حتى أواخر القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي، لا يسجل ابن النديم في "الفهرست" غير أربعة كتبٍ منفردة في الصوم. ونعرفُ طبعاً فصولاً مُفردة عنه في كتب الفقه العامة، وفي دواوين السنّة النبوية. بيد أن أقدم ذكر له أو اعتناء به بعد آيات القرآن، وأجزاء السنّة وصحاحها، يَرِدُ في كُتُب "الزُهد" لعبدالله بن المبارك ولهناد بن السري ولأسد بن موسى ولوكيع بن الجراح وهؤلاء جميعاً عاشوا في القرن الثاني الهجري. وهو يردُ في هذه الأجزاء مقروناً بالجهاد تارة، وبالزكاة تارة أخرى. ونفهم أن الجامع بين هذه الأمور الثلاثة أنها تتضمن تعبيرات مختلفة في درجاتها - عن التضحية. فالجهاد تضحية بالنفس، والزكاة تضحية بالمال، والصيام تضحية بلذائذ الجسد وشهواته. ومع أن الجهاد يمثّل ذروة هذه القيمة، لكنه - عندما كان يؤلف فيه علماء القرن الثاني الهجري الى جانب الزهد -، فإن فرضيته كانت محل خلاف شديد ومتصل. فالفقهاء المكيون والمدنيون كانوا يقدِّمون عليه في فضائل السلوك الصوم والحجّ. بينما كان فقهاء الشام والثغور يجهدون لمساواة الجهاد أو رفع مرتبته بين فضائل السلوك الى مرتبة الفريضتين أو الركنين الآخرين. وقد نجم هذا الخلاف ولا شك عن اختلاف مواقع أولئك العلماء ومواطنهم. ففي حين كانت مكة والمدينة بعيدتين عن الجبهات وساحات القتال، ظلت الشام من الطرفين البري والبحري جبهة لا يكاد يخمد أُوارها. وازدادت الأمور حرجاً في القرنين الرابع والسادس للهجرة. في القرن الرابع شهدت الامبراطورية البيزنطية نهوضاً عسكرياً وسياسياً فجددت غاراتها البرية والبحرية على ثغور دار الإسلام ودواخلها. وفي مطلع القرن السادس ظهر الصليبيون على طرفي الشام، من ناحية العواصم، ومن ناحية الثغور. ثم جاء المغول في القرن السابع في وقت صار الجهاد ضرورة وجود. لكن الطبري - 310ه الذي نشر جزءه في الجهاد وأحكام الحرب أواخر القرن الثالث، ذكر أن اجماعاً فقهياً تحقق على أن الجهاد فرض كفايةٍ في أحوال السلم، وفرض عين إذا هوجمت دار الإسلام. وقد فهم فقهاء القرن الرابع من ذلك ان القتال عمل من أعمال الدولة، أو انه صار كذلك، بينما كان فقهاء القرن الثاني مختلفين على وجوبه الفردي، ومن هنا اقترانه لدى فقهاء الثغور بالصوم والحج والزكاة، وهي كلها أركان شعائرية، وفرائض عينية وفردية، لا علاقة للدولة بها إلا بما هي حارسة للدين، وسائسة للدنيا. - وهذا طبعاً باستثناء التجاذبات الأولى والمبكرة حول مَنْ له الحق بجمع الزكاة وصرفها في مصارفها المحددة بالقرآن. والأمر الثاني الذي نفهمه من قَرْن الصوم بالجهاد في أدبيات القرن الثاني، ثم الانفصال بينهما في ما بعد، أن أولئك الزهّاد المقاتلين كانوا يحاولون دفاعاً عن دار الإسلام إلحاق الجهاد بالصوم باعتباره أيضاً فضيلة سلوكية بارزة، وعلاقة خاصة بالله بحسب ظاهر النص القرآني مثلما كان مسلَّماً به في أوساطهم للإمساك عن الطعام والشراب، وفي صوم الفرض = رمضان، كما في صيام النوافل مواصلة الصوم، أو الصوم يوماً والإفطار يوماً - صوم داود - أو صوم يومي الاثنين والخميس - صوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم -. وكما اختص الزهاد الأوائل بالإعلاء من شأن الصوم في رمضان وخارجه، اختصت الصوفية في ما بعد باعتباره الفضيلة الأكبر بعد الصلاة، وبذلك صار فلسفة للسلوك الصوفي المثالي، واتصل على مدى العمر، وصاروا يصرحون بأنه "الجوع"، على رغم ما ورد من أحاديث وآثار في عدم استحباب المواصلة حتى لغير المجاهدين، ولغير العاملين في كسب الرزق والعيش. وينسب مؤرخو الزهد والتصوف ذلك الى الزاهد البصري عامر بن عبد القيس، من تابعي القرن الأول الهجري. إذ يذكر ابن سعد في "الطبقات" أن الرجل صام عن أكل اللحم، ثم واصل الإمساك عن تناول الثرائد وإتيان النساء. فاتهمه أهل عصره بأنه الشتام شيمة نصرانية. بيد أن الفقهاء الذين كافحوا فضيلة "الجوع" لدى الصوفية في القرنين الثالث والرابع، ما احتجوا على دعاة المواصلة بالأخذ عن النصارى، بل كانت حجتهم سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته. منذ القرن الثاني الهجري شاع الحديث المروي عن عمر بن الخطاب، والذي يضع الصوم بين أركان الإيمان والإسلام، بعد الشهادتين، والى جانب الصلاة والزكاة والحج. وافترق نقاش الفقهاء والمتكلمين في القرن الثاني عن نقاش الزهاد والمتصوفة. فأبو حنيفة -150ه الذي كان يعشق الصوم، ما كان يعتبره ركناً من أركان الإيمان، بل هو عنده فريضة من فرائض الإسلام. إذ الايمان هو التصديق الذي تُعبّر عنه الشهادتان. أما الصوم والصلاة والحج والزكاة فهي من فرائض الدين وطاعاته، لكنها ليست جزءاً من الإيمان، بمعنى أن الإخلال ببعضها معصية وكبيرة، لكنه لا يُخرج من الدين. وكذا الأمر بالنسبة الى الطاعات أو المعاصي العملية. واعتبر فقهاء الأزارقة والصُفرية ترك الفرائض مُخرجاً من الإيمان والإسلام، لأن الإيمان عندهم: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان. وقالت المعتزلة إن ترك الفرائض مُخرج من الإيمان، لكنه - بسبب استمرار التوحيد - غير مُدخلٍ في الكفر. وقد اعتبر هؤلاء وأولئك أبا حنيفة مرحباً، لتأخيره العمل عن الإيمان بينما ذهب معاصرو أبي حنيفة من الفقهاء الى ان الإيمان لا ينفصل عن العمل، وأن ترك الفرائض يُنقص الإيمان، فإذا كان هناك إصرار على ذلك فإنه يوشك أن يُخرج المرء من الدين كله. ولا يحبُّ الفقهاء تقديم ركن على ركن في الفضيلة. لكن منهم من يستدل بأحاديث على تقدم الصلاة بين العبادات المفروضة على ما عداها. فالصلاة لا يسقطها شيء ولا ظرف، بينما الصوم يؤجله المرض والسفر، ويُسقطه العجز والشيخوخة العالية، أما الحج فيُسقطه العجز المادي عن القيام بأعبائه. لكن للصوم والحج احتفاليات وتقاليد ومظاهر في حياة الجماعة لا تقتضيها الصلاة اليومية. فالصوم شهر في العام. والحج حدُّه المُجزئ مرة في العمر. ولذلك أحاطت بهما، وبالصوم على الخصوص، احتفاليات كبرى، صارت معالم، لا يكاد أحد يتخلى عنها. فحتى الصلوات تزداد بالوتر والتراويح في رمضان. - وهذا فضلاً عن تقاليد السحور والإمساك وصلاة الفجر في المساجد، وحتى تفضيل أداء فريضة زكاة العام، في شهر الصوم بالذات. وهناك اختلافات فقهية تفصيلية في وقت الإمساك، وفي المفطرات، وفي وقت الإفطار. بيد أنها تبقى ضئيلة بأي حال. أما المشكلة القديمة والمستمرة فتتمثل في تحديد بداية شهر الصوم، وتحديد نهايته المفضية الى عيد الفطر. وعندنا دلائل على أن رجالات الدولة استعانوا بالفلكيين لتحديد البداية والنهاية بالحساب. ولا تزال الكتب المؤلّفة في ذلك شاهداً على هذه الحيرة، وعلى محاولة التصدي لحلها بالحساب الفلكي. بيد أن الكثرة الساحقة من المسلمين القدامى، وعلى اختلاف مذاهبهم، ما أخذت بالحساب، استناداً الى أحاديث نبوية تأمر بالتماس الهلال بالعين المجردة، والتصرف على أساس من ذلك. ولا يزال الأمر على هذا النحو الى اليوم، على رغم ارتفاع أصوات كثيرة، داعية لاعتماد الحساب الذي لا يُخطئ في العادة، بخلاف الرؤية، التي لا تتيسر في كل أزمنة العام، وتتأثر باختلاف المطالع في البلدان. وهناك احصائيات طريفة ودالة عن ممارسة المسلمين للفرائض والعبادات. وهي تتوافر في شكل مقبول منذ أربعة عقود. ففي احدى الاحصائيات التقديرية طبعاً أن المسلمين المؤدين لفريضة الحج ازدادت نسبتهم في العشرين سنة الأخيرة في شكل ضئيل لا يزيد عن ال5 في المئة. أما المصلون فقد ازدادوا في بلدان المشرق العربي بنسبة 12 في المئة، في حين زاد عدد مؤدّي فريضة الصوم ما بين 20 الى 25 في المئة. ولا يمكن بالطبع تجاهل تأثيرات المظاهر الاجتماعية. لكن للصحوة الاسلامية آثارها وتأثيراتها الأقوى والأوضح في أداء الفرائض، وفي سائر الأمور الأخرى مثل ارتداء الحجاب، وإطلاق اللحى، والإقبال على صلوات الجمعة والجماعة في الجوامع والمساجد.