته تبدو متهافتة لأن منح الاعتراف الحقوقي لهذا المفهوم المركب يجب أن يأتي من الأقلية وهم عرب الداخل الذين لا يمكن أن يعترفوا بهذا النوع من اليهودية - الديموقراطية، وإنما يمكن أن يقبلوا بدولة ديموقراطية يهودية، أي دولة ديموقراطية في جوهرها وتكف عن كونها يهودية باستثناء التأثير الثقافي للأغلبية السكانية، وهذا يعني أن عرب الداخل قد يسلمون بالطابع اليهودي للدولة، لكنهم يرفضون الطابع الصهيوني المرافق لها، وهو أمر مختلف عن الرؤية الإسرائيلية التي تؤكد أولا على يهودية الدولة مع بعض السمات الديموقراطية، لأن التأكيد العميق على الديموقراطية وتوسيع مفهومها سيكون على حساب اليهودية. إنها علاقة تضمن وشمول بالمعنى المنطقي، فكلما زاد الشمول نقص التضمن، إذ أن توسيع البعد الديموقراطي من شأنه أن يقود إلى مساواة كاملة بين العرب واليهود في إطار الدولة القومية، وهو أمر لا تتحمله الهوية اليهودية، كهوية عنصرية قائمة على مفهوم النفي الثقافي والوجودي معاً. والمفارقة أن هذه الرؤية الإثنية للديموقراطية لم تمنع المنظرين الديموقراطيين الإسرائيليين من اعتبار دولتهم دولة قومية ديموقراطية متماهية في مضمونها مع الدولة القومية الأوروبية بمفهوم القرن التاسع عشر كوحدة ثقافية ولغوية. هذه المهمة يتصدى لها المفكر العربي عزمي بشارة بقوة ويبين تهافتها في كتابه"من يهودية الدولة حتى شارون دراسة في تناقض الديموقراطية الإسرائيلية". يقول بشارة:"لا تفصل إسرائيل بين الأمة والقومية والدين، وبالتالي لا يمكنها الفصل بين الدين والدولة... ليست كل دولة قومية هي دولة ديموقراطية... الدولة القومية الديموقراطية تحول المواطنة إلى أساس الانتماء إلى الأمة الحديثة بغض النظر عن أصول المواطنين القومية". بعبارة أخرى، تفتقد الديموقراطية الإسرائيلية هنا جذرها الأساسي وهو العلمنة التي تفصل بين الدين والدولة، ثم بين الدين والأمة، وهذا الفصل هو أهم سمة من سمات الدولة الحديثة، بل يمكن القول إن هذا الفصل هو الذي يحدد الحداثة في المجال السياسي، لأن العلمنة تدفعنا إلى البحث عن مبادئ معينة لا تستند إلى أسس ميتافيزيقية: فلسفية أو أخلاقية، وإنما على أسس سياسية، تحدد في نهاية المطاف مفهوم العدالة والمساواة. وعليه ليست كل دولة قومية دولة ديموقراطية، ذلك أن الدولة القومية هي التي تقوم بعلمنة رموزها الدينية، فتجعل من المواطنة أساس الانتماء للدولة - الأمة، وتجعل من الأمة مدخلاً للحصول على المواطنة الكاملة، وهو عكس ما يحدث في إسرائيل، فليس كل إسرائيلي هو جزء من الأمة اليهودية. الدين اليهودي وحده هو الذي يعطي جواز المرور إلى الأمة، ومن هنا يمكن فهم غياب مفهوم الأمة الإسرائيلية في الذهن اليهودي لصالح مفهوم الأمة اليهودية، فدولة إسرائيل هي دولة اليهود فقط. أما المحاولة الثالثة لإضفاء الطابع الديموقراطي على الدولة الإسرائيلية فيأتي من أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بئر السبع أورن يفتاحئيل الذي اعتبر أن الديموقراطية الإسرائيلية هي باختصار تلك الديموقراطية التي تهيمن فيها مجموعة إثنية على الحيز الجغرافي في الدولة وتبسط سيطرتها كاملة على الوحدة السياسية، وهذه الديموقراطية الإثنوقراطية بحسب يفتاحئيل تعني تعميق سيطرة قوانين هذه المجموعة على المجموعات الأخرى، وذلك بتحويل الحقوق الدينية إلى حقوق سياسية. والغريب أن يفتاحئيل يعترف صراحة بأن هذا النموذج أو النظام القائم في إسرائيل لا يسيطر على دولة قومية يهودية ديموقراطية، بل يشكل جهازاً سلطوياً تهويدياً على منطقة ثنائية القومية ومتعددة الإثنيات، أي أن الصهيونية وما تفترضه من عملية تهويد وتهجير هي أساس هذه الديموقراطية المزعومة، فتكون بذلك بديلا عن المواطنة التي لا تستطيع بلورة هوية يهودية علمانية. إن هذه الثقافة المفعمة بالعنصرية هي السبب وراء تعزيز النزعات اليمينية المتطرفة في المجتمع الإسرائيلي، ففي تقرير"مؤشر الديموقراطية في إسرائيل"قال 62 في المئة ممن شملهم الاستطلاع إنهم يرغبون من حكوماتهم أن تتبع سياسة إقناع 1.3 مليون عربي بمغادرة البلاد، والسؤال هنا كيف تستقيم الديموقراطية التي تفترض القبول بالآخر باعتباره انعكاساً للذات داخل الوحدة السياسية نفسها، مع ديموقراطية تعتبر وجود الآخر نفياً تاماً لوجودها؟ ألا تصبح الديموقراطية الإسرائيلية هنا غير تاريخية؟ فالنفي التام لا يوجد داخل الصيرورة الاجتماعية التاريخية، بل هناك في عالم الآخرة حيث تنفي الروح الجسد نفيا تاما لا رجوع فيه، ومع ذلك يطالبنا دعاة الديموقراطية الإسرائيلية بقبول مقولتهم اليهودية والديموقراطية كواقع مسلم به، أو كنص ديني مفارق يفترض الإيمان المسبق، ويرفض عملية التفسير والتأويل ومحاكمات العقل الأولية حتى لو كانت هذه المقولة تتعارض مع قوانين العقل الموضوعية. * كاتب سوري