فرادة القضية الفلسطينية، من حيث هي عملية اقتلاع شعب من أرضه واحلال آخرين ما زالوا يبحثون عن هوية جامعة وحدود جغرافية"غيتوية"ذات طبيعة عنصرية، مكانه، تنسحب اليوم على النظام السياسي الفلسطيني الذي وجد نفسه بعد أربعة عقود من الكفاح المسلح والسياسي والديبلوماسي، في أتون أزمة مركبة تطفو على سطحها ثلاثة رؤوس قيادية: منظمة التحرير الفلسطينية التي ما زالت تعتبر الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني بمقتضى الميثاق الوطني، والقانون الأساسي للسلطة الذي ينظر اليه كدستور موقت، وبمقتضى الاعتراف العربي والإسلامي والدولي، ورئيس المنظمة والسلطة محمود عباس الذي عمقت صلاحياته الواسعة والمتداخلة أزمة المنظمة والسلطة معاً، وحكومة"حماس"التي أنجبتها أغلبية انتخبت من قبل جزء من الشعب الفلسطيني على جزء من الأرض، وببرنامج يتعارض مع برنامج الممثل الشرعي لكل الشعب. المشكلة الأساسية في أطراف هذا المثلث الذي تظلله حال من العنصرية الإسرائيلية الشرسة أفرزتها انتخابات الكنيست ال17 تحت عباءة الظروف الاقليمية والدولية المؤهلة لوضع حد حاسم ونهائي للقضية الفلسطينية، وترجيح بروز تكتل سياسي يندفع بقوة نحو تنفيذ خطة ارييل شارون الخاصة برسم"الحدود النهائية"لإسرائيل، هي أن كلا منها يزعم امتلاك الشرعية التي تتيح له الإمساك بمفاصل القرار السياسي الفلسطيني الذي ينوس بين أجندات تحوم حولها شبهة الاختلاف، فالمنظمة التي تعرضت مؤسساتها لوأد مبرمج منذ زمن طويل، وبالأخص منذ اتفاق أوسلو الذي وقّع باسمها، لمصلحة السلطة، تمتلك شرعية قانونية نص عليها الميثاق الوطني، وشرعية وطنية كونها الإطار الذي تنتظم في عقده التعبيرات السياسية والنقابية والشعبية الفلسطينية في الوطن والشتات، ناهيك عمّا نص عليه النظام الاساسي للسلطة من أن منظمة التحرير هي مرجعية هذه السلطة، وأي مساس في هذا الإطار الوحدوي الجامع، وبصرف النظر عن أمراض مؤسساته المستعصية، لا يعني سوى إعمال المبضع في وحدة الشعب الفلسطيني، وتكريس واقع الانفصال الجغرافي والتشتت الديموغرافي، وتالياً، تسهيل مهمة الإسرائيلي في تنفيذ مخططات الفصل و"ضمان استمرار إسرائيل كدولة يهودية ذات غالبية يهودية واضحة"، كما يقول زعيم"كديما"ايهود أولمرت، وفبركة حلول"موضعية"للكتل البشرية الفلسطينية في أماكن وجودها وإقامتها. في الزاوية الثانية من مثلث"إشكالية"الشرعية والصلاحيات، يقف رئيس السلطة والمنظمة محمود عباس الذي، وإن كان انتخب بطريقة ديموقراطية لا غبار عليها لرئاسة السلطة، فإن طريقة اختياره رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ما زالت تثير جملة من الأسئلة والشكوك حول قانونيتها وشرعيتها، لا سيما وأن هذه اللجنة، كانت ولا تزال، تفتقد النصاب القانوني بغياب ثلث أعضائها 7 من أصل 18، فضلاً عن أن مؤسسات المنظمة برمتها هي في حكم الميتة أو المشلولة نتيجة اقصائها بشكل شبه كامل عن دائرة صنع القرار منذ إحالة معظم صلاحياتها للسلطة بحكم الأمر الواقع. ويتحمل أبو بمازن مسؤولية أساسية ومباشرة في هذا السياق، ليس فقط لأنه كان أبرز الرموز التي تم عبرها الالتفاف على برنامج المنظمة وقراراتها منذ اتصالاته بالإسرائيليين في سبعينات القرن الماضي وقيادته مفاوضات أوسلو السرية من خلف ظهر المنظمة والفريق المفاوض برئاسة حيدر عبد الشافي، وإنما كذلك بسبب الجهود المكثفة التي بذلها، وفريقه في مؤسسة الرئاسة، منذ انتخابه لتحويل ما تبقى من مؤسسات المنظمة الى عهدة السلطة: مسؤولية السفارات الفلسطينية في الخارج التي نقلت الى وزارة الخارجية، ومسؤوليات الصندوق القومي التي حوّلت الى وزارة المال، و"تجميد"عمل دائرة اللاجئين التي تهتم بشؤون لاجئي 1948 من خلال التغاضي عن إقامة رئيس الدائرة زكريا الآغا وهو عضو في قيادة"فتح"أيضاً في رام الله على رغم أن مقرها الرسمي في تونس. وتبقى، في الزاوية الثالثة، حكومة"حماس"التي نالت ثقة المجلس التشريعي بغالبية 71 صوتاً من دون اعتراف واضح بمرجعية منظمة التحرير بذريعة أن المنظمة، التي كان الراحل ياسر عرفات يتعاطى معها بطريقة"استعمالية"، في حال موات بعد أن جرى تعديل ميثاقها الوطني وشطبه لاحقاً، وتلاشي دور مؤسساتها، وأن ما يحكم العلاقة بالمنظمة هو ما جرى الاتفاق عليه في القاهرة يوم 15/3/2005 بمشاركة رئيس السلطة محمود عباس وحضور اثني عشر تنظيماً وفصيلاً، أي"تفعيل المنظمة وتطويرها وفق أسس يتم التراضي عليها، بحيث تضم كل القوى والفصائل الفلسطينية، بصفة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني". ولكن قبل أي حديث، أو حتى اشارة الى الأسس التي ينبغي تفعيل المنظمة وتطويرها على أساسها، أوجدت"حماس"، عبر برنامجها الحكومي الذي رفضت كل الكتل البرلمانية قبوله على حاله، مساحة عازلة بين الحكومة والمرجعية السياسية المعتمدة منذ عقود، ما يشكل، وبصرف النظر عن بؤس تجربة العقود الماضية وخطاياها، سابقة في ازدواجية السلطة التي حسمها الراحل عرفات مبكراً عندما خاض معركة سياسية قاسية في نهاية ستينات القرن الماضي، أسفر عنها امساك فصائل المقاومة الفلسطينية بزمام منظمة التحرير. الاسئلة البدهية في هذه الحال تدور حول التالي: ما المشكلة في ذلك ما دامت"حماس"تسلّم بحق المنظمة، بعد تفعيلها وتطويرها، في تمثيل الشعب الفلسطيني، وهو ذات المطلب الذي تنادي به كل الفصائل الفلسطينية، وتسلّم، في الوقت عينه، بحق رئاسة السلطة والمنظمة تالياً في إدارة مفاوضات سياسية مع إسرائيل شرط عرض ما يتم التوصل اليه على الاستفتاء الشعبي؟ وهل ثمة ما يمنع اجتراح نمط جديد من توزيع الأدوار فيالعلاقة مع الاحتلال على غرار تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان، لا سيما أن"حماس"تجاوزت الحديث، عملياً، عن اعتبار أرض فلسطين وقفاً إسلامياً لا يجوز المساومة عليه، وانتقلت الى فضاء براغماتي جديد عنوانه: إقامة الدولة الفلسطينية بحدود حزيران يونيو 1967، والقبول بالهدنة التي لا تعني الاعتراف أو السلام الأبدي، والانتقال من تحريم التفاوض مع إسرائيل الى تبني مقولة"لا حرمة شرعية بالتفاوض"، كون ذلك لا يتعارض مع الدين الإسلامي الذي يؤكد أن"الضرورات تبيح المحظورات"ويجيز السكوت عن المنكر إذا ترتب عليه منكر أكبر، والتركيز، في ضوء ذلك كله، على ترتيب البيت الداخلي والاصلاح الإداري ومعالجة الأمور الاجتماعية والاقتصادية؟ المشكلة الحقيقية في ما سبق ذكره، هي أن"حماس"التي تقيم حكومة ينبغي أن تكون ممثلة لكل أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، تقف، بهذه الصفة، خارج مظلة"الاجماع الوطني"التي شكلت قاسماً سياسياً ودستورياً مشتركاً للفلسطينيين طوال العقود الماضية، وحمت قضيتهم من الضياع والتفتت والوصاية الخارجية، ولا يمكن فهم الإصرار على التفعيل والتطوير وفق أسس متفق عليها قبل الاعتراف بشرعية المنظمة، إلا باعتباره"انقلاباً"على القواعد والأسس التي قامت عليها هذه الحاضنة الوطنية التي تتيح، وبخلاف التعبيرات السياسية الايديولوجية العقائدية، التنوع والتعددية في إطارها، وبالتالي فإن الذرائع التي تشهر في وجه الفصائل والقوى الوطنية حول عدم صلاحية المنظمة، في صيغتها الراهنة، لتمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، هي حجة على"حماس"وليس لها، حيث المنطقي والطبيعي أن يشكل وجود"حماس"في صلب النظام السياسي فرصة ثمينة لإصلاح أوضاع المنظمة وإعادة بناء مؤسساتها وفق قواسم سياسية ووطنية وتنظيمية مشتركة، لا أن يتم وضع العصي في دواليبها، خصوصاً أن"حماس"المحاصرة بالضغوط الداخلية والخارجية، الساعية الى افشال تجربتها في الحكم، هي المستفيد الأكبر من إعادة احياء المنظمة التي يمكنها أن تشكل مخرجاً موضوعياً للأزمة، وحاضنة دستورية لا غنى عنها لإفشال مختلف أنواع الانقلابات التي تطل برأسها عبر التصعيد السياسي والعسكري الإسرائيلي، والفلتان الأمني شبه المبرمج، والحصار السياسي والمالي والديبلوماسي المرجح أن يتواصل إلى أمد غير منظور. * كاتب فلسطيني.