هناك طريقتان جرى اتباعهما حتى الآن في دراسة مسألة الجهاد في النص والتاريخ والحاضر. الطريقة الأولى وهي طريقة الدارسين المسلمين والاسلاميين، وتبدأ بذكر آيات الجهاد في القرآن، وتأسيس النظرية الفقهية عليها، واستمرار ذلك الى مطالع القرن العشرين. ويختلف المسلمون في القرن العشرين مع المستشرقين، وفي ما بينهم. يرى الإصلاحيون - تبعاً للنظرية الفقهية الكلاسيكية - ان الجهاد دفاعي، بينما يرى الأصوليون انه قسمان جهاد دفع وجهاد طلب. والطريقة الثانية هي طريقة المستشرقين، الذين يبدأون أيضاً من القرآن، وسيرة النبي وحروبه، ثم يدرسون التجربة التاريخية للدولة الإسلامية مع الحرب، ومساوقة الفقهاء للدولة في اعتبار الجهاد فريضة أخذاً من القرآن ومن حروب الرسول ومن نظرة الشافعي، ومن تقاليد الحرب لدى البيزنطيين. ولن أسلك أياً من هاتين الطريقتين، وذلك لسببين: للاختلاف الكبير في تأويل الآيات القرآنية وحروب الرسول، والفتوحات الإسلامية الأولى. ولأن الفقهاء اختلفوا مع الدولة طوال القرن الثاني الهجري حول رؤية الجهاد وضروراته والحاجة اليه. سأبدأ كما بدأت في بحوثٍ أخرى ومن خطين: خط تصرف الدولة في العصر الأموي، وخط رؤى الفقهاء في القرن الثاني الهجري وصولاً الى جزء الجهاد من كتاب الطبري: اختلاف الفقهاء، مطلع القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. بالنسبة الى الدولة الأموية كان الجهاد أو القتال المستمر ضد البيزنطيين في الغرب والشمال، وضد الترك في الشرق ممارسةً دائمةً تحت اسم الصوائف والشواتي والفتوح. والمعروف أنهم بعد أخذ الشام ومصر وشمال أفريقيا وأرمينيا والأندلس من البيزنطيين وحلفائهم، استمروا في الهجوم على البيزنطيين وصولاً لمحاصرة القسطنطينية مرتين. ونعرف من لقبهم"خليفة الله"، ومما كتبوه على مسكوكاتهم أنهم كانوا يعتبرون الجهاد والفتح واجباً دينياً. وأنهم كانوا يستخدمونه أيضاً لتثبيت شرعيتهم السياسية. ولا نعرف اعتراضات سياسية قوية على سياستهم القتالية، باستثناء تحفظ عمر بن عبدالعزيز الخليفة الورع، الذي جاء اعتراضه على أي حال بعد وقوع بعض الهزائم بالغُزاة، وسقوط قتلى كثيرين ان الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً. لكننا نعرف اعتراضاتٍ قويةً من جانب فقهاء حجازيين ومصريين وعراقيين مثل سعيد بن المسيب ومالك بن أنس وابن جريج وعمرو بن دينار والفُضيل بن عياض والليث بن سعد. وهؤلاء أبدوا تحفظات لأسباب مختلفة. منهم من قال ان الحج أفضل من الجهاد. ومنهم من قال ان المطلوب الدعوة والحرب لا تفيد الدعوة. ومنهم من قال أخيراً وبصراحة: لا قتال إلا في الدفاع. وقد أفضت هذه التحفظات الى ذهاب ثلاثة من مؤسسي المدارس الفقهية وهم أبو حنيفة ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل الى أن علة الجهاد العدوان أو خوفه. ووحده الشافعي، ذهب الى ان القتال جائز بعلة الكفر. لكن الطريق أنه عندما ذهب لذلك ما احتج بآيةٍ قرآنيةٍ بل بحديثٍ نبوي. ولهذا فقد ذهب كثيرون من بينهم شاخت ومجيد خدوري الى أن الشافعي هو الذي أسس لفرضية الجهاد الابتدائي أو جهاد الطلب في الفقه الإسلامي. والذي أراه أن هذا غير صحيح. اذ نحن نملك أربعة مؤلفات في الجهاد من القرن الثاني الهجري، قبل الشافعي، كلها تقول بفرضية الجهاد، استناداً لسلوك الرسول صلّى الله عليه وسلم، واستناداً للأجر العالي الذي يذكره القرآن للشهداء. ومؤلفو كتب السير والجهاد هؤلاء هم: الأوزاعي، وابن المبارك، والفزاري، ومحمد بن الحسن الشيباني. وقد علل ابن تيمية حرص هؤلاء على فرضية القتال بأن الشام كانت مهددة من البيزنطيين، وكان الشوام لذلك أكثر احساساً بضرورات الدفاع. لكن هذا تعليل متأخر، لأن تلك الكتب تدعو للقتال الهجومي أو فتح العالم وليس للدفاع فقط فذلك أمر بديهي. ثم ان هؤلاء باستثناء الأوزاعي ما كانوا من الشام، بل من خراسان والعراق. ولذلك فقد يكون السبب في اختلاف الفقهاء حول الجهاد هو اختلاف رؤيتهم للدولة ودورها أو رؤيتهم للقتال نفسه وهل هو عمل ديني فردي مثل الزكاة والحج والصلاة، أم أنه عمل من أعمال الدولة. والطريف أو المفارقة أن سقوط الدولة الأموية نقل العاصمة من الشام الى العراق فتراجعت أحداث الجبهة مع البيزنطيين ومع الترك فعلاً، أو أنها تحولت الى حرب مواقع وتحصينات. لكن، من جهة أخرى، قل عدد الفقهاء المعترضين على الحرب الهجومية في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وصولاً الى نظرية الطبري 310ه في الحرب والتي جعلت منها واجباً دينياً، وما عرفنا اعتراضاً على ذلك من أحدٍ من الفقهاء بعد القرن الرابع باستثناء ما يُقال عن الغزالي، الذي ما تحدث عن الهجوم أو الدفاع على رغم بدء الحرب الصليبية الأولى على دار الإسلام أثناء وجوده في دمشق. ما عرف الفقه الإسلامي الكلاسيكي نقاشاً حول الحرب العادلة أو الحرب المشروعة، بل المصطلح المتعارف عليه: الجهاد في سبيل الله. والذي يجعل القتال في سبيل الله أو في غير سبيل الله، ليس كون الحرب دفاعيةً أو هجوميةً، بل الوضع السائد بين المسلمين وجوارهم غير المسلم من جهة، والسلوك أثناء القتال من جهة ثانية. اذ لا تجوز مهاجمة الذين بين الدولة الإسلامية وبينهم عهد أو اتفاق موادعة. ولذلك اعترض الفقهاء على مهاجمة قبرص أيام المهدي والرشيد على رغم الشكوك في تعاونهم مع البيزنطيين، كما اعترضوا على مهاجمة النوبة للاتفاق الذي كان بين النوبيين والمسلمين من الفتوحات الأولى. أما السلوك في الحرب فيعني عدم حرق الأشجار أو قطعها، وعدم مقاتلة غير المقاتلين مثل النساء والأطفال والشيوخ ورجال الدين، والذين لا يحملون سلاحاً، وعدم قتل الأسرى أو المستأمنين، وعدم الاعتداء على الأماكن الدينية لليهود والنصارى، وعدم الإسراف في القتل. ولذلك ما اعترض الفقهاء على حروب محمود الغزنوي ضد الهنود، بل أزعجهم اسرافه في القتل والنهب، وارغام بعض الهندوس على اعتناق الإسلام. وقد حاول وزير المغول الكبير في القرن الرابع عشر رشيد الدين فضل الله، إثارة نقاشٍ تأصيليٍ لافت حول الحرب المشروعة وغير المشروعة بالعودة للقرآن. والطريف أن هدفه كان إعلان الحرب الهجومية حرباً غير مشروعة استناداً الى منطق القرآن القائل بالدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. لكن فقهاء الدولة المملوكية، وعلى رأسهم ابن تيمية، ما ساعدوه على ذلك، بسبب الصراع الذي كان نائباً على جبهتين بين المماليك والصليبيين، وبين المماليك والمغول حتى المسلمين منهم. ثم جاءت الغزوات العثمانية الهائلة، والتي أنهت كل نقاشٍ مشروعية الحرب أو عدالتها. أما في الأزمنة الحديثة فقد تحولت المسألة الى محنةٍ بالنسبة الى الإصلاحيين. اذ ان الفقهاء اعتبروا ان المسلمين لا يملكون إزاء الغزوات الاستعمارية بالهند والجزائر مثلاً إلا الجهاد أو الهجرة. لكن بعد هزيمة تمرد العام 1857م من جانب مسلمي الهند في مواجهة بريطانيا العظمى كان السيد أحمد خان من الشجاعة أن حرَّم على اخوانه المسلمين القتال والهجرة معاً، استناداً الى أحكام الضرورة، ولأن الأحكام تتغير بتغير الزمان. وكذلك فعل فقهاء الأحناف بالجزائر، في حين أصر فقهاء المالكية على الجهاد أو الهجرة، شأن أبي الحسن الندوي بالهند. وقد شجع مثل السيد أحمد خان محمد عبده المصري، في سياق ردّه في هانوتو ورينان، على الحديث عن"الحرب المشروعة"، فاعتبرها منحصرةً بالدفع والدفاع. وقد استند في ذلك الى القرآن، والى المتعارف عليه بين البشر من وجوب حماية النفس والعرض والأرض. وعلى خطى محمد عبده سار آخرون عديدون، ومن أشهرهم شيخ الأزهر محمود شلتوت، والشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور محمد البهي، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي. * * * في العام 1977 أصدر تنظيم الجهاد المصري كتاباً قدم له منظره محمد عبدالسلام فرج صاحب"الفريضة الغائبة"، وتصمن ثلاث رسائل: رسالة للمودودي، ورسالة لحسن البنا، ورسالة لسيد قطب. وهي رسائل في الجهاد، تقول بمشروعيته أو أنه في سبيل الله في حالات عدة: الدفاع عن الدين، والدفاع عن النفس، والدفاع عن الأرض، والدفاع عن"حلفاء المسلمين". وفي ما عدا ذلك هناك ضرورات الإعداد والاستعداد للتخويف والردع أخذاً مما ورد في القرآن: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوَّكم. وقد عنى ذلك لدى هذا الفريق من الراديكاليين أربعة أمور: أن الجهاد فرض عينٍ وليس فرض كفاية كما قال الفقهاء القدامى، وأنه واجب على الأفراد وعلى الدول ويكفر من لا يقول به، وأنه ضروري لضبط الدخل، كما هو ضروري لمواجهة الخارج، وأن مجالاته متعددة بسبب تعدد التحديات. وما عاد أحد اليوم من أهل التيار الرئيسي حتى في الحركات الأصولية يقول بالجهاد الشامل أو جهاد الطلب أو الحرب الهجومية، أو بالحرب ضد المدنيين باستثناء الذين يسمون أنفسهم سلفيين جهاديين. بيد أن المسلمين ما بدأوا باستخدام مصطلح"الحرب العادلة"الا بعد هجمات أيلول سبتمبر 2001، وظلوا طوال القرن العشرين يستخدمون مصطلح الحرب المشروعة أو غير المشروعة. أما بعد هجمات أيلول وتجدد النقاش في الولاياتالمتحدة حول المشروعية الدينية والأخلاقية للحرب على خلفية نقاشات ادارة بوش عن الحروب الاستباقية، فقد أقبل كثيرون من الكتّاب المسلمين على استخدام مصطلح"الحرب العادلة"بمعنى الحرب الدفاعية تارةً، والحرب المشروعة تارةً أخرى. وفي هذا السياق يتحدث كثيرون عن المقاومة والتفرقة بينها وبين الإرهاب، ويشيرون الى ما يجري في فلسطينوالعراق، ويعتبرون التصدي للغزاة جهاداً أو حرباً عادلة. ثم بدأ أخيراً بعض الكتّاب في الحديث عن الشروط الانسانية للحرب ليس مثل البحوث الكلاسيكية، بل استناداً للخلفيات القرآنية لكراهية الحرب، إذ لا يقام بها ابتداءً إلا لضرورات الدفاع. ان النقاش العالمي الجاري منذ عقودٍ في شأن الحرب العادلة، هو في الحقيقة، وكما أوضح جيمس تيرنر جونسون 1975، ومايكل ولزر 1977، 2005 نقاش في أخلاقية الحرب بحد ذاتها. وهو يمضي بعيداً الى ما وراء قصة الحرب المشروعة الحرب الدفاعية. والطريف أن الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى أثار في معلقته مسألة الحرب من هذه الوجهة، أي وجهة أعبائها وتكاليفها الإنسانية: وما الحرب الا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجَّم ومن هذه الوجهة تتحدث الآية القرآنية سورة البقرة: 216/ كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم، ومعنى هذا ان الحرب ضد الطبيعة الإنسانية، وإنسانية الإنسان. وقد توارت هذه المسألة تحت وطأة الطابع الامبراطوري الذي اتخذته الدولة الإسلامية الكلاسيكية. وما طرحت من هذه الوجهة في الأزمنة الحديثة بسبب آلام ومظالم الإمبريالية والاستعمار. ولذلك فقد كان أقصى ما استطاعه الإصلاحيون المسلمون على رغم احتلال البلدان الإسلامية، والمذابح الهائلة في الهند والجزائر وليبيا تطوير الحديث باتجاه الحرب المشروعة التي تعتبر جهاداً، أي الحرب الدفاعية. وقد كان يمكن للمأساة الفلسطينية أن توقظ نقاشاً حول أخلاقية الحرب، لولا أن تسويغات أهوال الهولوكوست، طغت على كل ما عداها. فباستثناء اليساريين من الدارسين، ما أمكن عالمياً تبرير الحرب على الصهاينة باعتبارهم معتدين. وقد حسبت دائماً أن أهوال العراقوفلسطين، ستبعث - على رغم كل شيء - نقاشات لاهوتيةً وليس فقهيةً فقط، حول أخلاقية الحرب. وقد اعتبرت أحداث أيلول فرصةً ملائمةً لذلك، ورأيت أمائر لدى الإسلاميين المعتدلين على ذلك فعلاً. فقد أدان اسلاميون عمل بن لادن باعتباره عملاً غير أخلاقي، لأنه استهدف مدنيين، ولأن الحياة الإنسانية تعرضت لأخطار كبرى لدى الأميركيين ولدى المسلمين. ثم كان هناك من بحث في أخلاقية الهجمات الانتحارية، لتأثيراتها السلبية وغير الانسانية على المهاجمين والضحايا على حدٍ سواء. لكن فظائع الحرب على الارهاب، وتطورات الأحداث في فلسطين، أخرت الآمال ورهنت المصائر. فالإحساس بالمهانة والظلم عميقٌ جداً لدى العرب والمسلمين، الذين يرون دائماً أن الهم الأخلاقي في شأن العنف، ينبغي أن ينطلق من جانب المعتدين والظالمين، وليس من جانب المستضعفين، الذين يوقنون أن الموت سيهاجمهم في مضاجعهم وبيوتهم، حتى وان لم يكونوا من المدافعين أو الانتحاريين. فالأمرُ بحسب الوقائع الجارية، سيراً من منطق الحرب على الإرهاب، هو كما قال الشاعر العربي: يرضى القتيل وليس يرضى القاتلُ!