"السبب في أن الأطفال هم المستقبل ليس انهم سيكبرون. كلا، السبب هو ان الانسانية تتحرك أكثر فأكثر نحو الطفولة. الطفولة صورة المستقبل". كونديرا تسيطر على انطباعاتنا عن القرن العشرين صور البربرية التي لا سابق لها. لكن يمكن ان تسيطر عليها الى الدرجة نفسها صور الصبيانية التي لا سابق لها. القضية ليست الخيار بين الاثنين، لأنهما مترابطان. ذلك ان قسماً كبيراً من البربرية ارتكب بحق البشرية من قبل صبيانية جماعية انتظمت في آليات كبرى للقتل. ولا بد ان الانطباع الأول لدى شخص ناضج يشاهد الأفلام الوثائقية التاريخية هو مدى صبيانية الاجتماعات الشعبية النازية، او حملات التعبئة الستالينية، أو المسيرات الأميركية الملوحة بالعلم التي تبدو للوهلة الأولى اقل شراً لكنها سببت الكثير من المآسي في انحاء العالم. أين اذن تلك التوقعات من "الوضعيين" أوائل القرن الذين اعتبروا ان الانسانية على وشك الوصول الى سن الرشد "متجاوزة" المرحلة الدينية من تاريخها. من المفيد ان نذكّر انفسنا ببعض الانطباعات التي لا يمكن نسيانها: اليس من الغريب ان نجد في بعض الدول مكبرات الصوت المنشورة في كل مكان لكي تغرق كل الناس تقريباً بالموسيقى العسكرية والخطب الدعائية الهستيرية المحتوى والنبرة؟ لم يكن من مهرب من هذه المكبرات حتى عندما تتاح للشخص فرصة الذهاب الى عطلة في الريف او على ساحل البحر. انها ظاهرة يربطها الكثيرون بالستالينية او الماوية ويعتبرونها كابوساً استيقظنا منه. لكن هل هذه هي الحقيقة؟ لنقارن بين المعالم التي تحدد هوية الثقافة العالمية مع معالم الجهود السابقة للتقدم بالحضارة الى المدى الأقصى. معالم الامبراطورية الرومانية كانت تلك المعابد العظيمة والمسارح والحمامات، فيما كان الكثير من الطرق والمشاريع المائية التي ابتنوها على درجة من المتانة جعلتها صالحة للاستعمال حتى اليوم. وعندما وصلت الحضارة الاسلامية أوجها في القرون الوسطى كانت معالمها الرئيسية تلك الدور الكبرى للعبادة والعلم. أما اليوم ما هي المعالم الأبرز؟ ميكي ماوس واقواس مكدونالد وقمصان "نايكي" باسمها المستعار من ربة النصر الأغريقية وماركات كوكاكولا ومايكروسوفت الخ. ويوفر لنا التباين الصارخ بين ميكي ماوس والكاتدرائيات الغوطية كل ما نريد معرفته عن الأولويات التي يطرحها الوضع المعاصر. ونقرأ دوماً التقارير عن المسؤولين الاميركيين الذين يذهبون الى ارجاء العالم فلا يقدمون سوى منتجات شركاتهم. وأصبحت شعبية البضائع الاميركية في الخارج مقياساً لمدى نفوذ الولاياتالمتحدة. اما تناول غالبية القيادات الغربية للقضايا التي تتعلم بالقيم، فيبرز في تردده وضعفه مدى الافلاس الفكري السائد الذي يشعر به الجميع. المشكلة هي ان الرغبة المخلصة في تخليص القرن العشرين من البربرية لم تستطع التحرر من تلك النزعة "الصبيانية" المذكورة اعلاه. فكما ان هناك صبيانية كامنة في عمق افكار السيطرة على العالم، الشيوعي منها او النازي، هناك في المقابل الصبيانية في فكرة السلام العالمي التي قامت رداً على تلك الأفكار. ان الفجاجة النفسية التي تنطوي عليها فكرة السلام العالمي التي اصبحت سائدة حالياً تجعل من ذلك الطموح محاولة لجعل العالم حديقة ملاه كبرى، وليس امامنا الآن سوى العيش مع هذا التصور. ولكن، لما كانت عقلية "حديقة الملاهي" هذه وليدة مناخ الكآبة نفسه الذي يصاحب العقلية التوتاليتارية، فانها لا تحمل الكثير من المرح والانطلاق. وكما نعلم فإن للأعياد والمهرجانات والكرنفالات جذوراً حقيقية في حياة وثقافات الشعوب، وكانت ترتبط بأحداث مهمة وتأتي لكسر رتابة الوتيرة اليومية عن طريق ما تحمله من انطلاق وبهجة. أما "مدينة الملاهي" فهي متشابهة في كل مكان ومفتوحة دوماً، ولا معنى لها سوى استغلال حب الأطفال للهو، وبالتالي الحط من هذه الغريزة البريئة عن طريق المتاجرة بها، وهو ما يهيئ لتحويل الطفولة الى العقلية الصبيانية. الصبيانية هي الانحراف الذي قد يصيب الطفولة. يمكننا الآن اعادة طرح السؤال الذي لم يجد جواباً: هل الافلات من عقلية "حديقة الملاهي" أسهل بالنسبة الينا من امكان سكان دول شيوعية مثل تشيكوسلوفاكيا او كوريا الشمالية الافلات من مكبرات الصوت ونداءاتها الملحاحة؟ هل من الأسهل الآن تجربة الصمت والتفكير والتمعن، لكي نكون صانعي حياتنا وليس مجرد منساقين في مجراها؟ ان التصوارت الصبيانية جلية في كل مكان. فهناك ناطحة سحاب في ناشفيل في شكل "الرجل الخفاش"، واخرى في هيوستن في شكل صندوق "جيوك بوكس". كما نجد شعارات الشركات ومعالمها في كل مكان. ووصلنا الآن الى التعبير الأقصى عن عقلية "حديقة الملاهي"، اي الانترنت، حيث تبدأ الصبيانية بمجرد فتح الكومبيوتر لتسمع تلك الأصوات وترى الرموز التي تدخل من خلالها الى الشبكة. وهكذا فان التأليفات العلمية والأدبية العظيمة متروكة الآن الى صندوق الألعاب هذا. لشبكة انترنت ايضاً آثارها السلبية على العلاقات الانسانية. ويحاول مشغلوها اقناعنا بأنها تلم شمل الأهل والأصدقاء الذين تفرّق بينهم المسافات، وتوفر فرصاً لا حصر لها للتعرف على الآخرين. لكن، يستحيل على انترنت التعويض عن تلك العناصر اللامرئية التي تعطي العلاقات الانسانية تميزها: تقاسيم الوجه، نبرة الصوت، العطر، طريقة الكلام، جو اللقاء والنكهة التي يضفيها المكان، اللفتات والاشارات الخ. ونحن نعلم كيف ان الهاتف يزيل أو يضعف أكثر هذه العناصر، فيما تحتاج الرسائل الى الكثير من الجهد الأدبي لكي تعبّر عن بعضها. أما انترنت فانها تأتي في أسفل السلم من حيث مستواها التعبيري، وتدفع بالعلاقات الانسانية نحو الضمور عندما تقصرها على تبادل "المعلومات" بالمعنى الحرفي لذلك. انها قد تسهل الاتصال بين الافراد لكنها وسيلة لا تقوى على التعبير عن الجوانب العاطفية والجمالية والروحية للاتصال. يمكننا الاستطراد في وصف صبيانية القرن العشرين. لكن علينا لايجاد العلاج الممكن تحليل أسبابها. أشرنا سابقاً الى التلازم بين الصبيانية الكامنة في ثقافة السلام العالمي الحالية والتي في الثقافة التوتاليتارية. ويمكن القول ان الحروب العالمية والسلام العالمي نموا من التربة الصبيانية نفسها. لكن للصبيانية جذوراً أعمق، وعلينا، قبل تناولها، ان نضع في الحساب عدداً من التمييزات: هناك فرق بين الطفولة وما نسميه هنا الصبيانية، فللطفولة براءتها وجمالها، فيما للصبيانية رعونتها. واذا كانت هذه ممجوجة في الأطفال فهي مرعبة عندما تتحول الى ظاهرة جماعية بين من يفترض انهم بلغوا سن الرشد. وهنا جوهر المشكلة: لم يعد ممكناً للأطفال، ولا يستطيعون، ان يكونوا اطفالاً، ومن هنا فانهم يصابون بالصبيانية عندما يكبرون. في ما يلي ما يمكن اعتباره بعض تلك الأسباب: يعيش الأطفال اليوم في عالم مادي بالمعنى الأحط للكلمة. فهم محاطون بسلع تتناقص قيمتها الرمزية سنة بعد سنة. وكان في امكانهم قبل سنوات ان يعيدوا بالالعاب خوض معارك تاريخية حاسمة، او ان يمارسوا العاباً تنشط المخيلة وتوسع المدارك، تدور مثلاً حول التوصل الى حل لجريمة ما، او السبيل الأفضل للسفر من بلد الى آخر، او خوض المنافسات التجارية والعقارية. اما الآن فليس للالعاب غالباً سوى معناها التجاري، أي انها مجرد السلعة التي يستفيد من بيعها الصانع، ولا تدين بنجاحها سوى الى حملات الاعلان عنها، ومرتبطة في كثير من الحالات بافلام الاطفال. الأسباب الأعمق لهذه الحياة المادية التي يعيشها الأطفال في الدول الغنية تتعلق بعقلية "السبب - النتيجة" التي تسيطر على العالم الحديث، حيث يجري طرد كل ما لا يمكن فهمه عن طريق آلية "السبب - النتيجة"، الصبيانية بذاتها، الى هامش الوعي الانساني. لكن الأطفال هم بالدرجة الأولى من يهمل هذه الطريقة الصبيانية في التفكير التي تفرض على كل شىء، اذ ان جوهر طفولتهم هو اطلاق الخيال، ليعيشوا، لو سمحنا لهم بذلك، في عالم اسطوري سحري، مليء بالارواح، الخير منها والشرير، عالم عطوف وجميل احياناً، ومخيف احياناً اخرى. وكان الاطفال من الانديز الى بحيرة بيكال يعيشون في جبال ووديان تتردد فيها انغام الأساطير وتنثال شلالات السحر راجع: ارغويداس Deep Rivers, University of Texas Press وبورودين The Year of Miracle and Grief, Quartet Books. الأنماط التشكيلية والأشكال الخرافية التي زينت مساكن البشر في عصور ما قبل التاريخ، من افريقيا جنوب الصحراء الى بريطانيا، لا تزال شاهداً على عالم مسحور. أما اليوم فنحن نرفض هذه الزخرفة، او نعيد انتاجها في شكل مزيف، او نكتفي بتغطية المباني بالاعلانات، وهو ما لا يؤدي الى الانسحار، على الرغم من ان اعمالاً مثل أعمال اتالو كالفينو في مجموعته القصصية "ماركوفالدو" تقارب ان تصل الى هذه المستوى. ونجده في واحد من تلك القصص يجعل علامة للكونياك تبدو وكأنها على الدرجة نفسها من السحرية التي للشمس لدى قوم الكيتشاوا في البيرو. يمكن القول عموماً ان الاسطورة ازيلت عن عالمنا، لكي تحل محلها مجموعة من الخرافات العلمية تقوم على تتبع لأقصى ما يمكن من سلسلة "السبب - النتيجة"، لتؤدي الى اشياء مثل "الثقب الأسود" وضغط الفراغ والأكوان الهولوغرافية ومخلوقات الفضاء. واحتضن حتى الأطفال، بحماسهم المعهود، هذه الثقافة، من دون ان يدركوا أن هذه الأساطير العلمية وشبه العلمية لا تؤدي في النهاية سوى الى فقدان الوطن الانساني، أي كوكبنا الأرضي بعدما يزال عنه سحره. ان كوكباً يُرى من منظور "السبب - النتيجة" الصبياني، بشحوبه وثقله، لا يربّي سوى اطفال يعيشون عالماً مادياً فجاً يشوّه نموهم. ويفاقم من الشعور بفقدان الوطن الانساني، الذي يسببه زوال سحر الحياة، الضرر الذي يصيب الحياة العائلية. والاتجاه الحالي هو ان الأطفال يفتقرون الى الشعور بالانتماء على درجة من العمق تجعل من المستبعد عليهم التغلب على الندوب الدائمة التي يتركها ذلك في نفوسهم. ومن بين التطورات التي اصبحت مألوفة في الدول المتقدمة الى درجة انها لا تلاحظ، موت العائلة بمفهومها الواسع القديم. ففي بلد مثل الولاياتالمتحدة ينشأ الملايين من الأطفال من دون ان يعرفوا تتابع الأجيال ولا يرون الجد والجدة او الاعمام والعمات الخ. ان ملايين الاطفال لا يخالطون سوى أبويهم، أي العائلة - النواة، المهددة نفسها بالانشطار بسبب تفشي الطلاق أو الأطفال الذين يغادرون المسكن العائلي قبل بلوغ الرشد. في الدول التي نحاول ان نستشف منها ملامح المستقبل نجد ان الكثير من الأطفال لا يجدون ما يكفي من الاختلاط الاجتماعي، في تلك المرحلة من حياتهم التي هي الأفضل لتعلم كيفية اقامة العلاقات مع الآخرين. كما ان الأبوين في العائلة الصغيرة نفسها يكونان عادة مرهقين بالعمل ولا يستطيعان التعويض عن هذا الافتقار الى الحياة الاجتماعية. واذا كان هذا لا يكفي فهناك ايضاً عدم تشجيع للأطفال لكي يكونوا على طبيعتهم. انهم لا يستمعون الى القصص من الاقرباء او المعارف الذين يكبرونهم بكثير، بل في حالات كثيرة لا يستمعون الى اي قصص. واذا كان هناك دوماً التلفزيون فإنه يفتقر الى العفوية في رواية القصص او صنعها. اما شبكة انترنت فليست الوسيلة الصالحة لابتكار القصص او سردها، وللسبب نفسه الذي لا يسمح للشبكة ان تكون وسيلة كافية لادامة العلاقات الانسانية في مستوى يتجاوز النقل المجرد للمعلومات. ان على القصص ان تروى في شكلٍ معين وضمن جوٍ معين، خصوصاً اذا كان الراوي العمة او الجد مثلاً، وهي السبيل الأفضل لتنمية المخيلة. ينمي الأطفال مخيلتهم ايضاً عن طريق اللعب. لكن الألعاب التي تدور على تشكيل عالم خيالي لم تعد موجودة تقريباً. ومن بين اسباب ذلك الاعتماد المتزايد على قصص الخيال العلمي، لأن المخيلة الصحيحة لا تحتاج، في تجسيد نفسها الى أطر تشمل المجرات والأكوان. كما ان محاكاة الواقع من قبل الكومبيوتر تبعد الأطفال اكثر عن استعمال مخيلتهم، بعدما كانوا يضطرون الى استعمالها في الماضي. ويمكننا لايضاح هذه النقطة ان نتذكر كيف كان علينا تخيل البلاد والشعوب البعيدة قبل ان يغرقنا سيل الأفلام الوثائقية والتقارير الصحافية التصويرية. وعلى رغم الاهانات العنصرية والتصورات المسبقة فقد كانت للطفل الغربي فرصة أكبر في تغذية مخيلته عن طريق تصوير هرغي لحضارة الانكا في حلقة من "مغامرات تنتن" مما يجده الآن في التقارير التلفزيونية المقيدة ب "اللياقة السياسية". مفهوم اللعب نفسه اصابه التشويه في المناخ الذي تفرضه فكرة التنافس، الممسوخة عن الداروينية، السائدة في المجال الاقتصادي. فعندما يُدخل الطفل في سن مبكرة في مسابقات ويلقن ان الفوز هو الهم الوحيد فانه يفقد ملكة اللعب. ذلك ان الطفل اثناء اللعب بمعناه الحقيقي قد لا يريد الفوز، لأن ذلك يعني نهاية اللعبة، فيما يريد لها الاستمرار. هكذا نجد الكثير من الاطفال اثناء لعبة "مونوبولي" وهم يطيلون اللعب الى ما لا نهاية عن طريق اقراض منافسيهم وتجنيبهم الافلاس، ما يعني ان اللعبة لا تنتهي الاّ عندما تدعوهم امهاتهم الى العودة الى البيت. في هذا النوع من اللعب لا يهم أبداً من كان الفائز. لكن على الطفل التنافس في مدارس الحضانة وفي حصص الموسيقى او الرقص، وعليه السعي الى دخول فريق الصف او المدرسة فيما لا يكاد يكون قد وصل الى ما يكفي من التناسق في الحركة يمكنه من ممارسة اللعبة. كل هذا لا يسمح للطفل بتنمية مفهوم للعب بالمعنى الحقيقي، بل ان يُقحم في عقلية التنافس السائدة لدى الكبار. كما يجري تشويه الطفولة في غالبية الدول الحديثة عن طريق التعريض قبل الأوان لعالم الكبار. ولما كان الكبار الذين يفرضون ذلك هم انفسهم ممن عانى من كبت الطفولة، فهم ايضا طفوليون او صبيانيون الى حد كبير. والاطفال الذين لا يسمح لهم بممارسة طفولتهم يتحولون لاحقا الى طفولة مشوهة. وهاهم الأطفال الآن يكبرون قبل اوانهم فيما يبدي الكبار طفولية بشعة. من هنا تصبح ثقافة السلام العالمي طفولية الى الحد الذي تكون فيه الثقافة العالمية محددة من قبل كبار لا يمكنهم ابداً ان يكونوا اطفالاً واطفال قد ينضجون ليصبحوا من الراشدين. انها تبدو حلقة مفرغة، بل هي على الأرجح كذلك. لكن هل يمكن كسرها؟ لا يمكن المبالغة في ما لدى الأطفال من حسن النية. لكن علينا في الوقت نفسه ان لا نقلل من مقدارها. في المقاطع الأخيرة من رواية اندراي ماكين الرائعة "احلامي عن ليالي الصيف الروسية" يكتشف الشخص الذي تدور الرواية على ذكرياته انه ولد في معسكر الاعتقال نتيجة اضطرار امرأة معتقلة الى الخضوع لرغبة سجّانها. وتموت هذه المرأة ويُعطى المولود الى اسرة تتبناه، وينشأ معتقداً انها اسرته الحقيقية. المؤثر بالنسبة إلينا انه قبل اكتشاف أصله يتذكر الاسلاك الشائكة وغابات الصنوبر التي تضيئها شمس الخريف في سيبيريا حيث كان المعسكر، او انها ليست ذكرى فعلية بقدر ما هي حلم يراوده من بعيد ويشعر نحوه بالشوق. ويعود اليه الحلم عندما يقع اثناء المراهقة في غرام فتاة التقاها في معسكر تدريب شيوعي في الغابات. للأطفال، اذا اتيحت لهم الفرصة، اضفاء السحر على عالمهم. وهكذا، بسبب الطفولة السعيدة مع العائلة التي احتضنته، خصوصاً مع "الجدة" الفرنسية الأصل التي غذّت مخيلته بذكرياتها، استطاع بطل الرواية استعادة المرحلة المأسوية الأولى من حياته بهذا الشكل المليء بالحنان. وعلى الرغم من ان القول اسهل من الفعل علينا تشجيع الكبار على خلق اجواء تمكن الأطفال من اللعب واطلاق الخيال بعيدا عن الماديات الفارغة والاعلام ورسائله الفجة التي لا نهاية لها. الأطفال في حاجة الى الاستماع الى القصص لكي تلهمهم أساليب ابداعها بأنفسهم. انهم في حاجة الى ان يروا مباشرة ان العالم مليء بالحياة وليس ان يعلموا عنه بالوساطة. فوق ذلك هم في حاجة الى الدفء الانساني الذي يغذي فيهم روح الخير ويشكل قاعدة لنضجهم. السلام العالمي بالمعنى الناضج يقوم على اطفال يتمتعون بعفوية الطفولة وينضجون في النهاية كراشدين لا يحنون الى طفولة ضائعة ويسقطون تبعاً لذلك الى مستوى الفجاجة الصبيانية. لكن، علينا ان نكون واقعيين وندرك ان النظام الاقتصادي العالمي لن يتسامح مع هذه الاعتبارات لأنه يقوم على حمّى الاستهلاك التي يحد منها بقوة التضامن العائلي الواسع والصداقات حيث يجد التعامل الانساني الصحيح متسعاً من الوقت وثقافة تفتح المجال امام اللعب بمعناه الحقيقي وتعطي المخيلة المكانة التي تستحق. لا يمكن الاّ لتغيير ثوري في الفكر والممارسة الحاليين على صعيد الاقتصاد ان يجعل الاطفال يتمتعون بعفوية الطفولة، وان تكون لهم بيوت، وان تتوافر مرة اخرى بيئة تغذي وتديم الطفولة بدلاً من الصبيانية. لكن، بعدما اظهر لنا هذا القرن شرور العمل الثوري، علينا ان ننتظر لنرى كيف يمكن للتغيير الثوري ان يحدث من دون التسبب بأذى يفوق ذلك الذي يسعى لمنعه. من جهة اخرى، ساهمت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التدريجية في تقزيم الطفولة المعاصرة، لذا لا يقل اذى عدم القيام بشىء اطلاقاً. ولا تتوافر بعد اي خطة للتغيير، كما ليس من الواضح في الوقت نفسه اذا كان وجود مثل هذه الخطة شيئاً مرغوباً. لكن يجب اتخاذ بعض الخطوات الملموسة التي تبعث بعض الامل. احدى الخطوات الحاسمة التي يمكن اتخاذها تتمثل في الابتعاد عن العولمة. وتكمن مشكلة العولمة في انها تخلق موقفاً يتسم بعدم احتمال تعقد الحياة البشرية. فانصار العولمة لا يكترثون بالخصوصيات المحلية والطبيعة المتعددة الاوجه للتطلعات الانسانية. وتدفع عقلية العولمة كل شىء نحو التبسيط المفرط. تأمل للحظة في هذا الامر: ما الذي يتخطى على افضل وجه كل حاجز ثقافي يمكن تخيله؟ نوعان من الاشياء فقط: كل ما يكتسب اهمية شمولية بالنسبة الى الانسانية، وكل ما هو من الضحالة لدرجة انه لا يلامس اي شىء ذي اهمية. لنفترض اننا قلنا ان الدين مثال جيد على شىء ذي اهمية شمولية. لكن الحياة الدينية للفرد ليست امراً بسيطاً. فحتى اذا جرى توضيح عناصره الاساسية بغض النظر عن الاختلافات المحلية او الشخصية، كما الحال في كل اديان العالم، فان تفحصاً عن كثب لتطور هذه الاديان سيبيّن مدى ما ذهب اليه ممثلوها في تكييف مواعظهم وتعاليمهم لتلائم الحقائق المحلية. فالدين المعني يحتاج الى جهد كثير كي يترسخ فعلاً بين افراد فعليين. وبالعكس، يقدم الميل المعاصر لوضع مقاييس موحدة لاديان عالمية كالاسلام مثالاً جيداً على الطريقة التي يجري بها إفقار الدين حتى في ما يتعلق بالابعاد الداخلية لحياة المؤمنين. وكانت حياة المؤمنين أغنى بكثير قبل ان تتيح الاتصالات الحديثة والتطورات السياسية - الاقتصادية امكان اضفاء مقاييس موحدة على الاسلام. لا ينتشر ما يكتسب اهمية شمولية بشكل مؤثر اذن الاّ اذا كُرّس الكثير من الوقت والجهد لمساعدته على ترسيخ اقدامه اخذاً في الاعتبار مدى تعقد الحياة البشرية. ولا يقتضي ما يصبح شمولياً بسبب ضحالته تكريس مثل هذا الوقت والجهد. فالاشخاص الذين تشدهم اليها اجهزة التلفزيون والكومبيوتر فيما يُسحبون خارج نطاق حياتهم الداخلية يمكن اغواؤهم لاستهلاك منتجات ديزني وشرب الببسي حيثما كانوا. ولان البشر يفضلون ما هو سهل المنال على ما هو اصعب اذا اُتيح لهم ان يختاروا بين الاثنين، فان العولمة لا يمكن الاّ ان تؤدي الى التبسيط المفرط الذي يترجم نفسه الى الى نوع من الصبيانية. ويمثل هذا، بالاضافة الى ما اشرنا اليه حول التأثيرات الثانوية للثقافة الصبيانية التي ادت الى نشوء التوتاليتارية، شكلاً اخر للطريقة التي تعرض بها مشروع السلام العالمي الى التشويه. وكان نشأ في الاصل على ايدي اعضاء نخب ثقافية ادركوا عقم الحرب العالمية. تصوروا، ربما في صورة غير مقصودة، وجود سلام بين ابناء جلدتهم. وهو على شاكلة السلام بين ديغول واديناور. ولنا ان نرى بالفعل كيف انهارت معايير هذا السلام مع تعاقب اجيال القادة الفرنسيين والالمان، من ديغول الى شيراك ومن اديناور الى كول. وعلى صعيد السكان بشكل عام تحول الى مهزلة. فقد اصبح السلام الاوروبي نزعة استهلاكية جماعية تحت اشراف بيروقراطيين يجرون محادثات مالية سرية في بروكسيل. ويجري توسيع المنطق ذاته ليشمل مجالات اخرى، ويرجع الفضل في ذلك بقدر لا يستهان به الى حكومة الولاياتالمتحدة ومنظمات مثل صندوق النقد الدولي. ويبدو ان لعبة كرة القدم اصبحت المصدر الرئيسي للاثارة وسط السكان بشكل عام، وهي إثارة تحولت على نحو واضح الى حنين الى ايام الاحتلال والحروب بين سكان شمال اوروبا، خصوصاً الانكليز والالمان والهولنديين، تأتي "وراءهم" على مسافة لا تبعد كثيراً اسبانيا وشمال ايطاليا اجد نفسي مضطراً ان اذكر في هذا السياق اني احب كثيراً لعبة كرة القدم واستمتع فعلاً ببطولة كأس العالم كل اربع سنوات، لكن ان تشغل اللعبة هذا القدر من الاهمية في حياة الاورروبيين يعكس الحال المؤسفة لثقافتهم، وهو يفسر لماذا لا تُمارس اللعبة بالمتعة التي يمكن ان تجعلها جذابة فعلاً. الطريقة الوحيدة التي يمكن بواسطتها إبطال الصبيانية العالمية هي اما ان يجري إبطال العولمة او تعديلها جذرياً. والطريقة الوحيدة التي يمكن بواسطتها جعل ثقافة السلام العالمي سلاماً بين الراشدين هي ان يجري التمييز بين السلام العالمي والعولمة. فالعولمة ليست شرطاً ضرورياً للسلام العالمي. ويمكن الوصول الى سلام اكثر نضجاً عبر ادراك اهمية التباينات بين الثقافات والافراد والتنوع في مستويات تعقدهم وعمق تفكيرهم. وربما كان من الافضل التفكير باستخدام مفاهيم التعايش او التوافق العالمي بدلاً من السلام العالمي، لان الاخير غالباً ما يفترض مسبقاً وجود بشر اكثر ضحالة منا بكثير. يمكن ان نفكّر بدلاً من ذلك باستخدام مفهوم ثقافة تسامح او قبول عالمي اذا كانت كلمة "عالمي" تعجبنا كثيراً. سيكون من الطبيعي تماماً في مثل هذه الثقافة الاّ يطيق الاشخاص بعضهم بعضاً ولا يتحملون سوى الوضع. ومثل هذه الثقافة التي تتصور وجود تفاعلات من دون مشاعر استياء، وخصومات، ومجادلات حادة وانواع اخرى من الكره بين افراد وجماعات متنوعة ستكون نوعاً جديداً من معسكرات ال "كولاك"، من دون اسلاك شائكة وحراس مسلحين، لكنه يملك الوسائل لخلق نفوس وعقول مهزولة في انحاء العالم. لنتذكر ان الاشقاء ليسوا غالباً احسن الاصدقاء فحسب بل احسن الاعداء ايضاً. ويتعين علينا، مثل الاشقاء، ان نعيش سوية ونحب احدنا الاخر احياناً، لكن قد نختلف بقوة في الرأي. ستكون الثقافة الناضجة لسلام عالمي هي تلك التي تستأثر فيها حديقة "زن" باهمية اكثر من "سوني". * مفكر لبناني مقيم في واشنطن