ما كاد دريد ينهي الورقة الأولى مما أعدّ للندوة حتى راح يرتجل ويستطرد. ولما تنبه إلى ذلك التفت يميناً إلى عبدالسلام الذي قدمه وسيدير الحوار بينه وبين الجمهور. وانتظر حتى ابتسم عبدالسلام مشجعاً، فعاد إلى أوراقه، لكنه أخذ يقرأ سطوراً ويوجز سطوراً، ثم عاد يرتجل ويستطرد، وبخاصة بعدما أفلت لسانه منه وذكر شلّيطا. كان يعدد ما بات للديكتاتور من الأسماء في الرواية العربية. ولما ذكر شلّيطا أعلن باعتداد أنه هو من سيكتب رواية هذا الديكتاتور الصغير، ثم أخذ يتعثر: مؤنس الرزاز سمّى ذيب الأول وآدم الأصلي وذيب الرابع و... وحيدر حيدر سمى اللوياثان وأب الشعب... وغازي القصيبي سمّى رجل الساعة ورجل القدر و... وهاني الراهب سمّى شهريار والحجاج والملك دهريار بن نفيطيان والرئيس فرانكلين فيكس... وفجأة قال: أما شلّيطا... وسكت مجفلاً، ونشف ريقه، فأسرع إلى كأس الماء، وتعرق جبينه فأسرع إلى علبة المحارم، وتراءى له أن يستطرد - تقيةً - إلى بعض أسماء الديكتاتور في الرواية غير العربية، فأسرع إلى السلوفاكي مناتشكو وذكر من روايته"ما لذة السلطة؟"أسماء الرفيق ورجل الدولة الكبير وشلّيطا، وسكت مجفلاً، ونشف ريقه وتعرق جبينه، وحدق في كأس الماء وفي علبة المحارم طويلاً قبل أن يستطيع أن يتابع بعسر، من دون أن يرفع عينيه عن غطاء الطاولة: - كما ترون الاسم هو اللقب واللقب هو الاسم. ثم عاد إلى الوجوه التي أخذت تغيم، وقال: - للأسف هذه الأسماء كلها لشخص واحد، لمن هو في رأس الهرم. إلا أن شلّيطا موجود في كل حجر من الهرم. شلّيطا موجود في الملاط وفي الفراغ بين الحجر والحجر. والآن تعالوا نتساءل: ما العلاقة بين شلّيطا والديكتاتور؟ أقصد: ما العلاقة بين الاسم والشخصية؟ ولما لما يجبه أحد شعر بأنه تورط في السؤال، وندم عليه، ونظر إلى عبد السلام مستنجداً، ثم عاد يتعثر قائلاً: - من الناس من لا يصدق أن الاسم يقول أي شيء عن الشخصية. أنا لا أؤمن بالصدفة، لذلك أرى أن أهل الواحد منا يعطونه هذا الاسم أو ذاك لسبب ما. وهذا السبب يضع تحت تصرفنا المواهب والكفاءات التي نحتاجها لأداء المهمة التي خلقنا لها. وسكت ريثما سأل نفسه عما إن كان مؤمناً حقاً بأنه هو أو أي من الحاضرين قد خُلق لأداء مهمة ما. ولما بقي السؤال بلا جواب خاف من أن كل ما أعدّ للندوة يضيع منه، فأسرع قائلاً: - المسألة هنا هي كيف نفك رموز القوانين الكونية المخبأة لنجعل حياتنا أكثر وضوحاً، أو لنحسبها جيداً. ولكن هذا يعني أننا نؤمن بتلك القوانين. ثم نظر مباشرة إلى يحيى في الصف الأول من الجالسين، وخاطبه: - اسمك الذي خصّك به أبوك عند ولادتك يقول الكثير عنك كإنسان. في اسمك هذا تكمن نقاط قوتك وضعفك ومواهبك ولكن في شكل مشفّر. اسمك شفرة. ولأن يحيى حاص في مقعده، التفت دريد عنه إلى الآخرين وتابع كأنه يؤدي واجباً ثقيلاً: - في عهد نياندرتال كانت لنا عفويتنا اللغوية. بقايا هذه العفوية هي ما يدفعنا اليوم إلى اختيار هذا الاسم لهذا الطفل، أو ذلك الاسم لذلك المنتوج. هناك من يعتقد بأن هذا النظام محكم ومتكامل، حتى أننا عندما نسمّي لا يمكن أن نخطئ ولو تعمدنا الخطأ. كان صوته الآن قد خبا حتى ما عاد يُسمع. وتراءت له الوجوه قد سئمت ففكّر في أن يسأل عن الوجه الذي سمّى منها نفسه، وإذا بصوت يهمس في أذنه: أنا، أنا سميت نفسي دلعون، اسمي بسيمة وسميت نفسي دلعون، فأطرق يلوم نفسه على أنه لم يسأل عنها أحداً بعد، وتمنى أن تكون بين الحاضرين. واعتراه الخوف من أن يكون أي من الحاضرين يعرف جابر العتعوت ابن دلعون وشقيق بسيمة المعروف بشلّيطا. وعاد إلى أوراقه والهواجس تكبر في صوته وفي حركاته، وتلعثم وبدا لوهلة شارداً، لكن لسانه أنقذه أخيرا،ً إذ اندفع يفصّل في شلّيطا المثقف وشلّيطا الجاهل، شلّيطا الكبير وشلّيطا الصغير، شلّيطا الحداثي وشلّيطا ما بعد الحداثي. وفجأة أقسم بالله العظيم على أن في كل من الحاضرين واحدة من الجينات الشلّيطاوية، وشرح بتعال: أي الجينات الديكتاتورية، حيث لا فارق بين مسلم ومسيحي ويهودي وبوذي وشيوعي وبعثي وليبرالي وملكي وجمهوري وعولمي وسنّي وشيعي وكردي وأمازيغي وعاشق ومتزوج. وحين أَلْفَتَهُ تململ بعضهم في الصفوف الأمامية الملأى، لجأ إلى من تناثروا في الصفوف الخلفية، واندفع يعدد تجليات شلّيطا في المذيع والأستاذ ورئيس النقابة وبواب العمارة والشاعر والروائي والناقد والقارئ، فإذا بهمهمة تسري في القاعة، فعاد إلى الصفوف الأمامية قائلاً: - من بعد الاستقلالات العربية وغير العربية ابتدأ وباء شلّيطا ينتشر. شلّيطا وباء ما بعد الكولونيالية. وخُيّل له أنه يشقشق الكلام في واحدة من سهرات الخميس في مطعم زهوة، وأن أصحابه يتهامسون منصرفين عنه، فسكت حتى تلاشت الهمهمة، ثم تابع وحماسته تتلاشى: - شلّيطا وباء كوني. شلّيطا وباء التاريخ. وحدق في يحيى بعداء كأنه يلومه على نكرانه الاسم الذي عُرِفَ به، فلم يعد أبو ماجد - تيمناً بماجد أبو شرار - بل بات يحيى الذي حاص في مقعده هرباً من عيني دريد. واندفع دريد يخاطبه: - ها هو الوباء أمامك يا أبا ماجد في فلسطين من قبل أن تستقل. انظر إلى الوباء يا أبا ماجد في السلطة الوطنية وفي الفصائل المعارضة. إسرائيل تنشر الوباء كما تنشره أميركا. والخوف أن يكون الوباء قد تمكن وصار مستعصياً على كل العقاقير المكتشفة حتى الآن. وعاد إلى الآخرين ليختم مشيراً إلى جذور الوباء في الأديان والأيديولوجيات، فاشتبكت الأصوات المستنكرة بالتصفيق. وفجأة أخذت بعض الأصوات تنتظم، وبعض الأكفّ توقّع لها، وسرعان ما دوّت القاعة: "شلّيطا يا شلّيطا/ يا روحي يا شلّيطا يلعن شكلك يا شليطا/ يا عيوني يا شلّيطا". فالتفت إلى عبدالسلام وناشده: - أرجوك إنهِ الندوة. - والحوار مع الجمهور؟ تساءل عبدالسلام، ووقف دريد قائلاً: - أي حوار وأي جمهور؟ ربّك يستر. * مقطع من رواية تصدر قريباً