قبل أربعة أشهرٍ صدر بالعربية كتاب جون كلسي: الحرب العادلة في الإسلام. وقد قابلتُ كلسي للمرة الأولى عام 2004 مع مثقفين عربٍ وأميركيين، من خلال مبادرة معهد القيم الأميركية. وقتها كان مثقفو اليمين الأميركي المعتدل لا يزالون منشغلين بأطروحة «صراع الحضارات» لهنتنغتون، والتي وجدوا في هجمة «القاعدة» على الولاياتالمتحدة في 11/9/2001 تصديقاً لها. أما كلسي وجونسون (وكلاهما متخصص في أخلاقيات الدين والسياسات العامة) فكانت تشغلهما أطروحة «الحرب العادلة» التي استخدمتها ادارة الرئيس بوش لتبرير «الحرب على الإرهاب» واحتلال أفغانستان ثم العراق. والأطروحة في الأساس من صناعة اللاهوتيين الكاثوليك في العصور الوسطى خلال الحروب الصليبة. لكن المثقف الأميركي الليبرالي البارز Wakzet عاد لمراجعتها مراجعةً نقديةً خلال حرب فيتنام. وبشيءٍ من التبسيط يمكن القول إن المعني بالحرب العادلة هي الحرب الدفاعية، أي أن من الناحية الأخلاقية، من حق المسيحي المُعادي للعنف واستخدام السلاح، أن يلجأ اليهما إذا تعرض أمنُهُ أو أمنُ بلاده للخطَر؟ ولأن العالم الحديث هو عالمُ الدول، يصبحُ من المفهوم أن من حق الدولة بل من واجبها للدفاع عن مواطنيها ومجال سيادتها امتشاق السلاح لمواجهة الغُزاة. لكن: ما معنى الدفاع هنا وما هي حدوده أو امتداداته؟ ففي القرن الثاني عشر بزغت هذه النظرية لتبرير غزو بيت المقدس وفلسطين، وتحريرهما باعتبارهما مسقط رأس السيد المسيح، من سطوة المسلمين وسيطرتهم. وقد اعتبر اللاهوتيون حينذاك أن تلك ظروف قاهرة، تُبيحُ حتى لرجل الدين حمل السلاح، وهذا ما فعلته رهبانيات الفرسان التي ظهرت وتطورت خلال الغزو الصليبي للمشرق. وُلزر، ما رأى في حرب فيتنام حرباً دفاعيةً، ولا رأى لها تبريراً من الناحية الأخلاقية، بل انه ناقش التبريرات الأخلاقية للحربين العالميتين الأولى والثانية. وعندما وقع حدَث 11/9/2001 تردد وُلزر في الاندفاع باتجاه الحرب العالمية على الإرهاب، رغم اعترافه بأن المسألة الأخلاقية - وليس الدولتية - مُربكة لهذه الناحية. فمن جهة حق الدولة وواجبها في الدفاع عن مواطنيها، هناك مبررٌ لمهاجمة الخصم واحباط هجماته واستعداداته. لكن من الناحية الأخلاقية، فإن «الحرب على الإرهاب» تعني اصابة عددٍ هائلٍ من الأبرياء، دونما ضمانةٍ من أي نوعٍ في أن يؤدي ذلك لشلّ الخصم الذي ليس فرداً ولا دولةً محددة القسمات. وفي حين سحب وُلزر توقيعه عن بيان الستين مثقفاً أميركياً، والصادر أواخر عام 2001 تحت مظلة معهد القيم الأميركية، فإن كلسي وجونسون وألستاين (وهي معروفةٌ لأخلاقيات الدين)، وقعوا على البيان الذي يعتبر الحرب على الإرهاب حرباً عادلةً، ثم خالجهم شعورٌ بالحيرة قارب الندم، عندما رأوا آثار الغزو الأميركي على أفغانستان والعراق. أما ألشتاين فرأت أن غزو العراق لم يكن له مبرر، وأما كلسي فرأى أن «القاعدة» كان يمكن مكافحتها دونما حاجةٍ لاحتلال أفغانستان، فضلاً عن العراق. وعندما التقيناهم أخيراً في مالطا عام 2004، كما سبق القول، ناقشهم العرب الحاضرون في مسألة الدفاع وحدودها، ثم ما لبثوا أن جروهم الى مسوِّغات استخدام العنف ضد الصهاينة في فلسطين. والطريف أن أكثرهم تخلَّى في هذا السياق عن الحُجج الأخلاقية والدينية، وانصرف للدفاع عن اسرائيل من وجهة نظر القانون الدولي، لكن في تلك الأجزاء من فلسطين السابقة على احتلالات عام 1967. وتنبهت وقتها الى اختلاف كلٍ من جونسون وكلسي (والى حدٍ ما ألشتين) عن الآخرين مثل نوفاك وبترسن. إذ إن هؤلاء أخافتهم جميعاً نزعة «التفوق الأخلاقي» البارزة في الأفكار والقناعات والتصرفات لدى اليمين الأميركي. ولأن هذه النزعة ذات جذور دينية، فقد اشتبهوا بأن التصرفات الأميركية تتضمن نظرةً تمييزيةً ضد الإسلام، وحتى ضد القانون الدولي. لكن أياً تكن قيمة وتأثير هذه التأملات النظرية، فإن كلسي أخبرني يومها أنه يفكر في كتابة دراسةٍ عن «الجهاد» قديماً وحديثاً من وجهة نظر «الحرب العادلة»، أي أن المسلمين كانت لديهم نزعة «التفوق الأخلاقي» هذه في العصور الكلاسيكية، بحيث رأوا أن الجهاد هو حربٌ محقةٌ لمجرد أنه آتٍ من المسلمين، وأن الدعوة وليست الغنيمة غرضه. وقد ناقشته يومها في الفرق بين عقائد الأفراد وتصرفاتهم، وتصرفات الدولة وسياساتها. فالدولة الإسلامية مثل سائر الدول في التصرفات الإمبراطورية والاستيلائية. أما مسائل النزوع الأخلاقي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً) فينبغي التماسها لدى الأفراد، ومنهم الفقهاء بالطبع. وقد ذكر لي كلسي عندها أن هذا الاعتبار يصعبُ حسبانُهُ في النصوص التاريخية والفقهية، لكنه سيحاول ذلك. وبالفعل، فإن كلسي أرسل إليّ في مطلع عام 2008 كتاباً صغيراً من تأليفه عن «الحرب العادلة في الإسلام»، فقرأته، ثم جرت ترجمتهُ ومراجعتهُ على النصوص، وصدر قبل شهورٍ قليلة. لا يتتبع كلسي التجربة الإسلامية الوسيطة من خلال الكتب التاريخية، بل من خلال النصوص الفقهية وبخاصةٍ كتاب السِيرَ الكبير للشيباني، والأحكام السلطانية للماوردي، وهو يلاحظ - على رغم بعض الإشارات - أن نصوص دار الإسلام ودار الحرب، مكتوبةٌ للدولة وليس للأفراد، وأنها تُركّز على الجانب الأخلاقي أو الدافع الأخلاقي للحرب، دون أن يعني ذلك أنها تُهملُ مسألة الغنائم، بل تهبها هي أيضاً معنى أخلاقياً، وفي معرض مناقشته لفهم مجيد ضروري (في كتابه: الحرب والسلام في الإسلام لآراء الفقهاء (باستثناء الشافعي) والقائلة بالطابع الدفاعي للحرب، يُلاحظُ الرجل ان الظروف التاريخية (في هذه الحالة: الحرب مع بيزنطية) حكمت تطورات الصراع، وليس نصوص الفقهاء. فحتى القرن الرابع الهجري كان المسلمون في مواقع الهجوم، وصاروا الى موقع الدفاع مع صعود القوة البيزنطية، بغض النظر عن تمييزات الفقهاء. لكن الفقهاء ما أكدوا على السقف الأخلاقي للحرب لإظهار التميُّز والتفوق، بل للتقليل من الخسائر البشرية في الحرب، وصون النساء والأطفال وغير المقاتلين (من الشيوخ ورجال الدين). وعلى أيّ حال، فإن كلسي يحسبُ للنظرية الكلاسيكية في الجهاد أنها كانت منفتحةً ومنضبطةً ولا تتسم بالطابع الدوغمائي، كما انها لا تُصغي للآثار النشورية التي تقدسُ القتال وتربطهُ بالنجاة والجنة. لكن تساؤلهُ عن علاقة الجهاد بمفهوم الحرب العادلة ما وجد إجابةً شافية. فالجهاد حربٌ مشروعةٌ بشروطٍ معنيةٍ أحدها أن تكون الحربُ دفاعية، لكن هناك اختلافٌ في مفهوم الدفاع عن الأرض والدفاع عن الدين. فالمفهوم الثاني أوسع ويدنو أحياناً في المأثورات الى مفهوم «المدنية على جبل» والتفوق الأخلاقي لدى الأميركيين البروتستانت والوُسب! بيد أن كلسي يخصص ثلثي الكتاب تقريباً لمفاهيم الجهاد لدى المسلمين المُحدثين. وهو يخوض هنا في الحقيقة نقاشاً اسلامياً داخلياً بين القائلين بجهاد الدفع والآخرين القائلين بجهاد الطلب. وهذا النقاش في حقبته الأولى دار بين الفقهاء المسلمين التقليديين والآخرين الإصلاحيين. لكن بعد منتصف القرن العشرين، ظهرت تياراتٌ أخرى تفاقمت في الستينات والسبعينات وتجاوزت مسألتي الدفع والطلب الى اعتبار الجهاد «الفريضة الغائبة»، والنهج الذي لا يمكن بقاءُ الإسلام إلاّ به وفي الداخل قبل الخارج! وهنا يلجأ كلسي لقراءة البيانات والفصول في الكتب والتي صدرت عن الجهاديين منذ السبعينات وحتى عام 2006، وسأل الأكاديميين، كما لم يكتف بشأن الحقبة الأولى بعرض آراء القائلين بجهاد الدفع أو الدفاع، بل عرض وجهة النظر الأخرى التقليدية أو المتحججة بمكافحة الاستعمار، فإنه عندما عرض لرأي الجهاديين وبيانات القاعدة، عاد فعرض الرأي الإسلامي الصادر عن الجهات الدينية الرسمية، وعن جهات «ترشيد» الصحوة، وجهات مُعارضة للعنف بالداخل مهما كانت الأسباب والتبريرات. كتاب جون كلسي كتابٌ أكاديمي من طرازٍ رفيع. وهو ينتصر للإصلاحية الإسلامية والاعتدال، لكنه يُظهر تفهماً لوجهات النظر الأخرى. وهو بعيدٌ من الجوهرانية، وممتلئٌ بالأهداف الأخلاقية السامية لمسألة الحرب والحياة في الإسلام والديانات الإبراهيمية. وقد أدهشتني معرفته الدقيقة بالنصوص الإسلامية الكلاسيكية في مسائل الحرب والجهاد. لكن المُدهش أكثر معرفته - وهو غير متخصص - بالروح العام للفقه الإسلامي. وأذكر له نقاشاً قبل خمس سنوات مع مايكل كوك مؤلّف «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي»، وكان كوك قد ذهب أن روح المسؤولية الدينية والأخلاقية الموجودة في الإسلام غير ملحوظة لدى المسيحيين واليهود. وناقشه كلسي في وجودها لدى البروتستانت المتشددين. ثم عاد فقال: من يدري في النهاية كيف أثّرت تلك النصوص في الأخلاد البشرية؟ ولذا فإنني ناقدٌ للجزم الذي يذهب اليه كوك، وليس لأطروحته حول رفع المسؤولية في الإسلام!