هل يسكن الناس الصور؟ محمد أبي سمرا: سكان الصور، دار النهار، بيروت، 2003. وإذا سكنوا الصور فهل يبقون ناساً "من لحم ودم"، على ما يقال؟ وإذا لم يبقوا ناساً، واستحالوا صوراً، فماذا يروى منهم وعنهم ما ليس من أهومة الراوي وخيالاته وصوره؟ والرواية يُفترض أنها تروي عن الناس الذين يتناولهم الراوي أحياء يسعون في مناكبها، ويتقلبون بين أظهرها، وتجتمع من سعيهم وتقلبهم حوادث يرويها الروائيون، ويتعقب أثرها القصاص. وعلى هذا، فسكان الصور المفترضون ليسوا، بدورهم، غير صور. فهم صور متخيلة تحل صوراً مثلها، وتطوف في مخيلة صاحب الصور، الروائي. وقد لا يَسلم الروائي من الانقلاب الى صورة، على ما يذهب إليه لويس بورخيس في كنايته عن ناسخ "دون كيخوتي" الذي ينسخ عن نسخة منسوخة. أو في كناية أخرى له عن حالم يحلم بكنز مطمور في حائط بسمرقند، فإذا قصد الحالم المدينة، وبلغ الموضع، وقع على حلمه الذي رده الى القاهرة، موطنه الأصلي، وليس على الكنز. ويصيب راوي رواية محمد أبي سمرا بعض من هذا. فهو لا أثر له في الرواية وحوادثها، ما خلا الرواية نفسها. ولا تشير حادثة إليه أو الى موضعه. فيتوارى في ظل من تروى أقوالهم وأفعالهم وأهومتهم ومحاسبتهم أنفسهم، على مثال الظل الحاضر على الدوام من غير طمع في التصدر، ولا رغبة فيه. ولكن الظل يستجيب رغبة الأشياء والناس في الكون، وكأنه القرينة الأقوى على وجودها ورسوخها فيه، وهو بقية الموجودات ونافلة وجودها. والصور وسكنها، أو سكناها، هما مادة الرواية، على ما يستعجل الراوي الغفل القول ويستعجل الروائي الأمر منذ وسمه روايته، ويبني مروياته عليه. فالحادثة المادية والاجتماعية الكبيرة التي تتذرع الرواية بها وتنشأ عنها - وهي تشييد "بناية شهاب" من خمسين شقة، محل بستان واسع كان يتوسط بيوتاً قديمة متفرقة يقع على طرفها اسطبل خيل وقصر رجل ثري - هذه الحادثة تخلف في أهل الحي، وفي أهل الرواية و"شعبها"، أثراً "صورياً" بالغاً، شأن الجروح العميقة. فأم جوزف، وهي من سكان الحي قبل استوائه حياً روائياً وفعلياً معاً، حين تشطف شرفتها تحت نظر شقة في الطبقة الرابعة من البناية العتيدة نزلتها عائلة من قرية أم جوزف، لا تشك في أن "الشرفة وبيتها كله قد انخفضا وضاقت مساحتهما وتقلصت المسافة بينهما وبين الشارع عما قبل" ص 14. والى الانخفاض وضيق المساحة وتقلص المسافة، وكلها من أعراض تعرّض أم جوزف لنظرات شقة الطبقة الرابعة ثم غيرها من الشقق والناس، طرأ كذلك على المرأة الثلاثينية انقضاء "شعورها الغامر بالزهو والعذوبة الذي كان يصاحب التشنج ويحوله خدراً بطيئاً ولذيذاً ينتشر في أنحاء جسمها". وجدَّ، من وجه آخر، تخيلها وهي تبتعد من باب أغلقته على الخارج الجديد، "برودة عري... في غمازتي ثنيتي ركبتيها" تتردد فيها بعض أصداء رؤياها الى نفسها أي جسمها، على ما هي الحال في الرواية "بعيني أناس في الحي تحدس انهم يحسدونها على مسحة الرضا والرخاء التي يتخيلونها تخيم على أثاث بيتها وأرجائه، ص 15. وتنتقل عدوى التخيل، أو التخييل، الى مخيلة المرأة، على مثال يعم الرواية كلها ويقوم منها مقام اللحمة. فتحس الرخاء نفسه "الذي يتخيلونه يخيم على حياتها". وتشعر "بصحو غير متوقع في يديها... كأنما أنامل غير أناملها لامست كف يدها" ص 16. ويسلمها صحو يديها، وملمس الأنامل المتوهم، الى مشهد ممثلة عشرينية، عارية الساقين، "تقود دراجة هوائية على رصيف شارع يجري، فيما يرفرف في الهواء خلفها شعرها الأسود الطويل". ولا تتردد الأخيلة والصور في ذهن أم جوزف وأحاسيسها ومشاعرها وتذكرها، وحسب. فهي تبعث الخيالات، بدورها، في غيرها، على نحو ما بعثوا هم الأخيلة فيها، وكأن الأخيلة هي الرابطة الأقوى بين أهل الرواية. ُفأم فاروق، جارة أم جوزف الأقرب، تملأ نهارها بضوء مصدر9 الأول ضوء "يأتي من نهار أغنية تخيلته" من قبل ص 17، ومصدره الثاني ضوء نهار من نهارات صيف آتٍ، في صحبة أم جوزف. ويصل الراوي بين مصدري الضوء، الحاضر والآتي، المولود من الصوت الموقَّع وكلماته والمولود من المشي في ظل أشجار البستان وفي صحبة أم جوزف، في صورة مختلطة واحدة تثبتها الرواية والكتابة. ويتخلل المصدرين مصدر ثالث هو اسم أم جوزف تحت كنيتها، نهلة، واسم أم فاروق تحت كنيتها، بسيمة. فالاسم "الشخصي الخاص"، وهو يكاد يكون في الرواية كلها صورة الصور، يشف، شأن داخل البيت الرضي الرخي بإزاء الشقق الشاخصة، عن "إلفة" ويكشف "ستراً حميماً" من جسم صاحبته ص 18، ومن رغبة صاحبه وأحد الأمثلة الكثيرة على هذا سؤال شفيق الحسيني، عامل المطبعة المولع بالأغاني والراديو والمدمن التبغ والدخان، مومسَ السوق العمومية، أديل، عن اسمها الحقيقي، ساعة إيقانه برضاها قضاء ليلته عندها، ص 42. فيأتلف من التخيل والتذكر وتخييم الأشياء والأسماء وظلالها كيمياء روائية تعاقب بين الحوادث، وتضمها بعضها الى بعض، وتنثرها من جديد. فيتعرّض الناس بعضهم الى بعض، ويُوقِع بعضهم ببعض وبأنفسهم. وكلهم أسرى التعرض والإيقاع هذين. فإذا حلت أم فاروق ضيفة على أم جوزف في بيت هذه الجبلي، ومشت المرأتان "على درب بين البساتين التي تحيط بيوتاً متفرقة متباعدة"، تذكرت بسيمة أم فاروق "الصورة المتخيلة لنهار الأغنية... ثم أبصرتها مجسدة، كأنما هي وأم جوزف تمشيان فيها" ص 18. ويترجح القص بين حدين وطرفين: حد التجسد الماثل للبصر، وحد التشبيه والمجاز "كأنما". ولو اقتصر القص على حد التجسد لما دخل تحت الرواية، ولا دخل حبكتها الزمنية ولمّها الأطراف المتفرقة والمتناثرة على بعض الوحدة، ولأقام على تفرقه ونثاره والتماعه المتقطع والهارب. ولو اقتصر على حد التشبيه والمجاز لانقلب قَصصاً على المعنى الديني، أو تمثيلاً ذهنياً وخطابياً على معن ناجز الوحدة وسابق على القص على ما هو في روايات إلياس خوري. والصور، على معنى "سكان الصور"، تؤلف بين الحدين. ومشي بسيمة أم فاروق ونهلة أم جوزف "في" الصور، على قول الراوي للتو، من الأمثلة على التأليف هذا. ولعل شرط انتهاء التأليف الى عمل روائي، وليس الى خليط من "الشعر" والمسرحة المتعسفة، هو الإقامة على الترجح بين الحدين والطرفين، وإعماله في الحوادث والأوقات المتعاقبة. فتذهب أم فاروق الى أن سكن أم جوزف الحي، وتعارف المرأتين، آذن بإنشاء "الأسماء والكلمات" وكأن الكلمات، وهي الأعم، تولد من الأسماء، وهي الأخص "في وعي أم فاروق العبد صوراً ومشاهد تتدافع الى مخيلتها وتتحول ذكريات حميمة تثيرها بقدر ما تكون غريبة عن حياتها ومفارقة لها". ويذهب الراوي، ووراءه أو الى جنبه صاحب الرواية، الى أن روايته - "سكان الصور"، وربما قبلها روايتا محمد أبي سمرا "أطياف بولين" و"الرجل السابق" - إنما نشأت كذلك عن سكن غرباء بعضهم عن بعض ومفارقين بعضهم بعضاً بعضُهم في جوار بعضهم الآخر، وتعارفهم، وتبادلهم الأسماء والكلمات، وكشفهم بعضهم من أجسام بعض ستراً حميمة، حقيقة أو مجازاً. وكأن الروائي والراوي يؤرخان وللقارئ أن يرد التثنية الى الواحد الفرد لانضواء أهل الحي الجديد، ونواتُه الحادثة هي "بناية شهاب"، تحت باب الواقعة المشتركة سكناهم الحي، من وجه أول، ولصدور الرواية عما يسميه الراوي الواقف على كتف أبو ذيب، والباث سمومه في أذنه وسمعه، "تبادل الصور" و"صناعتها" ص 155، من وجه ثان. وفي الواقعتين، الحي والرواية، أو أهل الحي وأهل الرواية، المصدر مشترك أو متصل. وتحمل الرواية المصدر المشترك والمتصل هذا على دخول الازدواج والانقسام طوايا النفوس وسرائرها. فأبو ذيب - صاحب أحد دكاني الحي الجديد، ودكانه ملتقى سكان بناية شهاب، وهو والد يوسف، أحد وجوه الرواية البارزة، وذيب، وبه ختام الرواية، وزوج "زوجة أبو ذيب"، وجهها البارز الآخر - أبو ذيب هذا يقسِّم عالم المدينة عوالم ودوائر على قياس نفسه وقياس منزله ومكانه. فثمة عالم النفس الأليف واللصيق والمنقطع من كل خارج - أو هذا ما تتوق إليه النفس، وتتوهمه، وتتوهم تحققه وحدوثه في وقت سابق من حياتها -. والانقطاع من الخارج يعني الاقتصار على دائرة حياة واجتماع يملأها الأهل والأقارب، ويصبغونها بصبغتهم، وصبغة علاقاتهم ومعانيهم. فلا يتركون فيها متسعاً يتطاول إليه غيرهم ويقحم عليه صبغة علاقاته ومعانيه. ولا مناص لأهل الحي حال دخولهم الحي والرواية من التعرض للازدواج والكثرة أو التكثر، على وجه الدقة، أو هذا هو فرض الرواية الأول، أو دستورها. فالجوار الجديد، على النحو الذي ينشأ عليه، يدير علاقات الناس على انتقالهم من البعد والجهل والغربة والغرابة الى بعض القرب والمعرفة والأهلية والإلفة التي لا تبلغ الحال التي كانت عليها، أو يتوهمها الناس عليها قبل دخولهم دائرتهم الجديدة. وتنشأ الرواية، ربما عموماً، عن اقتصاص أثر الانتقال المتمادي والمضطرب ووجوهه الكثيرة، شريطة ألا تغفل عن تماديه واضطرابه الناجمين عن عالم "أول"، عائلي ورحمي، وعن خسارته. الارتجال والتأويل استقبال القادم الجديد، جاراً أو زبوناً أو زائراً، يبعث على الارتجال، قولاً ونظرة ووقفة وتخميناً. ويعرِّض الاثنين، المستقبِل والمستقبَل، لشتى أنواع التأويل والتعليل، على غير هدى. "فكل قادم جديد للإقامة في الحي، كان الذين سبقوه في الإقامة يستخلصون من اسمه ولهجته وملبسه ومظهره، ومن الشقة التي استأجرها، وأحياناً من عمله، الملامح الأولى والأساسية للصورة التي توحي لهم من يكون" ص 155. ويأتلف من هذا "غابة صور" يتبادلها أهل الحي، ويتناقلها جديدهم وطارئهم عن قديمهم، و"يحوِّر فيها بعض الشيء". ويخطّون جميعهم للحي أو الخطّة، على ما يقول المصريون الى اليوم، نقلاً عن الكوفة والبصرة وغيرهما من الأمصار "فضاءً وحدوداً... كأنها ظلال حياتهم أو أعماقها البعيدة". ويشبه هذا شبهاً قوياً "التحوير" الذي أوقعه دون كيخوتي - وهو لم يكن إلا السيد كينخادا، أو كيسادا، قبل تلقيبه نفسه لقب الشرف - على صور الناس والأشياء وعلى أسمائهم وأسمائها حين عزم على "الخروج" في طلب الفروسية، وحمل نفسه وأفعاله وأحواله، وأحوال من يلقى من الناس، عليها. وتقوم حوادث الرواية على ما بين العوالم الثلاثة هذه - عالم أهل الحي، وعالم المنفيين منه، والعالم الوسيط الذي يقيم به بعض أهل الحي المترجحون بين عالم خلفوه وراءهم وآخر يستقبلونه على مضض - تقوم على ما بينها من فصل ووصل. فالحي، شأن الرواية، على رغم الكلام على "فضاء وحدود"، وداخل وخارج، وإلفة وغربة، وعبور وإقامة، وعلى رغم نزول بناية شهاب منزلة متوسطة ترتب المحال مراتب قريبة وبعيدة، ليس الحي واقعة ناجزة ولا تامة. فبعض أهله، ممن ليسوا عمال مطبعة ولا سيّاس خيل ولا زعراناً، لم يقيموا بعد فيه ولم يلقوا رحالهم، ولم يبلغوا محجته، إذا جازت العبارة. فهم لا يزالون الى يومهم الروائي يتلفتون الى مواطن تركوها مضطرين وعلى مضض، وعلقت بهم. ويعيدهم اليها أهلهم، وتعيدهم منازلهم ومرابعهم هناك. ولهذه المنازل والمرابع في قلوبهم وعقولهم، وخصوصاً في أجسامهم وكلامهم ومشاعرهم، منازل ومرابع، على قول الشاعر العربي الكبير، أو لها "صور" على حد قول محمد أبي سمرا. والرواية تضج جنباتها ونواحيها ب"حطام الزجاج على الأرض و شعر الأم زوجة أبو ذيب المشعث و جبهة الابن يوسف المزرقة من لطمة الجدار برأسه، و صرير أسنان الأب واختناقه بغضبه وغيظه من الدكان" ص 206. وليس ذلك إلا من "علامات حياتهم ولحظاتهم التي تؤجج في كل منهم رغبة مكتومة، غامضة ومستحيلة، في الانسلاخ والفرار من سديم هذه الرحم العائلية... مخلفين وراءهم تلك البقعة السديمية السوداء التي كلما التفت أي منهم وراءه رآها تتسع وتتسع حتى تكاد تتشبث بقدميه". وبعض هجرة المهاجرين الى الحي هي من آثار اتساع الرحم العائلية وتشبثها بأقدام المهاجرين. فليست الرحم هذه، في مرآة الرواية، ثابتة ومنكفئة على نفسها، ولا هي مقيمة في مواطنها الأولى لا تبرحها. ولو صورها محمد أبي سمرا على هذه الحال من الثبات والانكفاء أو الفصل، لوقع فيما وقعت فيه علوية صبح في "مريم الحكايا": فهي قسمت ما تروي شطرين، شطراً متماسكاً، ولكن حِدَته وانفصاله أحالاه حكايا معظمها جميل وفولكلوراً، وشطراً روائياً مفترضاً تداعى تحت تحرره من روابطه "الرحمية"، وانقلب لوحات ومشاهد ظرفية، ضعيفة الزمنية. وعلى خلاف هذه القسمة، وهي تكاد تكون مرض الروايات العربية الأظهر والأعم، تشبك رواية "سكان الصور" العوالم الثلاثة، وناسها وأوقاتها، شبكاً يلد الناس والأوقات ولادة جديدة تنسبهم الى الرواية وليس الى صلب من خارجها. وعلى خلاف هؤلاء - وهم ليسوا كتلة، فزوجة أبو ذيب، وهي منهم، راسخة في الرحم العائلية ومشرعة الرغبة على "أرواح" الحي أو مصادر رياحه معاً - ينزع بعض آخر الى "أفق متخيل بعيد حيث الأرض والسماء والضوء". فيهاجرون الى أميركا مع جوزفين، أو يفكرون في الهجرة مع سيتا حكيميان، ويتركون مع أم سمير الأمرنية ومع سيتا وزوجها، ويختفون مع شفيق الحسيني في ختام أزمة "شحاذة"، ويحاولون قتل أنفسهم مع علي زيدان، ويتزوجون نساء من غير ملتهم يكبرنهم بسنوات مع جهاد كاظم فينقطعون من أهلهم وينفيهم أهلهم منهم، ويجتازون الحي من "أدناه" حيث زعرانه الى أقصاه حيث ابنا أم جوزف ونجوى بنت سبيرانسا الخياطة مع يوسف ابن أبو ذيب وعلى قدر أقل مع معروف، ويغادرونه وبيت أهلهم مع ذيب تليةَ إلهام مصدره نداء ب"أستاذ" ص 355 سبقه عمل في فندق كبير تولت زلفا الخوري التوسط فيه، أو يقيمون إقامة غير آسرة ولا مقيدة مع زلفا وأختها كلود الخوري وأمهما لويزا، ومع أم جوزف ويوسف وولدي عمته وبلقيس عتابا موظفة الهاتف التي تنفر من تسميتها ب"حريم" وتمتنع من طلب الشرطي شهادتها على مقتل ولد هوى من طبقة بناية شهاب أمام دكان أبو ذيب... مقاطع من دراسة طويلة