الكشافة تعقد ندوة الاتجاهات التربوية الحديثة    مسؤول إسرائيلي: سنقبل ب«هدنة» في لبنان وليس إنهاء الحرب    الصحة الفلسطينية : الاحتلال يرتكب 7160 مجزرة بحق العائلات في غزة    السعودية تتصدر العالم بأكبر تجمع غذائي من نوعه في موسوعة غينيس    السجن والغرامة ل 6 مواطنين.. استخدموا وروجوا أوراقاً نقدية مقلدة    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    التعليم : اكثر من 7 ٪؜ من الطلاب حققوا أداء عالي في جميع الاختبارات الوطنية    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    مستشفى الدكتور سليمان فقيه بجدة يحصد 4 جوائز للتميز في الارتقاء بتجربة المريض من مؤتمر تجربة المريض وورشة عمل مجلس الضمان الصحي    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    السعودية الأولى عالميًا في رأس المال البشري الرقمي    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    سجن سعد الصغير 3 سنوات    حرفية سعودية    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    فصل التوائم.. أطفال سفراء    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    ألوان الطيف    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    حكايات تُروى لإرث يبقى    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    من أجل خير البشرية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    خادم الحرمين يوجه بتمديد العمل ب"حساب المواطن" والدعم الإضافي لعام كامل    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثقافة الاسلامية وثقافة السلام . دولة الخلافة ومناقشة فكرة السلطة القاهرة والجهاد والعلاقة بأديان وثقافات أخرى 2 من 2
نشر في الحياة يوم 11 - 04 - 2001

في مقابل مشاهد ثلاثة عرضت رؤية للعالم تتسم بالتوتر والتأزم، أود أن أعرض بسرعة ثلاثة مشاهد وسيطة من عالم الاسلام حول علاقة المسلمين بالأديان والثقافات الأخرى، وحول الصراع على مفهوم الدولة ووظائفها، وأخيراً حول الجهاد، في الفَرَضيّة والمجال والعلاقة بالنظام العام.
أما في مجال العلاقة مع الأديان الأخرى فإن رؤية أكثرية الفقهاء تتأسس على موضوعة الدين الواحد والشرائع المتعددة، وخصوصاً في نطاق الديانات الابراهيمية. يقول أبو حنيفة1: "... إن رسل الله لم يكونوا على أديان مختلفة، ولم يكن كل رسول يأمر قومه بترك دين الرسول الذي كان قبله لأن دينهم كان واحداً... فالدين لم يُبدَّل ولم يُحوَّل، والشرائع قد غُيِّرت وبُدِّلت... ولو شاء الله لجعل البشر أمةً واحدةً أي في الشريعة".
وهكذا فإن رسالة الاسلام في العالم - ودائماً كما قال أبو حنيفة - انه رحمة، "أرسل به رسوله ليجمع الفُرقة، وليزيد الأُلفة، ولم يبعثه ليفرّق الكلمة، ويحرِّش الناس بعضهم على بعض...". وما دام الاسلام بهذه المثابة، فإن همّه ان يجمع الناس على الدين الواحد ان أمكن بالحكمة2 والموعظة الحسنة: سورة الشورى: 13: شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك، وما وصَّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.... ولأن الرسول مبعوثٌ للناس جميعاً3، فإن العالم كله هو أمة دعوة بالنسبة له، وخصوصاً أن الله سبحانه وتعالى خلق البشر مختلفين لكي يتلاقوا ويتعارفوا بسبب اختلافهم وليس على رغم اختلافهم4. وبذلك فإن الاختلاف في التعامل مع أهل الكتاب ومع غيرهم هو اختلاف في الدرجة والطريقة. فالكتابيون على الدين الواحد، والخلاف معهم منحصر في الشرائع، بينما الاختلاف مع غير الكتابيين أوسع مع بقائهم ضمن أمة أو أمم الدعوة. وبناء على هذه الرؤية وسّعت الدولة، ووسع الفقهاء نطاق المسالمة مع غير الكتابيين بذرائع مختلفة. قالوا مثلاً عن الزرادشتيين المجوس أن رسول الله ص قبل منهم الجزية وبذلك ألحقوهم بالكتابيين. وقالوا عن البربر والبوذيين كانوا يسمُّونهم الشمنية إنهم ربما كانوا من الصابئة الذين ذكرهم القرآن. وقالوا عن الإغريق والشعوب الأخرى القديمة، التي أفادوا من موروثاتها الفكرية، وتاقوا الى شرعنة ذاك التقابُس والتثاقف، انهم ربما كانوا أتباع أنبياء لم يذكر القرآن قصصهم، لقوله عزّ وجل: سورة غافر: 78: منهم من قصصنا عليك، ومنهم من لم نقصُصْ عليك5.
ولا يعني ذلك أن الكتابيين وغيرهم ممن وصلت السيطرة الاسلامية الى ديارهم، لم يعانوا من ضغوط ووجوه تمييز، من جانب الدول الاسلامية، كما من جانب الفقهاء في منظوماتهم القانونية. لكن ذلك كله ما كان سياسة مقررة، بل السياسة المستقرة ضرورة المعاملة بالحسنى لكسبهم للاسلام: الممتحنة: 8: لا ينهاكُمُ الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا اليهم، إن الله يحبُّ المقسطين. وقد عنى البر والقسط الضمانات القانونية لحرياتهم الدينية والاجتماعية، وحقهم في التقاضي الى أبناء ملتهم. فبقيت الأديان القديمة كلُّها في الأقاليم التي افتتحها المسلمون ربما باستثناء المانوية إذ كان المسلمون يعتبرونها ديانة سرية تشكل خطراً على الاستقرار. وهكذا ظهرت منظومة المصالح الضرورية الخمس لدى الفقهاء المسلمين منذ القرن الثاني عشر الميلادي وربما قبل ذلك، وهي: حق النفس، وحق الدين، وحق العقل، وحق النسل، وحق المِلْك. وقد قال الشاطبي وهو فقيه مالكي من القرن الخامس عشر الميلادي إن هذه المبادئ أو الحقوق أو الالتزامات ربما لم تكن خاصة بالشريعة الاسلامية، فقد قيل انها "مُراعاةٌ في كل ملة"6.
أما فكرة السلطة، فنلاحظ أن طابعها القهري والامبراطوري، كان لا يزال موضوع نقاش وخلاف الى ما بعد مئة وخمسين عاماً على قيام دولة الخلافة. ففي نص مكتوب على الأرجح في حدود المئتين للهجرة/ بدايات القرن التاسع الميلادي، يقول كاتب النص ان المعتزلة صنفان، صنف أوجبوا الإمامة... وصنف أنكروا وجوبها. أما المنكرون فزعموا "ان حكم الاسلام مخالف لسائر حكم الأمم في إقامة الملوك، واتخاذ الممالك لأن النبي ص لم يكن مَلِكاً ولم يُمَلِّك على أمته أحداً. قالوا: والمُلْكُ يدعو الى الغلبة والاستئثار، وفي الغلبة والاستئثار فساد الدين وإبطال أحكامه والرضا بأحكام الملوك المُخالفة لحكم الكتاب والسُنّة..."7 ....
وقد طوَّرت الفئات الكارهة للطابع القسري للسلطة، وللطابع الدموي للمعارضين، تقاليد وتُراثاً سلمياً أستندت فيه الى القرآن، والى الصحابة الذين لم يشاركوا في النزاعات الأولى بين عثمان بن عفان وخصومه، وبين علي بن أبي طالب وخصومه، ثم بين الأُمويين وخصومهم. فالصحابي يقول لابنه الذي يسأله عن حكم المشاركة في القتال مع الفريق الذي يعتبره على الحق: كن كابن آدم! وابن آدم المقصود هو الذي يذكر القرآن انه قال لأخيه الذي أراد قتله سورةالمائدة: 18: لئن بسطت إليّ يَدَكَ لتقتلني ما أنا بباسطٍ يديَ إليك لأقتلك إني أخافُ الله ربّ العالمين. ويروي آخر عن الرسول ص: "كن عبدالله المقتول ولا تكن عبدَ الله القاتل" أو "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتِل والمقتولُ في النار" أو "إتخذ في الفتنة سيفاً من خَشَب" أو "كن حِلْسَ بيتك... حتى يأتيك الموتُ وأنت على ذلك". وقد تحوّل هذا الميراث السلمي الى جزء من عقيدة أهل السنّة، ظلّ يتكرر في كتبهم حتى القرن الخامس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. ففي بيان عقديٍّ منسوب للإمام أحمد بن حنبل 241ه/ 797م: "ونُطيع وُلاة أمورنا، ونعتزل الفتن، ولا نشارك في سفك الدم بيدٍ ولا لسان"8.
ويبدو أن هذه النزعة السلمية، ما كانت نزعة امتثالية أو متشائمة بسبب ممارسات السلطة وعنفها، وأحداث القرنين الأولين من تاريخ الدولة الاسلامية وحسب، بل إنها تمثل رؤية معينة للاسلام ودوره في العالم. ويظهر ذلك في الأدبيات المبكرة حول الجهاد. فكما هو معروف تقليدياً، ينقسم العالم في نظر الخلافة الاسلامية والفقهاء الى دارين: دار الاسلام ودار الحرب. ومنذ الإمام الشافعي 204ه/819 قيل إن علة القتال أو مبرره الكفر. والجهاد فريضة باقية الى قيام الساعة. والسلطان المثالي هو الذي يحجُّ عاماً ويغزو عاماً9. بيد أن هناك ما يدل على ان هذه الايديولوجيا ما كانت سائدة في القرنين الأولين للاسلام: السابع والثامن الميلادي. فأبو حنيفة 150ه/767م يرى أن مسوِّغ القتال أو الجهاد دفع العدوان. ومالك بن أنس يعارض قتال الفجأة أو البيات مهاجمة العدو ليلاً لأنه لا بد من دعوة الناس للإسلام قبل الهجوم. كما انه يعارض الاستقتال، أي الهجمات الانتحارية على العدو، لأن قصد الإسلام هداية الناس وإحياؤهم، فكيف يجري تأييد مقتل المسلم والكافر؟! وسفيان الثوري 161 ه/778م يفضّل الحج على الجهاد، وكذلك الفضيل بن عياض 187ه/803م. والفقهاء المكيون من القرن الثامن الميلادي: عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وابن جريج، لا يرون فرضية الجهاد. وتختلف تعليلاتهم لذلك. لكن أكثرهم يرى عدم مشرعية الجهاد الهجومي لقوله تعالى البقرة: 190: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا.... كما يرى هؤلاء أن رسالة الإسلام رسالة دعوة الى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة النحل: 125: ادْعُ الى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة...10.
ولست على بيِّنة لماذا ذهب الشافعي الى هذا التمييز القاطع بين المؤمنين والكفار بخلاف أسلافه من الفقهاء، وبينهم شيخه الإمام مالك. فالدولة الاسلامية في زمانه مطلع القرن التاسع الميلادي كانت أقوى دول العالم. وما كان المسلمون يعانون من هجمات الأمم الأخرى، بل ان الاسلام كان في امتداد مستمر. لكن الشافعي كان مؤشر تحول ليس في ايديولوجيا الدولة وحسب التي لم يكن الشافعي على وفاق معها على أية حال، بل ولدى المحدِّثين والفقهاء، وفي منظوماتهم الفقهية. ففي الحقبة نفسها ظهرت كتب السِيَر والجهاد، وفي الحقبة نفسها ظهرت كتب الناسخ والمنسوخ، التي تقول بنسخ آيات المسالمة والدعوة بالحسنى لمصلحة الآيات التي ظاهرها القول بالجهاد المطلق آية أو آيات السيف. وتكاثرت أدبيات الجهاد عندما تعرض دار الاسلام للهجمات الصليبية والمغولية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد. وفي مطلع القرن الرابع عشر الميلادي بالذات دار جدال بالواسطة بين الفقيه الكبير ابن تيمية 728ه/ 1329م ووزير الإليخانيين المغول رشيد الدين 818ه/1318م حول الجهاد. كان ابن تيمية يرى رأي الشافعي في اطلاقية الجهاد ضد الكفار، بل وضد التتار الذين "يتظاهرون" بالاسلام. بينما كان رشيد الدين يرى انه لا نسخ في القرآن. وأن آيات السيف بالتالي ليست ناسخة لآيات الموادعة والمسالمة والدعوة بالحسنى11.
يقدّم الفقيه الكبير، والمؤرّخ الأشهر محمد بن جرير الطبري 310ه/922م للحديث عن الجهاد في الكتاب المخصص لذلك من موسوعته في "اختلاف الفقهاء" بإيراد ثلاث آيات توضّح رؤية الفقهاء المسلمين للعالم، ودور المسلمين فيه، مطلع القرن الرابع الهجري: والآيات هي: ولقد كتبنا في الزَبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون سورة سبأ: 28، وولتكن منكم أمةٌ يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون آل عمران: 104، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلِّه ولو كره المشركون التوبة: 3314. لقد رأى الطبري ومعاصروه من الفقهاء أن الأمة الاسلامية مكلَّفة بحكم إسلامها بأن تكون شاهدة ومهيمنة على الأرض التي أورثها إياها الله عز وجل، وعلى البشر الذين استخلفها الله عليهم.
هذه الرؤية المهدوية والامبراطورية لدى الطبري تقابلها رؤية مناقضة عرضها الدكتور عز الدين العراقي، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي في كلمته بالندوة الاسلامية للحوار بين الحضارات التي دعا اليها السيد محمد خاتمي رئيس جمهورية ايران الاسلامية، ما بين 3 و5 أيار مايو عام 1999. قال العراقي12: "السلام هو تحية الاسلام العظمى، أزجيها اليكم ومن خلالكم الى الأمة الاسلامية، ومن ورائها الى شعوب العالم كلها، على اختلاف انتماءاتها الحضارية وعلى اتساع مواقعها الجغرافية. فالجنس البشري كله سواء، وأبناء آدم وحواء، هم الذين قال فيهم الله جلّ عُلاه في كتابه الكريم: يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. كما قال أيضاً: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم. فاستبقوا الخيرات....
نحن إذاً أمام قراءتين لآيٍ من آي القرآن. القراءة الأولى تمتد ما بين الشافعي والطبري... والى المودودي وحسن البنا وسيد قطب. والقراءة الأخرى تمتد ما بين أبي حنيفة ومالك... والى محمود شلتوت ومحمد أبو زهرة ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد سعيد رمضان البوطي... وأخيراً عز الدين العراقي في تسعينات القرن العشرين. فإذا مضينا قُدُماً أمكننا القول إن هاتين القراءتين تمثلان في الحقيقة رؤيتين للعالم. ترى الأولى أن العلاقة بين المسلمين والعالم هي علاقة إظهار وشهادة وهيمنة، وترى الأخرى أن العلاقة بين المسلمين والعالم هي علاقة تثاقف وتقابس وتراحم وتنافس من أجل خير البشرية وتقدمها.
لكن يبقى السؤال: هل صحيح ان المسألة تنحصر في قراءتين مختلفتين لآيات قرآنية؟ ثم هل صحيح أن هاتين القراءتين تأصيليتان؟! بمعنى أنهما فعلاً قراءتان مختلفتان لآياتٍ قرآنية في خطين يمتدان من القرن الهجري الرابع الى القرن الهجري الخامس عشر؟! واستطراداً: هل صحيح أن تلك ثقافة حرب وعنف، وهذه ثقافة سلامٍ وموادعة؟ أو بتعبيرٍ آخر: ما العلاقة بين الطبري والمودودي؟ وما العلاقة بين مالك والعراقي؟ وما العلاقة بين فقهاء القرن الرابع الهجري والقرآن من جهة، والعالم من جهة أخرى؟ وما العلاقة بين المودودي والقرآن من جهة، وعالم القرن العشرين من جهة ثانية؟
ونستطيع أن نمضي في هذه التساؤلات الى ما لانهاية. لكن المفارقة أن ثقافة: "الهيمنة" إذا صح التعبير كما تبدو عند محمد بن الحسن الشيباني والطبري كانت ثقافة مشروع واستيعاب، يُقبل العالم عليها، ويوافقها أو يعارضها، ويحبها أو يكرهها، لكنه يظل قادراً على العيش في نطاقها، كما يقول مارشال هودجسون13، بينما يستخدم المودودي وسيد قطب والمتشددون الآيات القرآنية، وايديولوجيا الجهاد لا للاستيعاب والتلاؤم، بل للتحصُّن والانسحاب إن أمكن. وإذا كانت الثقافة واحدة في الحالين، وهي ثقافة الاسلام، وثقافة القرآن، فإن تعليل الاختلاف الشاسع هذا يستعطي إلا إذا دققنا في المفاهيم والتعابير، وإلا إذا دققنا في السياقات، وفي توظيفات الظروف للنصوص.
والتدقيق في النصوص والمفاهيم والسياقات، يضعنا في أفق آخر. انه يضعنا في أفق الوعي، وليس في أفق الثقافة. فالشافعي والطبري كانا يقفان في قلب ثقافة عالمية سائدة هي الثقافة الاسلامية، ولذلك يتقارب عندهما الوعي معها وبها، فتبدو رؤيتهما للعالم على شيء من الانتظام والاتساق.
وفي الوقت نفسه فإن الوعي النقدي في قلب تلك الثقافة كما مثَّله مالك وأبو حنيفة والثوري، يبقى أيضاً في حيّز الانتظام والاتساق نفسه على رغم الاختلاف الظاهر. فالشافعي والشيباني والطبري يصفون أو يعبّرون عن الواقع السائد، والمختلفون عنهم من شيوخهم ومعاصريهم يمثلون أيضاً جانباً من جوانب ذلك الوعي بالواقع المتعدد الأبعاد.
أما المودودي وسيد قطب، واستطراداً أسامة بن لادن وطالبان فلا يمكن القول إن هناك تطابقاً بين ثقافتهم ووعيهم، للمفارقة الحاسمة ليس بين النص والواقع، بل بين المرجعية والوعي. ولذلك تُصبح النصوص عندهم رموزاً، بقدر ما هي رموز أيضاً عند العراقي، لكن لسبب مختلف. فمرجعية العراقي في الحقيقة هي القيم المعاصرة السائدة، وهو باعتباره مسلماً مسؤولاً يحدوه الحرص على صورة الاسلام وأوضاع المسلمين، يتأمل نصوص القرآن باعتباره رموزاً يتحصن بها في مواجهة مزدوجة مع مخالفيه من المسلمين، وبحثاً عن الندية في العالم المعاصر.
ما قصدت من وراء هذه المقارنة السريعة بين الخطابات ومفارقاتها أن أحلل نصوصاً أو خطابات، بل أردت الوصول الى أن التأزُّم الحاصل اليوم انما هو تأزم في الوعي الاسلامي وليس في الثقافة الاسلامية.
وما أردت الذهاب اليه ان المشكلة ليست في الثقافة، بل في وعي النُخَب الاسلامية بالواقع، وفي قراءة النصوص استناداً الى هذا الوعي، تارة للوصول الى أن الاسلام في مواجهة مع العالم اليوم، أو أن الفهم الصحيح له يوضّح توافقه مع القيم المعاصرة. فالوعي لا ينتظم ويتواصل ويتجدد نتيجة حوارية داخلية بين نصوصه ومقدساته ورموزه وتاريخه، بل يتسق وينتظم عندما يتجه الخارج المتنوع والمتكاثر لمحاورة ذلك الوعي المزوَّد بتلك العناصر، أي بالثقافة. فابن تيمية 1329م، فقيه المواجهة هو الذي قال لنا في كتابه "الرد على المنطقيين" مناقضاً بذلك أرسطو 322 ق.م إن الحاضر والموجود والمعتبر هو الجزئي وليس الكلي15. فليس صحيحاً ما قاله أرسطو من أن الماهية سابقة على الوجود، وليس صحيحاً استطراداً أن تحديد الشيء فرعٌ عن تصوره. وليس دقيقاً انني أفكر فأكون ثم يكون الآخر، بل إنني والآخر متحاذيان ومتحايثان يصنع أحدنا الآخر في الوقت نفسه. وتكون المفارقة عندما يتجه الآخر للتحقق من دونك فلا تكون.
ان المشكلة اليوم ليس في أن المسلمين لا يملكون ثقافة سلام كما تزعم وسائل الاعلام العالمية16، بل المشكلة في نظام القوة الذي لا يشارك المسلمون فيه أو أنهم لم يشاركوا بفاعلية في صنعه، ويجدون أنفسهم موضوعاً له، أو هكذا يحسبون.
لقد كان مقرراً إقامة "المنتدى العالمي حول ثقافة السلام" قبل أشهر عدة، ثم فوجئنا جميعاً بالانتفاضة في فلسطين، فتأجل الانعقاد الى آخر شهر آذار. ولعل ذلك أن يوضّح ما أردت قوله بعد هذه الفذلكة الطويلة. فقبل أيام عدة صرّح رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد آرييل شارون، ربما للمرة الخمسين ان الفلسطينيين لا يدركون معنى السلام، وإنه لن يدخل في مفاوضات معهم حتى يُوقفوا أعمال العنف! يصرّح بذلك رئيس وزراء الكيان الاستيطاني الاستعماري، في مواجهة المستضعفين والمستعمَرين، من دون أن يرف له جفن، ومن دون أن يستنكر ذلك أحد من القوامين على نظام العالم وأمنه. ويحدث ذلك كله والفلسطينيون يحترقون بالمئات بنيران المستعمِرين، ويريدوننا أن نبحث عن ثقافة السلام في الإسلام، أما هم فليسوا موضع سؤال.
لكن: هل ينبغي الاستسلام للعنف العاجز الذي يقوم به من يسميهم الغربيون متشددين وإرهابيين؟ وكيف يمكن الخروج من عنف العجز من جهة، واستسلام اليأس من جهة ثانية؟!
قرأت قبل أيام كتاباً لسيدة مسيحية من أصل عربي في ما يبدو أسمها كريستين ملوحي عنوانه: Waging Peace on Islam,2000 تعرضُ فيه صوراً تاريخية من العلاقات بين المسلمين والمسيحيين واليهود يبدو فيها المسلمون الطرف الأقوى، لكن الأكثر تسامحاً وميلاً للسلم والموادعة والعلاقات الطيبة، بخلاف ما هو عليه الحال اليوم فيما ترى. والأمر نفسه سبق للروائي اللبناني الأصل أمين معلوف أن رآه في كتابه: الهويات القاتلة: فهل نكتفي بالاستسلام للغضب المشروع، لكن غير المجدي؟!
إن الواقع انها ثقافة مسيطرة، وهي التي تقرر ما هو سلام وما هو عدوان، ونحن نعاني من وعي مأزوم في مجالنا الحضاري بسبب تلك السيطرة بالذات، أو انها هي التي أرغمت على ذلك الوعي: يرضى القتيل وليس يرضى القاتل!
الحواشي:
1 أبو حنيفة: رسالة العالم والمتعلم، نشر محمد زاهد الكوثري، القاهرة 1368ه، ص9.
2 سورة النحل: 125: أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة....
3 سورة الأعراف/158: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا....
4 سورة الحجرات/13: يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...، وسورة هود/ 119: ولا يزالون مختلفين إلاّ مَنْ رحم ربُّك، ولذلك خَلَقَهم....
5 Guy Monnot, Islam et religions,1968، ورضوان السيد: التفكر الاسلامي في المسيحية، في: المسيحية والاسلام، مرايا متقابلة، مركز الدراسات المسيحية - الاسلامية، جامعة البلمند، 1998، ص ص 7 - 61، وللمؤلف نفسه: المسيحيون في الفقه الاسلامي، في: مفاهيم الجماعات في الاسلام، بيروت 1985، ص ص 115 - 140.
6 قارن بأحمد الريسوني: نظرية المقاصد عند الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، والمؤسسة الجامعية، بيروت 1981، ونور الدين بوثوري: مقاصد الشريعة، دار الطليعة ببيروت 2000.
7 كتاب أصول النِحلَ ومسائل في الإمامة. تحقيق ونشر يوسف فان إس. بيروت 1967، ص 49 - 50. وقد اختلف في كاتب النص هل هو الناشئ الأكبر أواخر القرن الثالث الهجري أو جعفر بن حرب أواخر القرن الثاني الهجري. وفي الميراث الكلامي الاسلامي توجهات توصف عادة بالشذوذ لوقوفها ضد فكرة الدولة، وهي تحتاج الى دراسة مستقلة، قارن بموجز عن ذلك في كتابي: الأمة والجماعة والسلطة، بيروت 1985، ص ص 166 - 171.
8 قارن برضوان السيد: أهل السنّة والجماعة، دراسة في التكوين العقدي والسياسي، في كتابي: الجماعة والمجتمع والدولة، بيروت 1997، ص ص 231 - 268.
9 مجيد خدوري: الحرب والسلم في شرعة الاسلام، الدار المتحدة للنشر ببيروت، 1971، وخدوري: القانون الدولي الاسلامي، كتاب السير للشيباني، بيروت 1975، وعبداللطيف حسني: التصور الإسلامي للعالم، بمجلة الاجتهاد، السنة الثالثة، عدد 12، 1991، ص ص 89 - 108.
10 عرضت هذه الحالات دوروتيا كرافولسكي في مقالتها بعنوان: نظرة في الحركية التاريخية لايديولوجيا الجهاد في الاسلام، بمجلة الاجتهاد، السنة الثالثة، عدد 12، 1991، ص ص 109 - 141. وقارن بمقالتي: ظهور دار الاسلام وزوالها، بمجلة الحياة الطيبة، العدد الرابع، السنة الثانية، عام 2000، ص ص 133 - 141.
11 ابن تيمية: السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية، نشر محمد المبارك، دمشق 1961، ص ص 33 - 38، وابن تيمية: رسالة الى السلطان الملك الناصر في شأن التتار. نشر صلاح الدين المنجد، بيروت 1968. وقارن بدوروتيا كرافولسكي: الاسلام والاصلاح، الوزير رشيد الدين والتجديد الاسلامي بإيران في القرن الرابع عشر الميلادي، بمجلة الاجتهاد، السنة الثانية، العدد 8، 1990، ص ص 118 - 155.
12 الطبري: اختلاف الفقهاء قطعة فيها كتاب الجهاد والجزية والمحاربين. نشرة جوزف شاخت، لايدن 1933، ص 1 - 2.
13 مخطوطة غير منشورة ضمن وثائق الندوة الاسلامية للحوار بين الحضارات، طهران، جمهورية ايران الاسلامية، 17 - 19 محرم 1420ه/ 3 - 5 أيار مايو 1999م.
14 مارشال هودجسون: تصور تاريخ العالم، مترجم بمجلة الاجتهاد، السنة السابعة، عدد 26 - 27، 1995، ص ص 19 - 60. وقارن بمقالة في العدد نفسه 26 - 27/ 1995 لريتشارد ايتون بعنوان: الحضارة الاسلامية والتاريخ العالمي، ص ص 183 - 215.
15 ابن تيمية: الرد على المنطقيين، نشر عبدالصمد شرف الدين الكتبي، نشرة بومباي، الهند 1949، ومحمد حسني زيدان: منطق ابن تيمية ومنهجه الفكري. المكتب الاسلامي ببيروت، 1979، ص ص 94 - 137 وقارن بوائل حلاق: Ibn Taymiyya Against the Greek Logicians,1993.
16 قارن بكتاب إدوارد سعيد الصادر مطلع الثمانينات بعنوان "تغطية الإسلام"، وكتاب شيرين هانتر الصادر عام 1998 بعنوان: The Future of Islam and the West: Clash of Civilizations or Peaceful Coexistence?. وقد صدرت دراسات مشابهة في مجادلة صور عدوانية الاسلام لدارسين عدة خلال التسعينات من مثل فرد هاليداي وأسبوزيتو وجون فول.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.