عزمي بشارة الخطاب السياسي المبتور سلسلة مداخلات وأوراق نقدية مؤسسة "مواطن" الفلسطينية لدراسة الديموقراطية، رام الله 1998 252 صفحة يعتبر عزمي بشارة من أهم المشتغلين في حقل التفكير السياسي في الساحة العربية. وتنبع أهمية كتابه من كونه يناقش بالتفاصيل قضايا المجتمع العربي في اسرائيل بحكم ندرة المؤلفات التي تهتم بهذه المجموعة من الشعب العربي الفلسطيني، ومن محاولته تطوير القضايا المطلبية - الفردية لهذه الأقلية، واكسابها مضموناً سياسياً، باعتبارها جماعة - قومية، كما في المكانة المتميزة التي يحتلها المؤلف، فهو أكاديمي وسياسي، أيضا. وهذا ينبع أيضاً من كونه عضواً في الكنيست الإسرائيلي، ولكن كذلك من طبيعة أفكاره وقناعاته، ونشاطاته. في مؤلفه هذا ينتقد بشارة الأفكار والشعارات التي ظلت لمرحلة طويلة تشكل الخطاب السياسي للعرب في إسرائيل، وهاجسه دوماً محاولة صوغ مشروع رؤية جديدة لهذه الأقلية العربية. فهو يطرح تصوراته حول وضعها، ومشكلات تطورها المأزوم والملتبس، بين هويتها العربية، وانتمائها لدولة اسرائيل. ويعري بشارة المضمون الديموقراطي والليبرالي لهذه الدولة التي تعتبر الدين أساس المواطنة والأمة، والذي يتعامل مع غير اليهود باعتبارهم مجرد أفراد أو طوائف، من دون أن يكون مستعداً لإدماجهم في دولة علمانية ديموقراطية/دولة لمواطنيها، ومن دون أن يسمح لهم بالتعبير عن هويتهم بشكل جماعي - قومي. وفي مجادلاته يفضح بشارة هذا التناقض المحيط بالدولة الإسرائيلية، ويعتبره أحد مكونات أزمتها. وبذلك تبدو مساهمته في تطوير الخطاب السياسي للأقلية العربية، مساهمة في نقد النظام السياسي الإسرائيلي، وفي نقد الخطاب السياسي الفلسطيني تجاه هذه الأقلية، وهي بغناها الفكري تغطي عدداً من القضايا السياسية المتعلقة بشؤون السياسة العربية. وكتاب عزمي بشارة يتألف من: مدخل نظري وثلاث دراسات: 1 - الأقلية الفلسطينية في اسرائيل، مشروع رؤية جديدة. 2 - العربي الإسرائيلي، قراءة في الخطاب السياسي المبتور. 3 - النقاط على الحروف، وهي مجموعة مقالات متكاملة. يتمحور الكتاب حول عدد من القضايا، الأولى تتعلق بتحديد وضع الأقلية العربية في اسرائيل، حيث ينطلق بشارة من مقولة أن المميز الأساسي للجماعة القومية العربية في اسرائيل هو التحديث في غياب المدينة. لقد بقي هذا الجزء من الشعب الفلسطيني، على أرضه في هوامش الريف الفلسطيني، بعد أن حطم قيام اسرائيل مشروع المدينة الفلسطينية ومشروع الطبقة الوسطى، وهذا أدى الى تشوه البنية المجتمعية، وفي الوقت نفسه الى بروز أشكال التنظيم الاجتماعي القديمة، فالحداثة الإسرائيلية كانت اجهاضاً تاريخياً لعملية تحديث الفلسطينيين التي بدأت قبل 48. فالحداثة التي يعرفها هذا المجتمع هي الحداثة اليهودية ينضم اليها الفلسطيني مقلداً ومهمشاً ومطالباً في أفضل الحالات. ويعتبر بشارة أنه ليست هناك قومية أو فئة اسمها "العرب الإسرائيليون" أو العرب في اسرائيل لأن التاريخ السابق خلافاً للتاريخ الحاضر، هو التاريخ الفلسطيني، أما تاريخهم الحاضر أو عملية استنساخ تكونهم، كعرب في اسرائيل، فمرتبط ارتباطاً وثيقاً باستنساخ القضية الفلسطينية. فهم مواطنون في دولة لم يختاروا المواطنة فيها، ولم تقم هي من أجلهم كمواطنين. أنها دولة ليست دولتهم، وذلك وفقاً لما تعرف به نفسها، وتحدد هويتها نظرياً وعلمياً، قانوناً وممارسة. ففي حالة اسرائيل يضاف الى عدم فصل الدين عن الدولة عدم فصل الدين عن الأمة أيضا. فالفلسطينيون مواطنو دولة اسرائيل، انهم مواطنو دولة تعلن نفسها أنها ليست دولتهم، وهي في الوقت ذاته دولة أناس كثيرين ليسوا مواطنيها. هذا إذا لم يكن كافياً أنهم مواطنو الدولة التي قامت على خرائب شعبهم. والأسرلة برأي بشارة لا تعني تهويد العرب في اسرائيل، ولا تخليهم عن ثقافتهم، وإنما تعديل وتغيير الثقافة بشكل يجعل تأطيرها في الإطار الإسرائيلي ممكناً أي، باختصار، تشويهها. وهذه هي بالضبط عملية نشوء العربي الإسرائيلي. في المقابل يؤكد بشارة بحرارة إيمانه بأن العرب في اسرائيل هم جزء من الأمة العربية التي قطع طريق تطورها وتشكلها بالتجزئة الاستعمارية لبلاد الشام أولاً، ثم للوطن العربي كله، وبنجاح المشروع الصهيوني في إقامة دولة يهودية في القلب من هذا الوطن، وكحاجز رئيسي على طريق تطوره. ولهذا فهو يجزم بأن الهوية القومية بالنسبة للعرب في هذه الظروف ليست هوية سياسية فحسب، بل هي أيضاً هوية ثقافية، انها هوية الحداثة مقابل التخلف. القضية الثانية تتعلق بنقد الخطاب السياسي لهذه الأقلية، حيث يركز بشارة على شعاري المساواة والسلام، فشعار المساواة بمضمونه الفردي أدى الى قبول توضيع العرب على هامش المؤسسة والسياسة الإسرائيليتين. أما شعار السلام فقد حصر القضية الفلسطينية في الضفة والقطاع، وفصل هذا الجزء من الفلسطينيين عن شعبهم وعن تطورهم القومي. ولا يتوقف بشارة عند حدود النقد بل يطرح تصوره البديل. فالمساواة برأيه تتطلب الاعتراف بالأقلية العربية في اسرائيل كأقلية قومية، والاعتراف بحقوقها الجماعية: أي الاعتراف بحقها في إدارة شؤونها الثقافية. أما التأسرل فلن يتفتق عن قومية اسرائيلية جديدة، فالعرب لن يكونوا مواطني هذه الدولة لأن اسرائيل ليست دولة - أمة لمواطنيها، وأيضاً لأن التأسرل ينفي الهوية العربية. الأسرلة، هي خيار وهمي، وهي تعني الالتحاق الذنبي في مشروع الآخرين، وهي قمع للتطور الذاتي كما يقول بشارة. والهوية الإسرائيلية كهوية قومية ليست إلا هوية الأكثرية اليهودية، وهي لا يمكن أن تشمل المواطنين العرب، وحتى لو فصلت هذه الهوية عن الأمة اليهودية العالمية. أما شعار الدولة الفلسطينية الى جانب دولة اسرائيل فهو يعبر سياسياً عن بعد الهوية القومية في واقع العرب في اسرائيل. وبرأي المؤلف فإن البديل لما هو مطروح يتمثل في طرح المشروع السياسي الوطني المنطلق من واقع الأقلية القومية العربية، باتجاه تشكل المواطنين العرب الفلسطينيين كأقلية قومية هي جزء من الأمة العربية والشعب الفلسطيني، وكمواطنين في دولة اسرائيل يتوقون الى المساواة التامة غير المنقوصة، ومن أجل بناء مجتمع تسوده القيم السياسية المتنورة والديموقراطية. ولذلك فإن مشروع دولة المواطنين هو التجلي الممكن الوحيد لمطلب المساواة للأقلية العربية الفلسطينية في اسرائيل. وهو ليس يوتوبياً بل هو مشروع سياسي. تجمع المساواة، كما يراه مشروع دولة المواطنين، عند بشارة، هو بين النضال الوطني المطلبي الهجومي وغير الاعتذاري وبين الصراع مع الصهيونية والطبيعة الصهيونية للدولة. بهذا المفهوم يصبح العرب شركاء غير متطفلين في النقاش الجاري في المجتمع الإسرائيلي حول مواضيع مثل علاقة الدين - الدولة - الأمة. يقول بشارة: علينا أن نختار بين أمرين: إما المساواة الكاملة والإندماجية، وإما الحقوق القومية، ولكن مشروعنا السياسي/الثقافي ينص على مطلب المساواة الكاملة، ولكن غير الاندماجية، كما ينص على أن لنا حقوقاً قومية جماعية. وبحسب بشارة، ليس هذا التفكير انفصالياً أو انعزالياً، بل هو الطريق الوحيد لممارسة الموطنة فلسطينياً ولممارسة الانتماء القومي العربي اسرائيلياً. وهو أيضاً، الشكل الوحيد لخوض معركة المساواة من دون تناقضات في المواقف منها. القضية الثالثة تتعلق بعملية التسوية، إذ يعتقد بشارة أن التسوية التاريخية للوضع القومي الفلسطيني، القائمة على نموذج "دولتين"، تبدو اليوم بعيدة" وأن تسوية القضية القومية على شكل حل وسط تاريخي، شرط لحل قضية العرب في اسرائيل، إلا أنها لا تتضمن هذا الحل في حد ذاتها. وبرأيه فإن البديل الوحيد من نموذج الدولتين، الذي يمكن قبوله من دون سقوط حضاري واعتباره عادلاً، يكمن في نموذج الدولة الثنائية القومية، فقط. ويشير بشارة الى مكامن الخلل في الفكر السياسي الفلسطيني، كما الى مأزق الهوية والسياسة لدى الأقلية العربية في إسرائيل، بخاصة على خلفية عملية التسوية، حيث لا مكان للعرب في اسرائيل ضمن البرنامج الفلسطيني. ويرى بشارة أنه عندما تطرح المطالب الوطنية كمطالب مدنية، وعندما تطرح المطالب المدنية كمطالب وطنية، وتتحول الحركة السياسية للمواطنين العرب في اسرائيل بمجملها الى حركة وطنية فلسطينية، يمكن أن تحقق الأقلية العربية ذاتها في السياسة الوطنية الفلسطينية" أما المقترح في الضفة الغربية وقطاع غزة فهو برأيه تشويه لمفهوم الحكم الذاتي لأنه مقترح كبديل للسيادة القومية، من ناحية، وكبديل للمواطنة في دولة ثنائية القومية، من ناحية أخرى. أي أنه نوع من الأبارتهايد، وهو حل وسط ليس مع الفلسطينيين وإنما بين الإسرائيليين أنفسهم، حل وسط بين عدم رغبتهم بالانسحاب وإتاحة المجال لسيادة دولة فلسطينية وبين عدم قدرتهم على ضم الفلسطينيين في دولة ثنائية القومية. في مجمل طروحات بشارة يتجاور التاكتيكي مع الاستراتيجي والمرحلي مع المستقبلي، في رؤية وطنية قومية وديموقراطية، وفي عقلانية نقدية، وهو في مجمل نقده يدحض الخطابات السياسية السائدة من خلال تجاوزها بمعنى تطويرها. ويحاول بشارة بعقل الفيلسوف، وبجسارة السياسي المناضل أن يصوغ رؤية جديدة تتعامل مع الواقع من أجل تطويره وتغييره. وقد استطاع في القضايا الشائكة والمعقدة التي تناولها أن يطرح العديد من القضايا التي تتعلق بالعمل السياسي ودور اليسار والمجتمع المدني، والعلاقة بين المثقف والسياسة، ودور الحركات الدينية، والفكر القومي، كما تحدث عن إشكالية العلاقة بين السلطة الفلسطينية، والأحزاب السياسية العربية في اسرائيل. ولعل عزمي بشارة يعود في كتابات أخرى لإثارة النقاش حول هذه القضايا المهمة في حيز أوسع وبشكل أعمق يزيل أي لبس أو غموض فيها.