لم تشذ دولتا الجوار العراقي المباشر، تركياوإيران، عن سائر دول العالم التي انتقلت من تدبر موقفها من العدوان الأميركي على العراق إلى التفكير في استثمار هذا الموقف إلى أقصى حدٍ ممكن، وإن كان التماس الجغرافي والتداخل البشري على مستويات عدة وكذلك التشابك المصلحي بين العراق من جهة وتركياوإيران من جهة أخرى، تكفّل برفع سقف توقعات الدولتين وجعلهما بالتالي الطرفين الأنشط في المزاد المفتوح على مستقبل العراق بنفطه ووحدته الإقليمية ونظامه السياسي. وبمعنى معين يمكن القول إن في حدود الالتزامات الداخلية والارتباطات الخارجية لتركياوإيران، أحسنت هاتان الدولتان إدارة موقفيهما من الحرب الأميركية على العراق، وإن كانت تلك الالتزامات والارتباطات ذاتها ستتحكم في المفارقة بين حصتي كلتيهما وحصادهما المحتمل. وإذا كانت تركيا خرجت من الحرب نصف فائزة، فإن إيران على العكس منها باءت بخسارة صافية. تركيا وسياسة الحد الأدنى احتفظت تركيا بتورطها في الحرب عند الحد الأدنى، وهو الحد الذي كان ما دونه كفيلاً بإثارة مواجهة مفتوحة مع الولاياتالمتحدة. لكنه أيضاً الحد الذي كان ينذر تجاوزه بطي ملف العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي مرة أخيرة وإلى الأبد، ناهيك عن مزيد من تعقيد المشكلة القبرصية التي لا ينقصها شيء من أسباب التعقيد. وفي إطار هذا الحد الأدنى رضخ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لإرادة البرلمان الذي رفض بغالبية طفيفة نشر القوات الأميركية على أرض بلاده، ثم راح يماطل في عرض الموضوع على البرلمان مجدداً على رغم الضغوط الأميركية في هذا الاتجاه، مدفوعاً في موقفه بعاملين اثنين: الأول يتعلق بالرغبة في التهدئة مع الشارع التركي الذي جاء بأردوغان إلى سدة الحكم والذي أعرب بوضوح عن رفضه القاطع لتورط بلاده في الحرب. وزاد في حساسية أردوغان لموقف الشارع طغيان الشعارات الإسلامية على تظاهرات أنقره الحاشدة، في وقت يقدم فيه رئيس الوزراء نفسه بصفته رمزاً إسلامياً يتعذر في وجوده القطع مع الناخب "الإسلامي"، ويصبح معه مثل هذا الإجراء مغامرة سياسية غير محسوبة العواقب. الثاني يتصل بالحفاظ على شعرة معاوية بين أنقره والاتحاد الأوروبي، لعل وعسى تشمل تركيا جهود توسعة الاتحاد المتواصلة، وهو المطلب الذي حرص أردوغان على إعلانه بعد فوزه الانتخابي مباشرةً في تأكيد أن هذا المطلب يمثل خطاً استراتيجياً ثابتاً لا تخرج عنه الحكومات التركية المتعاقبة وإن تنوعت مشاربها. لكن أردوغان الذي سَوَّف موضوع نشر القوات الأميركية، فتح القواعد العسكرية لحلف شمال الأطلسي في بلاده أمام استخدام قوات "التحالف"، في تكرار لسابقة مماثلة أثناء حرب الخليج الثانية مثلت خرقاً للمبدأ التركي الرسمي الذي كان يرفض استخدام تلك القواعد ما لم يتهدد الأمن القومي للجمهورية التركية. واستطاع أردوغان أن يدافع "ديموقراطياً" عن هذا الإجراء على أساس أن البرلمان لم يعارضه لأنه في الأصل لم يعرض عليه، كما أن البرلمان نفسه الذي يدرك حدود المساحة التي تتحرك فيها تركيا لم يبادر بإثارة مشكلة بخصوص موضوع استخدام القواعد. وكان أردوغان يراهن بذلك على تفهم الولاياتالمتحدة لديبلوماسيته في معالجة الأزمة بالوسائل الديموقراطية، وهي التي جاهرت في كل مناسبة بأن النموذج الديموقراطي "الإسلامي" التركي المعدل هو النموذج الذي ترشحه لتسيد المنطقة العربية في مرحلة ما بعد إطاحة صدام حسين. وأسهمت هذه الخطوة في تلطيف الأجواء المتوترة المحيطة بالعلاقات التركية - الأميركية، وإن فضّل صقور الإدارة الجمهورية بالطبع فتح جبهة شمالية في كردستان العراق من طريق تركيا للضغط بها على الوسط، حيث رموز النظام وهيبته ومؤسساته ومعقل قوته، بعد الجنوب الذي أمنته لهم الجبهة الكويتية. وعلى رغم أن تركيا استفزت بفتح قواعد الحلف دولة بحجم ألمانيا التي يلوذ بها نحو مليوني تركي وكردي، إلا أنها في كل الأحوال لم تملك النزول عن هذا الحد الأدنى. بل ولم تكن راغبة في أن تنزل عنه لأن حجم المشاركة في الحرب يحدد النصيب من غنائمها، وما أكثر الغنائم التي كانت تتحينها أنقره. ولم يكن هذا الموقف التركي "المتوازن" من منظور المصلحة القومية التركية "وغير المتعاون" من منظور المصلحة القومية الأميركية، هو العامل الوحيد الذي استندت إليه الولاياتالمتحدة في تكرار تحذيرها تركيا من إرسال قواتها إلى الشمال العراقي، بل إنه باليقين لم يكن كذلك. فلا يقل عنه أهمية حرص الولاياتالمتحدة على أن يتفرغ أكراد العراق لمهمة تصفية أعضاء "حركة أنصار الإسلام" الكردية التي طنطنت كثيراً عن علاقتها بحركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة". وكان أخشى ما تخشاه واشنطن أن يؤدي التوغل التركي على غير رغبة من أكراد العراق إلى أن يحول دفة الصراع من كردي - كردي إلى كردي - تركي تكون هي أي الولاياتالمتحدة الخاسر الأكبر فيه. ولا ننسى أن الصورة الأميركية التي طُبعت في ذهن المقاتل الكردي هي صورة نفعية استغلالية شأنها في ذلك شأن سائر الصور التي كونها هذا المقاتل عن كل من قدم له يد المساعدة على امتداد تاريخ صراعه الطويل مع السلطة: إيران، روسيا وإسرائيل. إيران ومفهوم خاص للحياد اختلف "حياد" إيران إبان العدوان الأميركي على العراق عن حيادها أثناء حرب الخليج الثانية. وإذا كانت في الحال الأخيرة امتنعت عن تأييد أي من طرفي الحرب، على رغم أنه من الناحية القانونية كان هناك سند من الشرعية الدولية لاستخدام القوة بغرض تحرير الكويت، فإنها رفضت علانية استخدام القوة العسكرية لتغيير النظام في العراق على أساس أن هذا يمكن أن يمثل سابقة ممجوجة قابلة للتكرار في العلاقات الدولية عموماً، وفي ما يخصها هي كأحد أضلاع "محور الشر" في الحسابات الأميركية خصوصاً. وعندما سعى وزير خارجيتها كمال خرازي لأن يلقي بطوق النجاة إلى الرئيس صدام حسين في ربع الساعة الأخير، من خلال مبادرة تقترح تصالح النظام مع معارضته تحت إشراف الأممالمتحدة، تعالت أصوات المعارضة من الداخل معتبرة أن الحرب على العراق باتت تحصيل حاصل. وعلى رغم أن إيران أكدت مراراً وتكراراً أنها لن تسمح لعناصر "فيلق بدر" التابع ل"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" الموجود على أرضها بالدخول إلى العراق فيما لو نشبت الحرب، خرج السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس ليعلن أن قواته عازمة على المشاركة في إسقاط النظام. والجمهورية الإسلامية دولة ذات سيادة، ومثل هذا التصريح لا يحتمل صدوره إلا إن كان هناك ضوء أخضر لقائله وإلا مَثَّل تصريحه تعدياً على السيادة الإيرانية. لكن في ما بعد تطورت الأمور في اتجاه حسم عدم مشاركة المجلس في الحرب بتأثير عاملين اثنين، الأول إصرار الولاياتالمتحدة على تحييد دوره في إشارة إلى محدودية الدور الذي يمكن أن يناط به في مرحلة ما بعد إسقاط صدام حسين. والثاني تغيير موقف المجلس نفسه، وتأكد هذا التغيير خصوصاً بعد استبسال الشيعة، غير المنتمين للمجلس بالضرورة، في الدفاع عن أرضهم ومقدساتهم. ومن جهة ثالثة حاولت الجمهورية الإسلامية توجيه نظر القوات الأميركية إلى عناصر "مجاهدين خلق"، القوة المعارضة الأبرز لنظامها السياسي، وذلك بالتأكيد على محاربة تلك العناصر جنباً إلى جنب مع قوات الحرس الجمهوري العراقي. أي أن إيران أرادت من الولاياتالمتحدة أن تخوض لها حربها مع "مجاهدين خلق" على أرض العراق، مستفيدة في ذلك من أن الولاياتالمتحدة نفسها كانت لها خصومتها مع تلك الحركة التي تدرجها على لائحة التنظيمات الإرهابية. وفي تلك الحدود، يمكن القول إن موقف إيران من الحرب على العراق كان أقرب إلى موقفها من الحرب على أفغانستان، مع اختلاف في حدود هذا الموقف وأبعاده ما بين تقديم تسهيلات عسكرية للقوات الأميركية في أفغانستان إلى التأييد غير المباشر لدور هذه القوات في إطاحة النظام العراقي. ويمكن رد هذا التفاوت النسبي في الموقف الإيراني إلى احتدام الصراع الداخلي في إيران بين التيارين الإصلاحي والمحافظ، وفي اللب من هذا الصراع قضية العلاقة مع الولاياتالمتحدة فضلاً عن افتقاد الإجماع الدولي على تغيير صدام حسين. إذاً تخرج تركيا من الحرب الأميركية على العراق بنصف فوز لأنها ضمنت أن يكون أكراد العراق تحت المجهر الأميركي لتبعد بذلك الهاجس الذي طالما أفزعها من استقلال هؤلاء الأكراد بدولة تخصهم وتحرك أقرانهم في كل الجوار العراقي المباشر. كما أنها ضمنت ألا يصل الأكراد إلى كركوك، إذ خرجت بالفعل البيشمركة الكردية من هذه المدينة النفطية الغنية بعد اجتياحها، ودعيت تركيا في المقابل لإرسال 15 مراقباً إليها. وهي بإلحاحها المستمر على ضرورة تحسين وضع الأقلية التركمانية في شمال العراق تتوقع أن تلتفت الولاياتالمتحدة إلى هذا الطلب في المستقبل حتى لا يتحول التركمان كما تكرر دائماً إلى أقلية للأقلية الكردية نفسها. وفي كل الأحوال فإن نظاماً جديداً في العراق يكون تحت الوصاية الأميركية لا يمثل تهديداً للمصالح القومية التركية بحكم علاقة التحالف التي تربطها بالولاياتالمتحدة والتعاون العسكري والسياسي الوثيق الذي يجمع بينها وبين إسرائيل. لكن تركيا تبقى أيضاً نصف خاسرة لأنها لن تُمَّكَن من الدخول منفردة وليس في إطار قوات حفظ السلام إلى شمال العراق والاضطلاع بدور رئيسي في تقرير مستقبله، وهو التدخل الذي وقفت دونه الولاياتالمتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي والأكراد أنفسهم. ولأن شبح الفوضى في الشمال يظل محتملاً خصوصاً إذا أعاد مقاتلو حركة "أنصار الإسلام" تنظيم صفوفهم وشرعوا في تنفيذ العمليات الانتقامية التي توعدوا بها الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وليس أكثر إقلاقاً لتركيا من فوضى على حدودها مع العراق. ثم إن النزوح الكردي الذي نجحت الولاياتالمتحدة حتى الآن في ضبط إيقاعه قد لا يستمر كذلك مع اندلاع حرب أهلية كردية - كردية. ويمكن دفع هذا المنهج في التفكير خطوة أبعد بتصور إمكان الصراع على محور آخر كردي - عربي في الموصل وكركوك مع تصاعد السخط على الإدارة المدنية وبالتالي على الدور الكردي في التعاون مع الولاياتالمتحدة. وهناك بالفعل تجمع لنذر احتجاج من هذا النوع اجتاح الشمال العراقي وتداخل معه في الجنوب وانتقل منهما إلى الوسط. وأخيرا،ً فإن تركيا تحتل مرتبة متأخرة في طابور الطامحين إلى المشاركة في إعادة إعمار العراق الذين يخضع فرزهم والمفاضلة بينهم لحسابات أميركية قح. أما إيران فإن شيئاً لا يعوض خسارتها في العراق بما في ذلك إطاحة نظام الرئيس صدام حسين الذي ترك على مدار ثماني سنوات مرارات كثيرة في حلوق الإيرانيين. فكل ما حدث هو أن نظاماً قوياً لا ترتاح إليه إيران سيخلف نظاماً أضعف لم تكن ترتاح إليه أيضاً. ثم إن الولاياتالمتحدة بتمركزها في العراق لأمد غير معلوم أحاطت بالجمهورية الإسلامية من كل اتجاه، وهذا ينقل تصور المستقبل بالنسبة لإيران من ترف مناقشة هل توافق الولاياتالمتحدة على نقل نفط بحر قزوين وغازه عبر إيران أم تعارضه أو هل تسمح الولاياتالمتحدة باستكمال بناء مفاعل بوشهر النووي أم تعطله إلى مستوى مناقشة مصير النظام الإسلامي نفسه. وعلى صعيد ثالث فإن إيران لا تملك حرية الضغط والمناورة من أجل انتزاع تمثيل سياسي للشيعة يتناسب مع كونهم الطائفة الأكبر عدداً في العراق. فالولاياتالمتحدة حريصة على ألا يمتد النفوذ الإيراني إلى داخل العراق من خلال قوى المعارضة الشيعية. وسبقت الإشارة إلى الضغط الأميركي على "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" للامتناع عن التورط في الحرب، وإلى مبررات هذا الضغط ودوافعه. يضاف إلى ذلك أن الموقف من التعاون مع الولاياتالمتحدة يمكن أن يكون بدوره محوراً للتجاذب الشيعي - الشيعي بل هو كذلك فعلاً كما اتضح من تفاعلات ما بعد الفتوى المنسوبة إلى آية الله العظمى علي السيستاني والتي انتهت إلى قتل عبد المجيد الخوئي الضالع في نسبتها إليه شر قتلة، وانعكاس مثل هذا التطور على المصالح الإيرانية في العراق. إن المعركة الحقيقية التي تنتظر كلاً من تركياوإيران لم تبدأ بعد، وأسئلة ما بعد إطاحة نظام البعث أكثر وأعقد بكثير من أسئلة ما قبل إطاحته، لكن الثابت أن هاتين الدولتين سيكون عليهما التعامل مع واقع شديد الاختلاف تتجاوز آثاره حدودهما الجغرافية لتفعل فعلها في الداخل وتعيد ترتيب توازناته على غير هواهما بالضرورة. * أستاذة العلوم السياسية. كلية الاقتصاد، جامعة القاهرة.