شيء من المبالغة تميزت به، رواية "ميكانيك الغرام" للكاتب علي سرور. أراد من كل أشكال العلاقات، إبراز أن الحب محور أساس في حياة الإنسان، حاجة يصعب التغلب عليها وهي ضرورية للتوازن النفسي والعصبي، لذلك ارتأى ان التهويمات التي ذكرها هي محرض عليه وعلى استمرار الغرام بين عاشقين، يبتدعان ما يذكي النار بينهما. الرواية بعض من مشاهد قد تبدو مكشوفة، وبعض من نقد الثورات والعقائد. لا نظنن ان الرواية تبتغي الإثارة، فبين"تعاريجها"يتلاقى الترميز اللماح بالعرض الذكي، ولولا شيء، من ميل الى عرض اكبر عدد ممكن من الحالات، لأمكن القول إنها رواية متكاملة في نقل أسباب سلوك الإنسان مسلكاً عاطفياً معيناً، بالعودة الى طفولته ومراهقته. وهنا تلبس البطل نوعاً ما، شخصية الطبيب اكثر من مرة، أو المتطفل الذي يقلد معالجاً نفسياً، وكان من الضرورة أن النساء ملن الى بوح أسرارهن له، فإذا به، نوع من بلسم جراح، وكاتم أسرار، إضافة الى مسحة من طبيب. قد تبدو السخرية في غير مكانها، ونحن نتحدث عن رواية، لا تخلو من عمق، وإن حاولت تمجيد متعة الحب. لكنّ الرواية نفسها ساخرة، وناقدة، من دون مواربة وبدس الآراء في قالب التأمل حتى أحياناً. المبالغة أتت من تراكم المشاهد فيها، فإذا بها نقيض الروايات الرومنطيقية، ولكنها تشابهها بالإثقال على القارئ بالنمط الواحد الذي تقدمه، فما الفارق بين كثرة العواطف والخواطر وكثرة المشاهد العاطفية؟ الاثنتان توقعان بالميل الى المرور السريع عليهما، في مقاطع معينة. تعمد المؤلف ان يدس في صفحات كتابه، الكلمات العامية، حيث اعتقد انها تضفي حيوية على السرد أو تؤدي المعنى، خصوصاً في المشاهد العاطفية، حيث كانت تضفي عليها حسية أكيدة، ومادية وفعلاً حقيقياً، وكان تحرره في صوغ الجمل، أشبه بدعوته الى الحرية، في استعمال وظائف الجسد، حيث الحب وظيفة طبيعية، في نظر البطل، تقوم مقام الأكل أو غيره، وحيث قرفه، جزء من ماهيته، وحيث قرف الوظائف الطبيعية، غالباً ما يشابه قذارة الانحراف عن الثورة، والفساد فيها. فالبطل ثوري استبدل الماضي بالعقيدة الحزبية، التي ينتقدها في مسار الحديث عن الغرام، لكنه غرام - المتعة في الغالب - يتشكل من لقاء اثنين، يحتاج أحدهما الى الآخر، يبادره بالفعل أو يستدرجه إليه. هكذا يتحقق القول بأن اجتماع رجل وامرأة، يفضي الى فعل واحد، لا مناص منه. او للقول بأن هذا رد الفعل الطبيعي، على اجتماعهما، وإلغاء أي احتمال آخر. والطرافة في الرواية، ان النساء كن"يهجمن"على البطل ويخترنه، قبل ان يقدم هو، ما لا يعني ان هذه الهنات تلغي النقد الجاد للثورة، كما لمعاطاة المجتمع، مع مسألة معينة، كزنى المحارم مثلاً. ذلك المقطع، الذي يحكي بواقعية مذهلة، كيف يمكن ان يُرتكب فعل كهذا، ومشاعر الضحية وتواطؤ الأم عن غياب أو بمعرفة، وشك الرجال دائماً بأنها هي الغاوية، حتى لو كانت مراهقة بلهاء، لا تفقه بعد أسرار الحب. مقطع يُبرز البطل رجلاً تقليدياً، يظن ظنون الرجال والمجتمع، وغالباً ما كان البطل الثوري والمتحرر جسدياً، يقع في التعميمات عن الرجال والنساء، كالقول بأن النساء هن كذا أو كذا. وهكذا كانت بين ثنايا"تحرره"تبرز الطبيعة التقليدية من دون قصد. البطل الثوري يعطي الحق للمرأة باستعمال الجسد كالرجل تماماً، ويعرض الاحتمالات للحصول على لذة اكثر، ويعتبرها أهم ما في الحياة، فنعود الى الجدل القديم، القائم منذ اليونان وقبلهم، عن السعادة على الأرض وهل هي بتراكم اللذات أم بالامتناع عنها. عدا أن البطل فضّل الطريق الأول، ووجده يغلب تلقائياً على الثاني. الأخلاق في الرواية موانع ومحاذير، وهناك شرخ بين متطلباتها وميول الإنسان الطبيعية. لذلك كانت النساء متعددات الهوية والبلدان، وكان الحب حاجة تقوى عندهن كلما نقصتهن. وكأنه يقول ان الطبيعة تغلب في الشكل نفسه، ولا يهم إن ارتدت المرأة زياً قديماً أو حديثاً، فهي في النهاية تواقة الى عرض مفاتنها أو التحرر. تبرز الرواية كيف يمتص التواضع المبالغ فيه، لذة الحياة، تماماً كالعقائد، التي تحاول أن تقصي المبادئ، وتتزيا بزيها، لتنتزع عفوية الإنسان في أمور كثيرة وتقتل روح الأشياء، كالبيت الذي اسكنوا البطل فيه. صرامة من هنا وصرامة من هناك، ولا فرق بينهما. تغرق الثورة في الفساد كما يغرق البطل في القذارة وهو يضع بيان الثورة، حيث يكثر عليه القيء وإفراغ الأحشاء، لكثرة ما عانى وهو يحس مسؤولية ما أُوكل به، وهو يكتشف الثورة عبر الممارسة والرفاق. ولكن ينتهي حديثها في لحظة ما، ليكمل حديث المتعة، فلعله أبقاه الى الجزء الثاني الذي يعدنا به. صدرت الرواية عن مركز الطب الطبيعي، لبنان 7 تقع الرواية في سرد التفاصيل والتحليل بين أناقة ألبرتو مورافيا والصدمة التي يبحث عنها هنري ميلر في سرده. هذان المؤلفان حضرا فجأة في خاطرنا خلال قراءة بعض المقاطع، فكان لا بد من ذكرهما سريعاً. لا تخرج الرواية عن إطار روايات حديثة عن المعاناة العاطفية، لكنها تقدم الناحية الساخرة على حس المأساة، وإن كانت هذه ضمنية فيها، كما في قصة زوجة فخري. وهي تحاول المبالغة بجرعة القرف، أحياناً، كمبالغتها بجرعة المتعة ووصفها. تخرق مسلّمات معينة، وتفتح باب مسائل محرمة. هكذا الرواية قصص عدة، وكأنها"نوافذ"الحاسوب يفتحها المؤلف واحدة من الأخرى، لتتوالد القصص واحدة من سابقتها، كالأسلوب القديم في القص، في"ألف ليلة وليلة"او غيرها، فلو أردت أن تجد نهاية لن تجدها وكأنها شريط مصور مر في ذهن البطل، وجمع كل تجاربه وكل تهويماته، بدئاً من الكلمة الأولى حتى الأخيرة. منذ تفترق الثورة عن الغرام قد يبدأ حديث آخر، أما هذا الحديث، فهو غراميات الثوري، من بدايته حتى اللانهاية...