حين الحديث عن الصيغة الدينية للعنف نجد ان المنظومة الاسلامية تميزت بابتكار مصطلح فريد للتعبير عن ذلك العنف المشروع تحديداً، تمييزاً له عن أي صيغة سلبية اخرى تلتحق به، هذا المصطلح هو"الجهاد". فهو في حقيقته بمعناه الاصطلاحي القتالي يتصل بمفهوم العنف كالحرب تماماً مع الفوارق الاصطلاحية بين المفهومين، لكنه ليس ذلك العنف المجرد. فلا بد من ان ينظر اليه في سياق مركب، وليس على مستوى مفهومي مجرد فقط، بل في حقل تطبيقه واطار المنظومة الحاكمة، وفي حدود اهدافه العليا ووسائله المشروعة ايضاً. هذه الاعتبارات جميعاً اقتضت اجتراح مصطلح ديني خاص للتعبير عنها بلفظ "الجهاد" - من الجهد - الذي يحتوي على مكونات ايجابية تسم الفعل المشبع بالرمزية الدينية. في حين ان المعاجم العربية لا تزيد في تعريف العنف على التعريف السلبي، بكونه ضد الرفق اونقيضه حتى مع ابن فارس الذي اعتنى بتحديد اصول دلالات الجذر اللغوي باستقصاء استعمالاته ودوران تركيبة حروفه المفردة. والجهاد مفهوم يقابل - ولا يساوي - الحرب، وانما يأتي الخوف من الممارسات الفرعية - إنجاز التعبير - للجهاد، أي في حال نشأة جماعات متفرقة تحت مسمى الجهاد، وتوزع ممارساته في ظروف مختلفة عن تلك التي تنشأ زمن الحروب مثلاً. وهنا يلتبس مفهوم الجهاد - على معنى المقاومة - بمفهوم العنف والارهاب، كما في حركات التحرر الوطني. عادة ما تلجأ حركات العنف لاستعمال مصطلح"الجهاد"المشبع بالرمزية الدينية والمشروعية الاخلاقية لوصف افعالها، وهذا في الغالب لا يكون من باب التوظيف او الاستثمار الواعي، وانما ينشأ ذلك من الخلط بين الجهاد والعنف على المستوى المفهومي لاعتبارات مركبة ومعقدة تتداخل فيها الاعتبارات الفقهية الكلاسيكية مع البيئة الاجتماعية والسياسية، وعنوان الجهاد في هذه الحالة يوفر مشروعية ذاتية للجماعة تقنع بها نفسها بمشروعية تلك الافعال، ويوفر مشروعية اسلامية تبرر فعلها امام المسلمين. إن من غير الدقيق الاكتفاء بدرس ظاهرة العنف ومظاهر الخلط بينه وبين الجهاد، ضمن الاطار الفقهي - الفكري المعزول عن الواقع وطبيعة تركيبه اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً، داخلياً وخارجياً ايضاًً. صحيح يمكن الحديث عما يمكن تسميته فقه جماعات العنف، وانه يستند الى تراث فقهي، كما يمكن الحديث عن سمات عامة فيه لكن النظر الاحادي في اتجاه كون العنف ازمة فكرية، من شأنه ان يرضي المولعين بالقول: ان العنف السياسي اساسي وتكويني في"الاصولية الاسلامية"، كما يذهب الى ذلك جيل كيبيل مثلاً. اننا حين نحيل تشخيص الازمة الى ازمة فكرية - فقهية على مستوى الاسلام، فإن هذا الارث الفقهي للجميع من المسلمين، فلماذا يثمر لدى فئة محدودة دون جميعهم؟ ولماذا يثمر في ارض دون اخرى؟ ان ظواهر التسيس والعنف ليست خاصة بالاصولية الاسلامية، فالاصولية الهندوسية اليوم أشد عنفاً من الاسلاميين، كما انها تستخدم ذلك العنف من داخل مؤسسة الدولة ومن خارجها. وعلى رغم ذلك لا يمكن القول: ان التسيس او العنف تكوينيان فيها لأنه لم يعرف لها اهتمام سياسي قبل العقدين الاخيرين من السنين. ثمة سؤال آخر مشروع وضروري هنا وهو: لماذا لم يظهر هذا التيار او هذا الفقه العملي المتشخص افعالاً من قبل؟ ان ملامح فقه العنف أمكن رسمها بعد تشكله، لكن ما قبل التشكل يمكن الحديث عن ظروف وعوامل أدت الى خلق بيئة ملائمة ومؤاتية لاستثمار وفهم وانتاج فقه العنف من اجزاء مبعثرة من الارث الفقهي الكلاسيكي والاجتهادات المعاصرة، وتبني خيارات واقصاء اخرى موازية لها، وتتخلل عملية الانتاج تلك فجوات فكرية ومفهومية ومنهجية اثناء عملية البناء والتركيب المسندة الى القرآن والسنة والتراث الفقهي، حيث يستمد منها بعض مقولاته وأدلته التي توفر له الشرعية الدينية وتصله بلحظته الطهورية المنشودة، وتمده بالطاقة الرمزية التي تدفعه في اتجاه طلب"الشهادة"في مثل تلك الافعال الانتحارية وتقحّم تلك المخاطرات. فمثلاً، البوابة الكبرى للدخول في ساحة العنف بأشكاله هو الجهاد، وهو باب عظيم من ابواب الدين موجود منذ نشأة الاسلام وعبر التاريخ، ولم ينتج - تاريخياً في ما أعلم - مثل هذه الالتباسات والتعقيدات البالغة القسوة والتأثير. وحين ينشأ مثل ذلك يجب البحث في مكونات ذلك العنف على مستوى الفكر وملامح الفقه المتشكل، وعلى مستوى البيئة المخصبة له والدافعة باتجاه تبلوره ونشأته، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً ودينياً. لنأخذ ? مثلاً ? مفهوم"دار الكفر"وهو احد المفردات"الفقهية"لباب الجهاد الواسع، التي استثمرها تنظيم"الجهاد الاسلامي"في مصر سنة 1976، هلى نحو استراتيجي، من خلال الحديث عن انقلاب دار الاسلام الى دار الكفر، انطلاقاً من فكرة سيد قطب - رحمه الله - عن"الجاهلية"المعاصرة، التي كانت قنطرة نحو تكفير المجتمعات المسلمة في ما بعد، علماً أن اول تكفير للمجتمعات على اساس قبولها أو سكوتها عن تطبيق القانون الوضعي كان من رئيس المشيخة العثمانية مصطفى صبري رحمه الله، الا انه لم يتم استثمار حركات الاسلام السياسي المسلحة لموقف صبري، وانما لسيد قطب، وهذا له دلالاته المهمة هنا، منها الصراع مع الانظمة كان البيئة المؤاتية لتشكل تلك الافكار، وليس مجرد استنباط وتخريج على اصول الفقهاء. ومنها ايضاً الحديث عن انقلاب دار الاسلام الى دار كفر مع التداخل الفقهي بين دار الحرب ودارالكفر لاسباب تاريخية جرّ الى تحول الجهاد ضد الداخل قبل توجهه الى الخارج في اجتهادات هذا التنظيم وغيره على واقع معاصر. ومفهوم"الحاكمية"، الذي تحول مع سيد قطب الى قرين شهادة التوحيد"لا اله الا الله"واحد مقتضياتها كان صاغه ابو الاعلى المودودي - رحمه الله - في سياق صراع الهنود المسلمين لانشاء كيان سياسي خاص في باكستان. ظروف الخمسينات والستينات من بعد، والاوضاع التي خضعت لها تجربة سيد قطب الفكرية وملكاته الوجدانية والعقلية كل ذلك اجتمع ليخرج من يراع هذا الرجل جوهر الفكرة الاساسية التي تقوم عليها كتائب صدام. وبين مفهومي الجاهلية المعاصرة ودار الكفر تردى مفهوم الجهاد ليصبح مجاهدة للعالم وللانظمة الكافرة في المجتمعات المسلمة، ومن ثم تحول عموم المسلمين الذين رضوا بها وخضعوا لها الى محط للدعوة واعادة الاسلمة لانهم لم يحققوا مقتضى شهادة التوحيد. لقد قامت مشروعية عملية 11 أيلول سبتمبر 2001 على اساس ان اميركا"دار حرب"، وقد قال اسامة بن لادن في بيانه الاول:"ان هذا الحدث قد قسم العالم الى فسطاطين"، يقصد: دار حرب ودار اسلام، علما أن هذا التقسيم موجود منذ القرون الهجرية الاولى، وأنتجته ظروف تاريخية لم تعد موجودة لاحقاً، كما يرى عدد من الفقهاء والباحثين المعاصرين. ومع ذلك اكتسبت حادثة 11 ايلول هذا التقسيم الفقهي التاريخي للعالم اهمية مثيرة، وشكل استثماره - مع القاعدة - كارثة كبرى! تفسير الظاهرة يكمن في تحليل مركب، على مستوى الفكر الاسلامي، وفي سياق تفاعله مع التحولات العالمية، ومن التبسيط المخل قصرها على مجرد فئة ضالة انحرفت، او ظاهرة اسلامية ايديولوجية مع تجاهل حركة العالم، والنظام السياسي الداخلي وتفاعلاته ايضاً، بمعنى ان العنف المسلح هذا انما ظهر في ظل"الدولة"القطرية، وعلاقتها بالداخل المجتمعي وبالخارج الغربي، وموقفها من الدين وحركته ودوره في حياة المجتمع وسلوكياتها تجاه اهدافه العليا. وهكذا تتم قراءة نشوء مفهوم الجهاد ضد الداخل اولاً، ثم تحول الاستراتيجية الى الجهاد ضد العالم تحت عنوان"الجهاد ضد الصليبيين واليهود"لاحقاً. بهذا المعنى يمكن الاتفاق - في وجه من الوجوه - مع اوليفييه روا في اعتبار تنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة به يشكلان تمظهراً للحركة العالمية المناهضة للعولمة تحت عنوان"الارهاب الديني". وهو يقول:"ان النظم العلمانية الشمولية في العالم الاسلامي هي التي فرخت الشباب الذين قاموا بعمليات في جاكرتا في اندونيسيا وفي الدار البيضاء المغربية ومومباسا الكينية والرياض السعودية وجربة التونسية". صحيح انه لا يمكن الحديث عن وعي كاف بالعولمة وحركة الفكر العالمي لدى القاعدة وغيرها من حركات العنف المسلح، لكن الحس الديني العالي لدى هؤلاء، وتكوينهم النفسي والفقهي الخاص، وظواهر الحداثة الملموسة عملياً: أشعرت الجميع بأنهم مهددون في وجودهم وفي دينهم، وانهم لا بد من ان يقوموا بدورهم للالتزام بما يمليه عليهم اعتقادهم بناء على"تصورهم"للمشكلة والحل. وفي ظل هذا القهر والقمع نشأ العنف المسلح في الدولة القطرية، وهذا العنف اخذ في كثير من الاحيان عنوان"الجهاد"، سواء ضد الداخل ام الخارج لأن العنف لا بد له من رصيد يغذيه ويرمزه من دين او ارث وطني، فالتبست ممارسات العنف بالجهاد، واختلطت المفاهيم بناء على اجتهادات تلك التنظيمات الحادثة، وتطبيقاتها على الواقع المعاصر المختلف كلياً عن واقع بلورة فقه الجهاد كما هو مدون في الفقه الاسلامي، مع زوال دولة الخلافة الاسلامية التي كانت تجمع شمل المسلمين وتحفظ لهم كيانهم ووجودهم وتصون حقوقهم وتطبق شريعتهم. التحول التاريخي المشار اليه، ادى الى عدد من الاشكالات في استعارة المفاهيم الفقهية وتكييفها واقعياً، فتم استحضار مفاهيم، وانتزاع تصورات تراثية من اطارها الكلي القديم لتطبيقها على سياق تاريخي مختلف كلياً. واذا كان العنف ينتج عن جدل الفكر وحركة الواقع معاً، فلا يمكن الحديث عن عنف مجرم بالمطلق هكذا، كما انه لا يمكن الاكتفاء بوصف فعل ما بكونه عنيفاً لتجريمه، اذ من الضروري السؤال لماذا يظهر هذا العنف؟ ولماذا ينمو في مكان وزمان ويخبو في مكان وزمان آخرين؟ فالعنف ليس جوهراً ثابتاً، كما انه ليس مجرَّماً دائماً، فقد سبق القول: ان الجهاد بمعناه الاصطلاحي يحتوي على ممارسة لون ما من العنف، والحرب كذلك هي عنف عمومي من قتل ودمار، وانما يخضع الموقف منه الى اعتبارات مركبة وضوابط يجب ان تكون واضحة، شاع التعبير عنها حالياً ب"التفريق بين المقاومة والارهاب، ومن ثم تبدو"عقيدة"اللاعنف المباشر في مواجهة العدوان والاحتلال غير واقعية في اطلاقيتها بصفتها"عقيدة". لكن المعضلة مع العنف تكون حينما ينفصل عن مفهوم"الجهاد"بالمعنى الديني، او عن مفهوم"المقاومة"بالمعنى القانوني والوطني. فالمشكلة مع العنف الذي تمارسه الجماعات المنسوبة الى الاسلام انها تسعى الى شرعنته بزجّه تحت مفهوم"الجهاد"، والمشكلة مع الاطراف الدولية بقيادة أميركا انها تسعى الى تجريم كل فعل يناهض مصالحها وتحالفاتها بما فيه المقاومة الفلسطينية وتشرعن ذلك التجريم بزجّه تحت مفهوم"الارهاب"المرن وغير المحدد. ان العنف احد اساليب الصراع السياسي حيث لا تجدي اساليب العمل السلمي لاستخلاص حق مفترى عليه، لكن مرحلة الصراعات هذه من اشد الامور اعضالاً على المستوى الاخلاقي، لأنه تدخل فيها اعتبارات خارجة عن اعتبارات الوضوح الاخلاقي، ولا يمكن الوثوق فيها بأخلاقيات مطلقة لفكرة حقوق الانسان، وقد رأينا جميعاً في العراق ممارسات كل من الجنود الأميركيين وجماعات منسوبة للاسلام، وخصوصاً ما نسب للزرقاوي من ذبح المواطن الاميركي بيرج مثلاً! فدوامة"الرد"والمعاملة بالمثل، و"الاستثناء"الظرفي، وغيرها من الحجج من شأنها ان تزيد الامور تعقيداً. ما يعنينا هنا - على مستوى المفاهيم - هو الفصل والوصل بين العنف المجرّم والجهاد الذي يختلط به كثيراً. الا ان هذا الفصل لا أطمح ان أقوم به أنا، لأن الوصل والالتباس بين العنف والجهاد، سيبقى قائماً في ظل الصراع والاحباطات القائمة، وفي ظل فشل مشروع الدولة والتعقيدات التي احاطت بتطبيق مفهوم الجهاد في ظلها. مع الاعتراف بأن جزءاً من المشكلة قائم لدى فئة من الناس تريد ان تعيد رسم العالم على صورة المجتمع الاسلامي الاول في المدينة، وتعتبر الجهاد الوسيلة لتحقيق ذلك، فمشكلة هذه الفئة في تصوراتها وافكارها. مع ذلك يمكن تحديد فوارق جوهرية تفصل بين العنف والجهاد، فقضايا"الجهاد"تتعلق بالشأن العام وتجمع الديني الى السياسي، وتتطلب معالجة مركبة، ولها بابها الواسع في الشريعة الاسلامية، وليست رهينة تصرفات فردية لافراد او تنظيمات، خصوصاً حينما يطاول الأمر الدماء والشأن العام للاسلام والمسلمين، ومن هنا يجب التفريق بين الفتاوى الفردية و"فتاوى الأمة" التي هي "حالة تحرك عموم الامة". الجهاد يتميز بوضوح هدفه، ووضوح وسائله، والتزامه بأحكام الشرع، ومكارم الاخلاق التي جاء بها الاسلام: قبل القتال، وأثناء القتال، وبعد القتال. وممارسته تبقى محصورة في محدِّدات الاهداف والغايات التي تكمن في الاجابة عن سؤال "لماذا...؟"، والتي تأخذ شكل مطالب قبل او اثناء او بعد القتال. واجماع المسلمين على ان"الجهاد"هو في"سبيل الله"، ولإعلاء كلمته. وينحصر في هدف واضح ومحدد - في حالة الدفاعي - هو لحفظ الكليات الخمس. وحتى في حالة الهجومي - مع القائلين به - فالهدف هو"الدعوة"الى الدين / الاسلام، وبسط سلطانه على الناس يمكن التعبير عنه بهيمنة الاسلام كنظام لا كعقيدة، ومن هنا لم يكن الهدف"الاضرار"او التشفي جمهور الفقهاء متفق على ان مجاهدة العدو لأجل كونه محارباً، ولم يكن الهدف إعمال القتل في العدو يجب ايقاف الجهاد عند الفقهاء في حالة اسلام العدو او استسلامه، لأن الهدف دفعه عن حرمات المسلمين في حالة الدفاعي، واصلاحه لا الغاؤه، وإجباره على ممارسة التسامح لا إفناؤه في حالة الهجومي. اما العنف - كما يقوم به بعض الجماعات التي تنسب الى الاسلام - فينقصه الوضوح في الرؤية، وقصور الاهداف، وخطأ الوسائل، ومخالفة الضوابط الشرعية، وهو اجتهاد افراد او جماعات معزولة عن المجتمع تخالف جمهور الأمة وفي قضايا الأمة وليس الافراد، ثم هذه الجماعات لا تمثل الامة، بل كثيراً ما تشكل قطيعة معها، ويتخذ بعضها موقف المفاصلة معها، وتصل الى حد التكفير او التهاون في صيانة دمائها لا مصالحها فقط حينما يتحول الجهاد الى الانظمة، وتكفير كل راضٍ غير منكر لها. * كاتب سوري مقيم في قطر.