إذا كانت الكتابة النقيض، في حالة "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم، هي كتابة للقبح بأكثر من معنى، فإن كتابة القبح - في هذا السياق - لا بد أن تحدث صدمة في وعي القارئ الذي يقرأها، صدمة قرينة المعرفة المفاجئة التي تدفع الوعي إلى مفارقة أحوال الحذر التي استنام إليها، وتجبره على إعادة النظر في كل ما يتصل بموضوع الكتابة، وتفرض عليه مساءلة كل شيء بما في ذلك وعيه الأدبي الذي تطبّع بطريقة بعينها من طرائق الكتابة، رسّختها العادات الثقافية والأعراف الاجتماعية السائدة لنمط الكتابة المهيمن. ولكن إذا كانت الصدمة المعرفية هي العلامة الأولى لكتابة القبح، من حيث هي كتابة نقيض، خصوصا في مدى تأثيرها في القارئ، فإن هذه الصدمة تتجلى على مستويات عدّة. يتصل أولها بصدمة الحسِّ البرجوازي في ما يتصل بمسائل اللياقة الاجتماعية. ويتصل ثانيها بصدمة هذا الحس في ما يتصل بقضايا لغة الكتابة وتقنياتها. ويتصل ثالثها بما يترتب على صدمتي اللياقة الاجتماعية والمواءمة الأدبية من مصاحبات لازمة، مصاحبات تجعل من كتابة القبح كتابة لا تخلو من طابع استفزازي، سواء في هامشيتها أو نزوعها إلى انتهاك قواعد التهذيب الزائف والنفاق المصقول، ومن ثم تنطق المسكوت عنه من خطاب الوعي - أو حتى اللاوعي - الاجتماعي العام أو الفردي. وهي، نتيجة لذلك، كتابة مرهقة نوعا للقارئ، لأنها لا تسمح له بممارسة عادات الاسترخاء العقلي التي اكتسبها من الثقافة السائدة، ولا تقدم له المتعة نفسها من متع التسلية التي تتميز بها الروايات التي يمكن قراءتها في المترو أو القطارات أو الطائرات، وإنما تفرض عليه اليقظة الدائمة، والانتباه المستمر، ومزاج توليد الأسئلة التي لا تكفّ عن التولد من الأسئلة. بعبارة أخرى، تفرض على القارئ أن يكون شبيهاً بها في مقاومة المعتاد، والمألوف، والمبتذل، والشائع، ومن ثم رغبة الإبحار في عوالم لا تخلو من المناطق المعتمة، بل من الأنواء أو العواصف، ولا دليل فيها سوى الوعي الذي يضع كل شيء - بما في ذلك نفسه - موضع المساءلة التي لا تتوقف أو تهدأ، حتى بعد انتهاء فعل القراءة الذي يغدو فعلاً معرفياً لا يخلو من معنى الانتهاك. وتجليات صدمة الحس البرجوازي، في ما يتصل بمسائل اللياقة الاجتماعية، لافتة بتكرارها في رواية "تلك الرائحة". والبداية دال "تلك الرائحة" - العنوان الذي يتضافر مع غيره من دوال المدركات الحسية في تأكيد الشعور بالقرف، والنفور، والاستياء، والمرض، والموت، والشذوذ الذي يصدم العين كالرائحة النتنة المتكررة التي تزكم الأنف بأنواعها وأحوالها العديدة. وتبدأ لحظة الاستهلال - في مدى هذا الدال - من غرفة الحبس الاحتياطي التي هي معبر نعبره - نحن القراء - إلى عوالم القبح الذي تزدحم الرواية بصوره، فنشاهد البلل على رقبة البطل، ونشعر معه بلزوجة بقع الدم الكبيرة المصاحبة لحشرات "البق" الذي يفعصه الموقوفون احتياطياً على الجدران، تاركين بقعه الكبيرة برائحتها النفاذة في كل مكان من الحجرة. ويكون ذلك مقدمة لعوالم العنف التي نشاهدها، في الغرفة نفسها، بعيني البطل، ونحن نرقب عنف المقموعين الذين يتحولون إلى قامعين، فيضرب الأقوى منهم الأضعف، وينتهكه جنسياً، وذلك في المشهد الذي يوازي ما يحدث فيه للرجل المجنون من اعتداء بالضرب ما يحدث للصبي من انتهاك جنسي، من دون أن نرى أي تدخل من أحد، أو أي فعل احتجاج، فقد دخلنا - نحن القراء - عالم المقتولين القتلة، العالم الذي ينعكس فيه القمع على المقموع فيعيد إنتاجه على مقموع أضعف منه، كما لو كان يأخذ منه ثأره الذي يعجز عن أخذه من القامعين الحقيقيين. وعندما نخرج من غرفة الحبس الاحتياطي، مع البطل الذي جاءت أخته لاستلامه، ونطوف معه بالمترو، حيث يطوف في رحلة إعادة اكتشاف الأهل والأصحاب والشوارع والحياة بأسرها خارج السجن، نجد أنفسنا ننتقل من مشهد موت إلى مشهد عنف، إلى ذكريات قمع، إلى صور للشذوذ والفساد، وذلك ابتداء من المترو نفسه الذي انقلبت عرباته على جانبها بجوار القضبان، وقد برزت أحشاؤها الداخلية السوداء، والرجل الملقى على الرصيف بجوار الحائط، وقد غطّته جرائد ملوَّثة بالدماء، وعلى الرصيف وسط الشارع تجمعت عدة سيدات بملاءات سوداء، يلوّحن بأيديهن ناحية الرجل، مروراً بمشاهد موت الأب والأم، تلك المشاهد التي تفتح الأبواب للذكريات الموازية عن موت الأصدقاء في المعتقل، تلك الذكريات التي لا نفارقها إلا لكي نكمل دورة الموت المنسرب في هواء المدىنة، ويفترش بناياتها الصفراء المتّسخة التي نراها بعيني البطل، فلا يصدمنا منظر "براز كلب بجوار الحائط" على امتداد حديقة مهجورة، اقتلع البلاط الملون في ممراتها، تاركاً في النفس إيحاءات توازي الإيحاءات الناتجة عن منظر مداعبة البطل لكلب ابنة عمته الذي ما إن لامس ظهره حتى انثال بوله على الأرض في الحال. وللمرض والنشوة والعجز علامات نلمحها في كل مكان من المدىنة التي نطوف فيها مع البطل، المدىنة التي تدفع إلى تذكّر رواية "الطاعون" التي كتبها الكاتب الفرنسي ألبير كامو عن مدىنة اقتحمها الوباء. وليس من المصادفة أن يسأل البطل قريبته عما إذا كانت قرأت رواية "الطاعون". ويشعر أن شيئاً كثيراً يتوقف على الإجابة. لكنه لم يكن في حاجة إلى السؤال، فعلامات الوباء منتشرة في كل مكان، كالزحام الذي يخنقه في المترو، والصداع الحاد الذي كان يطارده تماما مثل الصداع الذي كان يفترس صديقه في المعتقل عندما يرتجف ما في داخله ومياه المجاري الطافحة برائحة لا تطاق، والفتاة العوراء التي نراها مرة وهي تبكي، والفتاة العرجاء التي تسير بجوار قضيب المترو كل يوم، والعجوز المنهدم الذي يأتي لاهثاً إلى منزل ابنة العمة، والعم الوحيد الباقي المريض بقلبه، وثرثرة الأخت مع ابنة العمة عن جدة نهاد المريضة التي لم يعد يطيقها أحد، وعن العمة التي ظلت شهوراً في الفراش الذي لم تغادره إلا إلى قبرها، وكانت تبول فيه، وعن زوجة ابن العم التي سقطت في شهرها السادس. وقس على ذلك الحديث عن موت الأم التي انعزلت عن الناس، وذهبت عند أبيها، رافضة أن ترى أمها أو أحداً من أولادها، ثم: "مرضت فجأة. رفضت أن يراها الطبيب، أو تأخذ دواء ما. وأخذت تهزل شيئا فشيئا ثم امتنعت عن الطعام نهائيا، وفي آخر يوم طلبت كوب ماء. وعندما شربته سقطت ميتة". ولا تتباعد صور الموت أو العجز أو التشوّه، في تفاعلاتها السياقية، عما يتجاوب معها سردياً من مشاهد الوصف، أو الموازيات الرمزية المصاحبة للأحداث، والدالّة عليها، أو التي تمهّد لها، أو تقوم بما يشبه التجاوب النغمي معها. هذا ما نلمحه عندما يذهب البطل مع أخته ليشاهد - في اليوم الأول من حريته - فيلماً "عن طيور يزداد حجمها وعددها حتى تتوحش وتطارد الناس وتفترس الأطفال"، أو الفيلم الثاني الذي يشاهده البطل نفسه، في اليوم السابع مع أخيه الذي يريد أن يتزوج فتاة صغيرة - عن فتاة تركت شاباً في سنها وأحبّت كهلاً، أو عن الفيلم الأخير الذي لم يستطع البطل أن يشاهده - في اليوم العاشر والأخير من يومياته - عن عالم مجنون .. مجنون. وتقطّع الصداقات - نتيجة الخوف - دالة موازية، أو لازمة من لوازم هذا العالم المجنون. سامي الزميل القديم الذي يرفض لقاء البطل عندما يذهب إليه في بيته، ويكاد يطرده من المكتب مخافة الشبهة، هو الوجه الآخر من سري الذي يرفض مدّ يد العون بحجة أن الظروف لا تساعده، وكلاهما الوجه الآخر من الحبيبة القديمة التي كتبت خطاباً تتساءل فيه عما إذا كانا سيلتقيان بعد سنوات السجن. وعندما يلتقيان بالفعل يدرك البطل أنها تفكر في الشيء نفسه الذي يفكر فيه: هناك شيء ما ضاع وانكسر. وتكتمل الأوجه بأحد معارف البطل الذي يلقاه في الطريق مسرعاً، فيحاول السير بجواره، ولكنه يخبره أن عليهما الافتراق. ومن الطبيعي، إزاء هذا النوع من الأصدقاء، أن يقيم السرد توازياً دالاً بين البطل والمرأة الوحيدة التي يراها في إحدى غرف مقر المجلة، تجلس إلى مكتبها وقد أسندت خدها بيدها، والدموع في عينيها، كما تقيم التوازي الدال نفسه بين البطل وما يراه وهو جالس في أول "كازينو" صادفه على "كورنيش" النيل، مختاراً مائدة منعزلة، ويتأمل مياه النهر على النحو التالي: "تابعتُ ببصري قارباً به شاب عاري الصدر يجدّف. وفجأة سقط منه أحد المجدافين وابتعدت به المياه. وأدار الشاب دفة القارب محاولاً اللحاق بالمجداف الضائع. وكان يعمل الآن بمجداف واحد. وينقله في كل لحظة إلى أحد جانبي القارب. ولكن المياه كانت تعاكسه، وكلما أفلح في الاقتراب من هدفه ابتعد عنه. وبدأ يجدف بحركات محمومة. وبدا اليأس عليه. وترك المجداف فجأة وضم راحتيه أمام فمه. وصرخ لزميل له في قارب بعيد طالباً النجدة. ولكن زميله لم يرد عليه وربما لم يسمعه. ولم تكن القهوة قد جاءتني. وناديت على الجرسون فلم يلتفت ناحيتي". هذا العالم اللامبالي الذي يعيشه البطل يعمِّق فيه الإحساس بأنه عجوز، لا يبتسم أو يضحك، وحين لا يرى الناس يبتسمون فإنه يسقط شعوره الداخلي على عالمه الخارجي الذي لا يستجيب إلى نداءاته كالجرسون في الكازينو ولا يسمع صراخه في توحده كالصديق الذي لا يسمع صديقه في القارب التائه بلا مجداف. وذلك إحساس يوازي شعور البطل بكونه، خصوصاً بعد كل ما حدث أو يحدث له، أضعف من أن يحدث بفعله الاجتماعي أي تغيير في هذا العالم. وكل ما يملكه، إزاء هذا العالم، هو تثبيت بعض ملامحه على الورق، لعل الكتابة تجسِّد على مستوى التحقق المادي رغبته في أن يحدث شيء ما، أن يأتي أحد إلى عالمه ليتواصل معه. وعندما لا يجد ذلك يكون سلوكه غير المألوف، في بعض المواقف، نوعاً من الردّ على السلوك اللامبالي الذي يلقاه أو يتلقاه، خصوصاً من أولئك الذين حسبهم أصدقاءه. ذلك ما يفعله، مثلاً، عندما يذهب إلى منزل صديقه سامي الذي يتركه منتظرًا لوقت طويل لعله يملّ ويمضي. وخلال ذلك تدخل إلى الحجرة طفلة يدرك البطل أنها ابنة سامي: "ووقفتْ بجانبي، وكنت متعباً، وأريد أن أذهب إلى دورة المياه، وأطلقت من ظهري رائحة شمتها الطفلة. وقالت رائحة "كاكا" وتجاهلت الأمر. لكنها عادت تردد: رائحة كاكا، فجعلت أتشمم حولي، وأقول لها أين؟ حتى اختفت الرائحة". ولكن الرائحة التي تختفي من المشهد، والتي كانت استجابة للرائحة المتكررة في المشاهد السابقة، سرعان ما تعاود الظهور كأنها علامة على نتن العالم الذي يواجهه البطل، والذي يخلف فيه إحساساً بالقذارة، فلا يملك سوى الاستحمام، ذلك الفعل الذي يتكرر في الرواية على نحو دال، كأنه محاولة لتخليص الروح من تلك الرائحة التي تتخلل المسام، ولا يستطيع الجسم سوى معاودة إنتاجها، احتجاجاً عليها وتأثراً بها في آن. هذه الرائحة في ذاتها صورة أخرى من صور صدمة اللياقة البرجوازية الحريصة على انتظام الأشياء وإبقائها على ما هي عليه. وهي صورة توازي صورة الفتاة في نافذة المنزل المقابل وهي تحتضن فتاة مثلها، وتقبّلها في شفتيها، كما توازي صورة البطل الذي يعجز عن التواصل الجنسي مع حبيبته القديمة فلا يملك سوى الذهاب إلى الحمام والتخلص من رغبته هناك ، تماما كما يتخلص من الشعور بالعجز عن الكتابة بالعبث في جسده، ليرتمي على المقعد متعباً، وهو يحدّق في الورقة الفارغة بنظرة فارغة، ثم يترك المقعد ليعبر فوق الآثار التي تركها أسفل المقعد، والتي تظل هناك مع المحاولة التالية للكتابة، على هيئة بقع سوداء تضفي على المشهد كله معنى آخر من معاني "تلك الرائحة". وحتى عندما ينجح البطل، مستعينا ببعض المعارف، في الحصول على امرأة من الطريق، فإنه يضع ما يسميه "الجراب" قبل أن يراها. وحينما يراها بملابسها الداخلية، تتوقف عيناه على قميصها الداخلي المخرّم، ويلجأ إلى التشبيه الذي لا نكاد نراه في الرواية التي تنزع عن كتابتها كل أساليب الزخرفة التقليدية، ومنها التشبيهات التي يمكن أن تجعل الأشياء أجمل مما هي عليه، فالتشبيه يفيد المبالغة كما يقول القدامى من أهل البلاغة، ويؤدي وظيفته بعدم تكراره في كتابة "تلك الرائحة". وأهم من ذلك التداعيات التي يثيرها التشبيه، خصوصاً عندما يؤكد لنا السرد أن القميص كان "بمبي اللون، مثل قماش أبيض غمس في الدم، ثم غسل عدة مرات فاحتفظ بلونه الباهت". هذا القميص الذي يحمل بقايا لون الدم الذي لم يفارق وعي البطل، الراوي، هو علامة موازية على فقدان الجنس معنى التواصل. ولذلك لا تتلامس الشفاه، وينتهي المشهد بتطلع الشاب الذي أحضر الفتاة لوجهه في المرآة، فوجده أحمر، وقال: "لا يوجد شيء يساوي أي شيء"، وينصرف تاركاً البطل لوحدته التي لم يستطع أن يتخلص منها إلا بالكتابة عنها. هذه الكتابة النقيض - كتابة القبح - لا بد أن يكون تشكيلها نقضياً مختلفاً. ولذلك لا نجد أي فواصل بين الفقرات، أو علامات على فصول، أو حتى التنبيه إلى أيام، وإنما دفق من الكتابة المتصلة المتدافعة التي تأخذ طابع المذكرات العفوية التي يرويها الكاتب - البطل الذي يلعب دور الراوي الذي يجعلنا نرى عالمه في تجواله بين أنحائه المحدودة في عشرة أيام، خلال حيز مكاني محصور، هو صورة موازية للسجن الذي خرج منه كما أشرت من قبل. ولا ينقطع تدفق وعي الكتابة التي لا تغوص في مناطق عميقة من تيارات اللاوعي، وتظل محافظة على يقظة الوعي، لا تغادره إلا إلى تداعيات الذاكرة التي تستدعي مخزونها من أحداث مشابهة أو موازية لأحداث الحاضر، وذلك في سياقات متجاوبة مع سياقات الأسئلة التي لا يستطيع البطل أن يجيب عنها، فيترك تيار الوعي الداخلي ينطق المسكوت عنه ظاهرياً، بعيداً عن المستمع الموجود في الموقف. هكذا، يمتدّ السرد ويندفع مع الراوي - السارد في دفق يومياته التي تمثل تعاقب الزمن الحاضر للكتابة، لا تقطعها إلا الذكريات أو التعليقات التي تأخذ شكل نجوى داخلية، هي استجابة إلى ما يحدث في الزمن الحاضر، وذلك على نحو يخلق تراكبًا ما بين مشاهد الحاضر ومشاهد الماضي القمعية في المعتقل الذي ينهش بأنيابه أيام الحاضر التي تتحول إلى سياحة بين خرائب الموت وأطلال المرض والتواءات الشذوذ. وإذا كان الأساس في حركة السرد هو تدفق التتابع، على نحو يلغي حضور الوقفات، فإن هذا التتابع يعتمد على لغة عارية، تبين عن مدلولاتها بلا التباس، ومن دون أن تلفتنا الدوال إلى حضورها الذاتي، بل تقذف بنا إلى مدلولاتها على الفور، من غير حاجة إلى التشبيهات أو الاستعارات أو المجازات. وهي لغة ينعكس موضوعها على مبناها، فلا تستخدم من صور البلاغة إلا الاستعارات الميتة التي أصبحت من قبيل "مسكوكات" الحياة اليومية. وتتدافع الجمل الصغيرة التي يمكن أن تتكون من كلمتين أو ثلاث فحسب، حريصة في تتابعها على البدء بالأفعال التي تشير إلى الحركة، وذلك في أسلوب لا يخلو من التراكيب أو الكلمات العامية، أو الركاكة المتعمدة التي تنقض جمال الأسلوب الرصين. ويوازي ذلك اطراح النزعة العاطفية، والاعتماد على الوصف المحايد البارد الذي يبدو في الظاهر أشبه بلغة التقارير. أعني الوصف الذي يمكن أن نقرأ في سردياته شيئا من قبيل: "قال الضابط ما هو عنوانك؟ قلت ليس لي عنوان: تطلع إليّ في دهشة. إلى أين إذن ستذهب أو أين تقيم؟ قلت لا أعرف. ليس لي أحد. قال الضابط لا أستطيع أن أتركك تذهب. قلت كنت أعيش بمفردي. قال لا بد أن نعرف مكانك لنذهب إليك كل ليلة. ليذهب معك عسكري. وهكذا خرجنا إلى الشارع أنا والعسكري. وتلفتُّ حولي في فضول. هذه هي اللحظة التي كنت أحلم بها دائما طوال السنوات الماضية. وفتشت في داخلي عن شعور غير عادي، فرح أو بهجة أو انفعال ما، فلم أجد. الناس تسير وتتكلم وتتحرك بشكل طبيعي كأنني كنت معهم دائما ولم يحدث شيء". والواقع أن عدم عثور البطل - الكاتب على شعور غير عادي أو انفعال عاطفي في داخله، أمر متعمد لتأكيد اطّراح النزعة العاطفية، وتركيز الفعل الإدراكي للقراءة على ما تعانيه الأنا اللامبالية في الظاهر، تلك التي تتسلح بحيادها في مواجهة العالم الذي لا يأبه بوجودها، والذي استمر على ما هو عليه كأنها غير موجودة فيه، وسيمضي إلى ما يمكن أن يمضي فيه على رغم وجودها. هذه الأنا تقاوم بكبت عواطفها وانفعالاتها ما يمكن أن يفضي بها إلى الدمار النفسي، وتتسلح بما يمكن أن يعينها على كل الإحباطات التي تقابلها في السرد، وتدفع القارئ لما تكتبه إلى إعمال العقل، لا عن طريق التعاطف أو التقمّص الوجداني أو "الطرطشة" العاطفية وإنما عن طريق إمعان النظر، وتأمل الكنايات البصرية المتكررة والممتدة كألوان "تلك الرائحة" المنتشرة في ثنايا السرد. ولذلك فنحن، دائما، مع بطل بلا اسم أو بطولة، بطل يحسد سائق مترو "يضع قطعة أفيون في فمه ويشرب الشاي" على حظّه، وعلى أنه وجد طريقة يستعين بها على مواجهة الحياة. هذا البطل حياده الظاهري الخادع احتجاج على حيادنا الفعلي الخانع، ولامبالاته الخارجية قناع يستر ضعفه الذي يمكن أن ننتهكه بغلظتنا. ولغته التي تطرح العواطف والانفعالات، مثل سلوكه حتى عندما يعرف بوفاة أمه، فرار من الحدية، وتعبير غير مباشر عن النفور من القوالب العاطفية المتوقعة، أو حتى المطلقات، خصوصاً على مستوى الوعي الذي يتوقف عن إصدار الأحكام في السرد، ويظل مراوحاً في لامبالاته الخارجية وحياده الظاهري، غير مفارق منطقة التذبذب المعلق، بعيداً عن العيون، ما بين الافتقاد إلى الحب والعجز عنه، والرغبة في التواصل والخوف منه. وعندما تنتبه لغة هذا البطل - الكاتب - الراوي - إلى المروي عليه - القارئ المضمر أو المعلن - فإنها لا تكف عن استفزازه بالإمعان في عفويتها الخادعة، كأنها تخاطب فيه قارئاً من نوع خاص، قارئاً من جنس ذلك القارئ الذي خاطبه الشاعر الفرنسي شارل بودلير - في مفتتح "أزهار الشر" - بقوله: أيها القارئ المرائي يا شبيهي يا أخي.