انشغل كثيرون بالنتائج المباشرة للحرب الأميركية - البريطانية لاطاحة نظام الرئيس السابق صدام حسين في العراق وما يتصل بذلك من إعادة بناء النظام السياسي في العراق وإعادة ترتيب الأوضاع الاقليمية في المنطقة. وعلى أبعد تقدير عني البعض بمستقبل التدخل الأميركي في دول المنطقة بهدف تغيير نظم الحكم فيها أو بالصلة بين الحرب على العراق ومستقبل الترتيبات الخاصة بإحياء عملية السلام بين العرب وإسرائيل، خصوصاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين. نزعم هنا اننا ننظر الى أبعد ما يبدو على السطح من وقائع، ونختص بجزئية واحدة محددة هي تأثير الحرب على العراق على مستقبل العلمانية في المنطقة. قد يبدو الأمر نظرياً في رأي البعض، أو آجلاً لا داعي للخوض فيه حالياًَ في رأي بعض آخر، لكننا نرى أن المسألة مهمة وآنية ومرتبطة بشكل وثيق مع القضايا الأخرى المثارة والتي تبدو أكثر الحاحاً مثل إمكان إحداث تغييرات ديموقراطية في حكومات المنطقة وكيفية تحقيق ذلك وعلاقته بالثقافة السياسية السائدة. وبداية نقول إن نظام الحكم العراقي، الذي اسقطته الحرب، كان يصنف حتى حرب الخليج الثانية 1990-1991 نظاماً علمانياً، بل أحياناً كان يعتبر نموذجاً للنظم العلمانية في المنطقة. وبالطبع كانت هذه العلمانية خليطاً من الأفكار القومية والاشتراكية حسب ما يتفق مع ايديولوجية حزب "البعث" الحاكم في العراق منذ انقلاب 17 تموز يوليو 1968، التي استمرت في بعض الحالات إلى يومنا هذا، سواء في إطار حكم حزب واحد أو في إطار جبهوي كما حدث في العراق خلال السبعينات من القرن الماضي باسم "الجبهة الوطنية التقدمية" التي ضمت الحزب الشيوعي العراقي وأحزاب يسارية أخرى. قد يختلف بعضهم مع هذا الطرح، آخذاً في الاعتبار التحول الذي طرأ على الخطاب السياسي للحكم العراقي عقب غزو العراق للكويت في آب اغسطس 1990 والحرب التي تلته، وهو تحول اصطبغ بالصبغة الدينية وشمل إدخال تعبير "الله أكبر" على العلم العراقي، واستحضار الآيات القرآنية في خطاب الحكم وشعاراته والاستعانة بقصص وأحداث من التاريخ الإسلامي. ويذهب هؤلاء أبعد تاريخياً في اثبات تخلي الحكم العراقي عن علمانيته، عندما شنّ حربه على إيران بدءاً من أيلول سبتمبر 1980، وشبهت القيادة العراقية حينذاك تلك الحرب بمعركة القادسية التي شنتها الخلافة الإسلامية ضد الامبراطورية الفارسية، على رغم رفض الكثير من القوى السياسية والفكرية داخل العالمين العربي والإسلامي لهذه المقولة ودحضها، خصوصاً غالبية التيارات الإسلامية، وإنكار أي مجال للمقارنة بين قادة إيران الثورة الإسلامية والفرس القدامى الذين حاربوا الرسالة الإسلامية. ومن وجهة نظرنا، فإن الثابت تاريخياً أن هناك شكوكاً حول مدى جدية دعاوى الحكم العراقي حينذاك ب"إسلامية" حربه ضد إيران، وربما كان الأقرب إلى الصحة هو محاولة الخلط بين الشعارات القومية العربية وتلك الإسلامية مع تغليب الأولى في ظل مقولات شهيرة مثل "حراس البوابة الشرقية للأمة العربية" وغير ذلك. الثابت ايضاً ان تحولاً حصل في الخطاب السياسي والشعارات نحو تبني بعض العناصر الإسلامية بعد حرب 1990-1991، لكن يجب أن نلحظ اعتبارين: أولهما، بقي أساس الخطاب السياسي قومياً بعثياً علماني الأص رغم ادخال شعارات ورموز إسلامية اليه، حتى وإن كان صدام حسين أصرّ على أن منظر "البعث" ميشيل عفلق تحول إلى الإسلام قبل وفاته بوقت قصير وأقام على جثمانه الصلاة في مسجد ودفنه في مدافن المسلمين. فهذه تعديلات على الهامش وليست في جوهر النظام. وثاني هذه الاعتبارات ان دمج الشعارات والمقولات الإسلامية بالقومية ارتبط بظروف وأهداف محددة، أهمها شعور القيادة العراقية بأنها تحت الحصار منذ نشأة التحالف الدولي الهادف لاخراج القوات العراقية من الكويت منذ خريف 1990، وسعيها بالتالي الى إحداث ثغرات في هذا التحالف من خلال إشعال مشاعر العرب والمسلمين عبر العالم. الآن ماذا عن تأثير نتائج سقوط الحكم العراقي على مستقبل العلمانية في العراق والمنطقة، ومدى ارتباط ذلك بالأهداف الأصلية - المعلنة أو المستشفة - للحرب على العراق؟ النتائج الأبرز والأوضح لسقوط حكم "البعث" في العراق تتمثل بتعاظم دور القوى ذات الايديولوجيات الدينية وتأثيرها في الحياة السياسية العراقية. وأخذ هذا التعاظم مظهرين: أولهما في الحياة السياسية من خلال بروز دور القوى السياسية الشيعية ذات التوجهات الإسلامية، سواء تلك المرتبطة بالحوزات العلمية في النجف وكربلاء وقم، أو تلك المستقلة عن المؤسسة الدينية، ولا شك أن تصاعد دور هذه القوى ظاهر للعيان ممثلاً بوجودها في مجلس الحكم الانتقالي، أو بمواقفها المعلنة وتظاهرات أنصارها المستمرة في شكل استعراضات منظمة للقوة وتهديدات مبطنة أحياناً وصريحة أحياناً أخرى سواء للأميركيين والبريطانيين أو لبقايا حزب "البعث". أما المظهر الآخر فنجده في البيانات المتتالية الصادرة عن تنظيمات مجهولة تعلن عن مسؤوليتها عن عمليات ضد قوات الاحتلال ومعظمها يحمل أسماء وشعارات وأهدافاً ذات طابع إسلامي صريح ويرفع لواء الجهاد الديني. هناك اتهامات يأخذها الأميركيون والبريطانيون على محمل الجد بأن تلك التنظيمات مكونة أساساً من متطوعين عرب ومسلمين جاؤوا من مختلف أرجاء بلاد العرب والمسلمين قبل الحرب على العراق أو خلالها أو بعدها، باعتبار أنهم يؤدون واجباً مقدساً متمثلاً في مجابهة عدوان "دار الحرب" على "دار الإسلام"، وبغض النظر عن رفض هؤلاء - أو معظمهم - للحكم العراقي القائم في العراق قبل الحرب. أما الأثر الآخر الأبعد مدى من حدود العراق ويشمل مجمل العالمين العربي والإسلامي في ما يتعلق بنتائج الحرب في العراق وارتباطها بمستقبل العلمانية في المنطقة، فهو استخدام القوى والتيارات الإسلامية عبر المنطقة، بل خارجها - لحال هزيمة حكم البعث في العراق وتوظيفها لتعزيز وجهة نظرها القائلة بفشل النماذج العلمانية القومية والاشتراكية في العالم العربي والإسلامي والتدليل الى أن البديل الوحيد الصالح لحكم المنطقة واحياء مجد العرب والمسلمين وإعادة قيادة البشرية إليهم - حسب قولهم - هو الحكم الإسلامي. وحدث هذا التوظيف من قبل أكثر من مرة نذكر منها حالتين: عقب نكبة فلسطين عام 1948 حين اعتبرت القوى الإسلامية الهزيمة العربية أمام إسرائيل الوليدة دليلاً الى فشل النظم شبه الليبرالية التي كانت تحكم في الدول العربية وشاركت آنذاك في الحرب. أما الحالة الثانية فكانت عقب حرب 1967 حين دللت تلك القوى مجدداً على هزيمة النموذج الناصري القومي الاشتراكي شبه العلماني والنموذج البعثي اليساري العلماني في سورية. ولا شك أن قوى أخرى في المنطقة ستسعى الي ترجمة مختلفة لهزيمة النموذج البعثي في العراق، وأعني القوى الليبرالية العربية التي ستفسر الهزيمة بأنها لحقت بنموذج سلطوي أو شمولي لم يسمح بإقامة ديموقراطية تعددية، وأن هذا يؤكد وجهة نظر هذه القوى التي ترى مستقبل المنطقة في بناء نظم ديموقراطية مفتوحة على النمط الليبرالي. ويتفق هذا التوجه مع ما يبدو أنه التوجه الغائب حالياً عن الإدارة الأميركية في شأن الدفع لإدخال ما تعتبره اصلاحات ديموقراطية واسعة على حكومات المنطقة باعتبار هذا هو السبيل لتحقيق استقرار المنطقة والتغلب على أكثر من خطر: التطرف والإرهاب، أو حتى الطبيعة العنفية للصراع العربي - الإسرائيلي الذي يراه بعض رموز هذه الإدارة نتيجة لغياب ثقافة الديموقراطية وواقعها ومؤسساتها عن العالم العربي. وترتبط بهذا الرأي - سواء من منظور الليبراليين العرب أو من منظور الإدارة الأميركية - الحاجة الى تحسين "سمعة" العلمانية لدى شعوب المنطقة باعتبارها مرتبطة بالتحول نحو الديموقراطية الليبرالية والفصل بين حال النظام العراقي السابق وطبيعته الفكرية وبين العلمانية والصاقه بفئة النظم الشمولية أو التسلطية التي لا يرى الليبراليون ولا ترى الولاياتالمتحدة أن لها مكاناً في عالم اليوم. إلا أن هذه المهمة لا تبدو سهلة، خصوصاً في ضوء عاملين: الأول يختص بالليبراليين العرب ويتصل بمدى عمق جذورهم في المجتمعات العربية وشرعية وجودهم ومدى تفهم واستجابة الشعوب لخطابهم السياسي والثقافي وعدم الربط بينهم وبين أطراف خارجية تنظر لها الشعوب العربية نظرة ريبة وشك. والعامل الثاني يختص بالولاياتالمتحدة ويرتبط بمدى صدق ومصداقية الإدارة الحالية في الدعوة لبناء نظم ديموقراطية تعددية على النمط الليبرالي، حتى لو أدى ذلك إلى بروز قوى معادية للمصالح الأميركية، وأيضاً مدى ودرجة المضي من جانب الإدارة الأميركية في الربط بين العلمانية وتلك الديموقراطية الليبرالية. * كاتب وباحث مصري.