حين خاضت الولاياتالمتحدة الاميركية الحرب على العراق، لم يكن ذلك من أجل نزع أسلحة الدمار الشامل، ولا من أجل تخليص العراق من نظام الرئيس صدام حسين ولا الرأفة بشعب العراق المنهوك بالحصار والحروب الاقليمية، أو إشاعة قيم الديموقراطية والتطور، وانما بهدف البدء في تغيير جذري في الخريطة الجغرا - سياسية للعالم العربي ما بعد نهاية الحرب الباردة. إذ يجمع المحللون الاستراتيجيون في الغرب على انه خلال بضع سنوات ستفرض الحرب تغييراً في دول الشرق الأوسط، لا سيما تلك الدول التي تضج بالتنوع الهائل بالأقليات العرقية - الدينية. الولاياتالمتحدة ليست معنية بحماية القانون الدولي والترويج لقيم الحرية والديموقراطية، بل انها معنية بنهب ثروات المنطقة والسيطرة عليها سياسياً وعسكرياً. والعراق ليس سوى جزء من سلسلة، من استراتيجية جديدة للقوة العظمى الوحيدة أطلقتها رداً على أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001. ولم تعد الحرب الاميركية تعني العراق وحده، العراق كدولة فقط، بل ان الاستراتيجية الاميركية التي يتحدث عنها الرئيس بوش وأركان إدارته، وحديثهم العلني عن نيتهم تغيير خريطة المنطقة، أفقدا معظم الدول الشرق أوسطية شعورها بالامان. خلال السنوات الاخيرة من عمر الاحتلال الاميركي، بدأ المظهر العام للشرق الأوسط يتغير، على الأقل في بلدين مهمين في المنطقة، العراق أولاً، وايران لاحقاً. وكانت هذه الحرب الأميركية إذن، لاعتبارات عدة الكاشف عن الهزيمة التاريخية لحركة القومية العربية ليس في العراق فحسب، وانما كذلك في دول عربية أخرى عدة، ولنموذج الثورة الاسلامية في ايران. ونحن نرى انه مع سقوط النموذج سواء القومي العربي أو الاسلامي، برز الى السطح وجود ثلاثة أنماط من المشاكل: مشكلة وجود وبقاء الدولة الشرق أوسطية، ومشكلة شرعية واستقرار السلطة، ومشكلة ديناميكية الثقافة السياسية. من المعروف والمتفق عليه عموماً الاعتراف، ان العراقوايران، في صراعهما الايديولوجي والحرب الطويلة التي دارت بينهما، لم يسهما إلا في تنشيط الانفساخ بين العرب والايرانيين، الذي طبع الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، بعد ان فقدت فرصته تصدير النموذج، في معظم حالاتها، كثيراً من صدقيتها، كي تشهد المنطقة انزلاقاً جرى نحو اختيارات الاستبدال التي صارت تتضح عبرها بعض التطلعات السياسية الخاصة بالعناصر المتصلة بالاقليات. لقد كان العراقوايران قطبين مهمين ومؤثرين في منطقة الشرق الأوسط، وحاول كل منهما ان يحقق السيطرة الاقليمية، تارة بتقديم النموذج الذي يجب ان تحتذي به دول المنطقة، وتارة أخرى عن طريق القوة العسكرية، وتارة ثالثة عن طريق الاثنين معاً. العراق الذي كان يحكمه حزب البعث العربي الاشتراكي، المتسلح بإيديولوجية القومية العربية، كان يحكم بالاستناد الى شرعية من النمط القومي وحدة عربية واشتراكية في الأصل خاصة لا سند لها من شرعية دينية فضلاً عن الأقلية. وكان العراق يقدم خطاباً سياسياً متعلقاً بالأكثرية الوحدة العربية وبال"طبقية"الاشتراكية، وربط في خضم حربي الخليج الأولى والثانية بصورة وثيقة الدفاع عن العروبة بالدفاع عن الاسلام، كي يظهر ان الشرعية الاسلامية الى جانبه، وإن كان هذا الخطاب لم يكن خالياً من بعض التناقضات. غير ان تربة الشرق الأوسط تقدم لنا تكذيباً لنظريات التحديث التي تتنبأ بها القومية العربية، التي كانت تعتقد انها بالتركيز على طابع الانصهار القومي والوحدة العربية، سينحدر الواقع الأقلي الإعفاء في السياسة على آثار الانفساخات العرقية الطائفية لمصلحة التناقضات الطبقية في المجتمع العراقي الآخذ في التقدم نحو التحديث. وقد دللت تجربة النظام السياسي الحاكم في العراق كيف ان التشرب التفاضلي لل"حداثة"التغريب النسبي لبعض الفئات الاجتماعية اسهم في تعميق الفوارق بين الطوائف العرقية - الدينية، وفي جعل مشكلة الأقلية حادة أكثر. أما ايران، فقد كانت منذ سقوط الملكية العراقية عام 1958، تعمل على استغلال تظلمات وضغائن وأحقاد الطوائف الشيعية والكردية في العراق، لأغراضها الخاصة من أجل توطيد هيمنتها على منطقة الخليج وتسوية مسألة شط العرب، وكذلك من اجل تصدير الثورة الاسلامية. وحاولت الثورة الايرانية ان تقدم نموذجها لجهة فرض حكومة اسلامية، وتحفيز الطابع"الطبقي"الحد من التباينات الاقتصادية التي فاقمها النمو وانتهاك سياسة الدفاع القومي والثقافي الرد على"التحدي"الغربي والانكفاء على قيم اسلامية تنهض على أنها أكثر ديموقراطية. ومن المعروف ان الايديولوجية المهيمنة في ايران، من خلال تطبيقها الطفولي استفادت من غياب ايديولوجية سياسية أخرى رافضة، قومية وغير علمانية، كما أن الثورة الايرانية ساعدت على تغذية الحركات الاسلامية في البلدان العربية عامة، والمعارضين الشيعة خصوصاً، الإحساس بأنها صارت تملك من الآن فصاعداً في ايران دولة مستعدة لدعم مطالب الشيعة في كل منطقة الشرق الأوسط. وكان في ذهن القادة الايرانيين أنه لا بد من نشاط لهذه الأقليات من أجل نشر أفكار الثورة الايرانية. غير ان التجربة التاريخية تكشف لنا ان الثورة الايرانية كانت تخدم أغراضاً قومية، من دون ان يكون هذا قد قيل صراحة، لأن المفهوم القومي عند الايرانيين ما لبث ان طفا على السطح: فقد كانت القومية الايرانية تحاول تعبئة شعور التضامن الديني لدى شيعة العراق لمصلحتها، وهذا ما يكشف لنا ان الثورة الاسلامية الايرانية لم تكن ولا لديها الامكانات والاستعدادات للذهاب قدماً في محاربة الولاياتالمتحدة الاميركية واسرائيل. من هذا المنطلق، نجدها اليوم في مأزق كبير. فالمثال الايراني لم يعد يعمل كما يجب، وهذا ما يفسر لنا ايضاً الصراع الحتمي بين الجناحين داخل السلطة الايرانية، جناح الاصلاحيين الذي كان يقوده محمد خاتمي، وجناح المتشددين بزعامة آية الله علي خامنئي. وعلى رغم ان الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي انتخب بحرية خلال دورتين عام 1997 و2001، وحصل على غالبية مريحة في مجلس الشورى البرلمان، إلا ان الهزيمة المنكرة التي مني بها في الانتخابات الايرانية الأخيرة، شكلت خيبة الأمل الكبيرة للايرانيين من معسكر الاصلاحيين العاجز عن تكريس التغييرات المنشودة التي وعد بها. فالاصلاحيون يريدون ممارسة الديموقراطية، ويعتبرون ان مسألة السيادة تعود الى الاقتراع العام الشعبي المباشر، وهم ليسوا ضد الإسلام، بوصفه إجدى ركائز الهوية القومية، ولكنهم يريدونه أن يكون قابلاً للذوبان في الديموقراطية، وهم يمثلون أكثرية في إيران التي تعد 60 مليون نسمة، فأكثريتهم ولدوا بعد الثورة التي قادها الإمام الخميني عام 1979. وقد أثبت التيار الإصلاحي في إيران أنه عاجز عن تقديم مشروع مجتمعي بديل في صراعه مع التيار المحافظ. وبالمقابل، نجد التيار المحافظ الذي يدعي انه يجسد الإرث التاريخي للإمام الخميني، يتمحور حول المرشد آية الله علي خامنئي، والفريق الأكثر محافظة في الحوزة الشيعية الإيرانية، والرئيس أحمدي نجاد. ولا يختلف المحافظون مع الإصلاحيين حول المقاربة للديموقراطية، لكنهم يصرون على التمسك بالسلطة، فهم يريدون تطبيق ديموقراطية شكلية، لكنهم عازمون على أن تبقى إيران جمهورية إسلامية حقيقية يحكمها آيات الله. ويسيطر المحافظون على مراكز القوى داخل النظام الإيراني: القضاء، والميليشيا المستقطبة من عناصر تقطن الأحياء الشعبية والجيش، وأخيراً الحرس الثوري الذي يفوق تعداده عدد أفراد الجيش الإيراني ويتمتع بموازنة كبيرة. لا شك أن كلاً من التيار الإصلاحي والتيار المحافظ لا يريدان المواجهة، فلا الإصلاحيون الذين جاءوا من حزب الثورة الإسلامية يريدون أن يجسدوا القطيعة مع مرجعية الثورة الإسلامية، وبالتالي يقومون بإصلاحات راديكالية من داخل النظام حيث أخفق غورباتشوف عندما أراد اصلاح النظام السوفياتي، ولا"القائد"الروحي علي خامنئي يكرس الاستحواذ المطلق للسلطة، فهو يعرف كيف يرضي الإصلاحيين. والنتيجة التي يمكن أن نستخلصها من خلال هذا العرض هي أن الرئيس أحمدي نجاد وآية الله علي خامنئي يحافظان على الوضع القائم"الستاتيكو". وهنا يكمن اخفاق الثورة الإسلامية الإيرانية في تقديم النموذج الذي يحتذى به في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. وهذا الاخفاق متعدد الأوجه: في الصراع مع الامبريالية الأميركية حيث نجد تقاطع المصالح من الناحية الموضوعية بين إيرانوالولاياتالمتحدة، حرب أفغانستان أسقطت نظام طالبان، والحرب العدوانية على العراق أسقطت نظام صدام حسين، والنظامان كلاهما يعتبران عدوين رئيسيين من وجهة النظر الإيرانية. أما على الصعيد الداخلي فقد أخفقت الثورة في تحقيق العدالة الاجتماعية والحريات العامة والفردية لأبناء الشعب الإيراني، وهنا تكمن أزمة النظام الإيراني الناجمة عن التوفيق المستحيل بين الديموقراطية ونظام آيات الله. ولم تلبث الحرب العراقية - الإيرانية، التي كانت تقدم وجهاً مذهبياً بارز الطابع، أن كشفت عن البعد القومي في الصراع بين العرب والفرس. وكانت الثورة الإيرانية تريد استغلال الذين خاب أملهم من العلمانية التي جاءت بها الحركة القومية العربية الى منطقة الشرق الأوسط، وكانت تريد باسم الإسلام أن تؤلب الرأي العام العربي ضد النظام العراقي الذي كان يحكمه حزب البعث العربي الاشتراكي. وفي الواقع التاريخي، لا يزال موضوعا الديموقراطية والعلمانية يشكلان بؤرة التوتر في العلاقة التناقضية بين الحركة القومية العربية والاشتراكية من جهة، والإسلام السياسي من جهة أخرى. ولا يزال الصراع الذي بدأ منذ عصر النهضة بين الحداثة العلمانية والرؤية السلفية التقليدية قائماً، وإن كان قد اتخذ حركة المد والجزر، حسب الظروف التاريخية والسياسية التي تمر بها الأمة العربية، وطبيعة القوى السياسية الاساسية المسيطرة على طاقات المجتمع العربي. وازداد هجوم الثورة الإيرانية في الميادين السياسية والايديولوجية والثقافية في ظل الوضع العربي القائم المتسم بالتراجع، والهزائم والانكسارات، ولجم الحركة النقدية، حين استهدفت النظام العراقي، الذي كان يطمح إلى أن يصبح القوة الاقليمية الأولى في منطقة الشرق الأوسط على حساب إيران، وكان البعث يريد أن يأخذ القيادة بعد الحركة الناصرية المدفونة في الرمال بعد هزيمة 1967 في مواجهة إسرائيل وأنقاض الاقتصاد المنهار بسبب التخطيط السوفياتي. ولم يخف الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الذي تسلم مقاليد الحكم في عام 1968، طموحاته السياسية لجهة أن يصبح زعيماً عربياً يقود الأمة، انطلاقاً من قناعاته القومية بعد رحيل عبدالناصر، لكن صدام حسين لم يكن يملك كاريزما الزعيم المصري، ولا موهبته، ولا نظرته المتوقدة، ولا عقله الشديد الشمول. وباختصار شديد، ليس هناك من أوجه مقارنة بين الرجلين. لكن الرئيس السابق صدام حسين كان يملك بالمقابل ثروة نفطية هائلة، وثروة زراعية، ونمواً ديموغرافياً متوازناً، وهي الأمور التي تفتقدها مصر. وشهد العراق في العقد الأول من حكمه قفزة نوعية هائلة تمثلت في العديد من الانجازات الضخمة: تأميم النفط، واصلاح زراعي جذري، وتأميم الشركات الكبيرة والملكيات الكبيرة، وحداثة علمانية حققت بعض الانتصارات والتقدم العلمي والتكنولوجي. غير أن هذا التقدم الهائل لم يدم طويلاً، بسبب طبيعة النظام الشمولية التي أدخلت العراق في سلسلة من الحروب: ضد الأكراد أولاً، والحرب العراقية - الإيرانية الطويلة ثانياً، وحرب الخليج الثانية ثالثاً، الأمر الذي جعل الشعب العراقي يعيش في مسلسل الحروب الاقليمية منذ أكثر من عقدين من الزمن، وما جلبه اليه من كوارث. وبعد هزيمة العراق في حرب الخليج الثانية، أصبح النظام العراقي شبحاً متدنياً للنموذج العلماني الذي أراد حزب البعث تطبيقه في منطقة الشرق الأوسط، واختزل المشروع القومي العربي الذي نادى به البعث في حكم الرئيس صدام حسين المطلق، الذي هو نقيض لنموذج الحكم المستنير والتحديثي الذي زعم أنه بصدد تطبيقه في بداية عقد السبعينات. ومع انتهاء الحرب الأميركية على العراق، يعيش العراق في زمن الفوضى الخلاقة والصراع الطائفي والمذهبي، بعد أن سقط النظام القائم على حكم قبلي وأوليغارشي. إنه البقايا الأخيرة لنموذج الدولة العلمانية في الشرق الأوسط التي تعيش حالاً من الموت البطيء بعد العدوان الأميركي على العراق. لقد وجدت الدول العربية الشرق أوسطية نفسها هدفاً لتنازع مزدوج يمارس من جهة باسم حركة الوحدة العربية، ومن جهة أخرى باسم الثورة الإسلامية، وبالتالي ثمة نموذجان يفضحان"الطابع الاصطناعي"واللاشرعية في الدولة، يمزقانها بين بناء الدولة القومية ذات الطابع العلماني والاتحاد في كيان وحدوي عربي أوسع، وبين خطر بناء الدولة الإسلامية على الطريقة الإيرانية. نهاية النموذج القومي في بغداد، ومأزق كبير للنموذج الإسلامي في طهران: فماذا يبقى في ظل الاحتلال الأميركي الجديد للعراق بعد انهيار النموذجين اللذين سادا في منطقة الشرق الأوسط منذ ثلاثة عقود؟ الشيء القليل في الحقيقة، في ظل الفراغ السياسي الكبير، وعودة الانفجار المتعلق بالأقليات الذي عاد الى الانطلاق: أكراد العراق، واليقظة الشيعية المتصلة بعدوى الثورة الإيرانية، وأطماع الدول الاقليمية: تركيا في شمال العراق وحلم"إسرائيل الكبرى". * كاتب تونسي