24 مليون مشاهدة تجسد تأثير كريستيانو رونالدو    جون دوران يدخل تاريخ النصر    ورشة التوعية برؤية واستراتيجية وزارة الموارد البشرية بالمدينة    جالينو يُخرج فيرمينو من قائمة الأهلي المحلية    الهلال يُحافظ على سالم الدوسري    على كأس خادم الحرمين الشريفين سباقات القدرة والتحمل العالمي في العُلا    انطلاق بطولة VEX IQ لصُنّاع المستقبل في تصميم وبرمجة الروبوتات    ترودو يدعو إلى أخذ تهديد ترامب بضم كندا على «محمل الجد»    "الأونروا" تؤكد تعرض سكان غزة لعملية تهجير ممنهجة    إيمري يتطلع للتحدي الضخم بإعادة ماركوس راشفورد لمستواه    جوجل تضيف علامات مائية خفية للصور للكشف عن التعديلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي    فعالية "حكاية شتاء" تجمع أكثر من 14,000 زائر في قاعة مكة الكبرى    الوحدة يُعلن عن تعرض أنظمة الشركة المشغلة لمتجر النادي ل «الاختراق»    الأهلي يتغلّب على الفتح بثنائية "توني" في دوري روشن للمحترفين    جامعة أمِّ القُرى تستضيف الاجتماع التَّشاوري الثَّامن لرؤساء الجامعات    إنجاز أكثر من 80% من مشروع الطريق الدائري الأوسط في الطائف    بدء تسجيل رغبات الحج للمواطنين والمقيمين لموسم هذا العام.. إلكترونياً    الفيفا: الإنفاق في الميركاتو الشتوي قياسي        فريق الوعي الصحي بجازان يشارك بمبادرة "سمعناكم" لذوي الإعاقة السمعية    ضبط شخص في جازان لتهريبه (60) كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    «سلمان للإغاثة» يوزع 492 سلة غذائية في منطقة بإقليم خيبر بختون خوا في باكستان    مصرع شخصين في تحطم طائرة صغيرة في «البرازيل»    «تعليم الرياض» يحصد 39 جائزة في «إبداع 2025»    تتويج السعودي آل جميان بلقب فارس المنكوس    درجات الحرارة الصفرية تؤدي لتجمد المياه في الأماكن المفتوحة بتبوك    وزير الصناعة يختتم زيارة رسمية إلى الهند    أمير القصيم يهنئ تجمع القصيم الصحي بفوزه بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية 2025    اتصالات «مصرية - عربية» لتوحيد المواقف بشأن مخطط التهجير    خطيب الحرم المكي: كل من أعجب بقوته من الخلق واعتمد عليها خسر وهلك    "احمِ قلبك" تنطلق لتعزيز الوعي الصحي والتكفل بعلاج المرضى غير المقتدرين    نددت بالعقوبات الأمريكية.. «الجنائية الدولية» تتعهد بمواصلة إحقاق العدالة    خطبة المسجد النبوي: من رام في الدنيا حياةً خالية من الهموم والأكدار فقد رام محالًا    مفتي عام المملكة ونائبه يتسلمان التقرير السنوي لنشاط العلاقات العامة والإعلام لعام 2024    النمر العربي.. مفترس نادر يواجه خطر الانقراض    السجن 45 ألف عام لمحتال «بنك المزرعة»    مجمع الملك سلمان لصناعة السيارات.. الحلم تحول إلى واقع    العُلا.. متحف الأرض المفتوح وسِجل الزمن الصخري    ملامح الزمن في ريشة زيدان: رحلة فنية عبر الماضي والحاضر والمستقبل    «الشورى» يوافق على 5 مذكرات تفاهم مع دول شقيقة وصديقة    «حصوة وكرة غولف» في بطنك !    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    ما العلاقة بين لقاحات كورونا وصحة القلب ؟    أضرار الأشعة فوق البنفسجية من النافذة    لصوص النت.. مجرمون بلا أقنعة    الأردن: إخلاء 68 شخصاً حاصرهم الغبار في «معان»    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    دور وزارة الثقافة في وطن اقرأ    كيف كنا وكيف أصبحنا    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    ثبات محمد بن سلمان    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    لبلب شبهها ب «جعفر العمدة».. امرأة تقاضي زوجها    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهادات في رحيل محمد الماغوط
نشر في الحياة يوم 04 - 04 - 2009

هذه القامة، واسمها محمد الماغوط، ليست في حاجة الى شهادة من أحد لأن أعماله الأدبية، تعلمت منها ومن خلال رفقتي الطويلة من عمري وعمره، كيف يكون عشق الوطن. هذه الاعمال كتبها بنبض قلبه وبعشق الوطن والحرية.
دريد لحام
لا أحد مثله يستطيع ان يحكي عن موته، وان يعلق على كونه غادر هذا العالم. اذا كان هو فعل لكان أحلى وأجمل، ولكانت أخذته الابتسامة والمرارة قبل الدمعة، ولكانت الدهشة هي الأقرب الى أي انفعال آخر. وهي الدهشة التي ملأته واحتواها نتاجه الشعري والمسرحي، وأرسلها مرنانة منهكة وجارحة الى العالم العربي، وكان سابقاً أرسلها الينا ونحن في مجلة"شعر"وانتقلنا معه بها الى حالة طرب لا يجيدها إلا هو.
مضى بجسده الذي خانه وأما نتاجه فشجرة لا أحد يستطيع ان يقطعها، وأما اليباس فلن يأتي عليها، وإنني لأراها خضراء ووارفة الظلال، ومحمد يغرّد فوقها ويقود الاوركسترا كما يشاء.
شوقي أبي شقرا
كان الصديق العزيز المرحوم محمد الماغوط عبقرية شعرية ونثرية ومسرحية. وكان على درجة كبيرة من الأنفة، وقد طلبت منذ يوم أن يأذن بترشيحه لجائزة"العويس"فرفض قائلاً:"هم يعرفون من أنا". وقبل مماته الذي أحزنني وأبكاني نال هذه الجائزة، وهي أقل بكثير من قيمة هذا العبقري الذي فقدناه. الرحمة الواسعة للصديق العزيز الذي فقدناه... وفقده الوطن العربي كله والعالم أيضاً.
إن هذه العبقرية من النادر أن تكون محدودة بزمن معين فهي تمتد على مدى قرون طوال، وقد شاء الحظ أن نفقد شاعراً كبيراً كان نثره شعراً... هو المرحوم الشاعر نزار قباني. واليوم نفقد شاعراً آخر. ومع أن سورية كانت قديماً وحديثاً منجماً ابداعياً إلا ان العبقريات لا تأتي دورياً.
رحم الله محمد الماغوط والعزاء لعائلته ووطنه ولشعبه ولأمته العربية.
حنا مينه
محمد الماغوط واحد من أعمدة الحداثة الشعرية العربية وهو الأب الحقيقي لقصيدة النثر بموهبته المتفجرة التي لفتت الأنظار الى تلك القصيدة لقد كانت كتابته لها بعد هزيمة 1967 ابلغ الأثر للتعبير عن مشاعر الغضب التي اجتاحت الأمة العربية من المحيط الى الخليج وظلت قصائده رايات للتمرد على الهزيمة وكل شروط الضرورة التي صيغت لتزويرها، محمد الماغوط نسيج فريد من نواح كثيرة على المستوى الإيقاعي صاغ قصيدة النثر بإيقاعها الخاص التي وضعها في موازاة قصيدة التفعيلة وكان لقدرته على بناء الإيقاع بما يتكامل مع لغته وصوره الجريئة الجسورة كان أول من أسس شعرية النثر في القصيدة العربية ومهما وصلت قصيدة النثر الآن الى حدود بعد ان صارت موضة لدى الشعراء من الجيل الجديد، فإن إنجازاته تظل تؤكد على العبقرية الإبداعية التي تثبِّت ريادته التي حولت قصيدة النثر الى وعي طبيعي في الخيال العربي ذلك الخيال الذي طالما رفض الاعتراف بها.
جابر عصفور
محمد الماغوط في نظري افضل شاعر عربي كتب قصيدة النثر حتى الآن خصوصاً في مجموعته الاولى، واستطاع ان يقنعنا بأن هذا الشكل له شرعية تبرر كتابته وقراءته. لم يكن في قصيدته مدفوعاً بتجريب شكل سبقه اليه الشعراء الغربيون كما نجد الكثيرين ممن كتبوا قصيدة النثر انما كتب ما رأى انه يحتاج لكتابته ووجد شكلاً ربما على نحو عفوي استطاع ان يقول فيه ما يتمنى أي شاعر حقيقي ان يقوله في القصيدة الموزونة ويستطيع، انه تفوق على كثيرين ممن كتبوا هذه القصيدة كان بسيطاً يقدر ما كان عميقاً وصادقاً اعتقد انه لم يكتب الشعر قاصداً، انما كتب كما أحب أن تكون ولا استطيع ان اتحدث عنه كشاعر فقط لكنه كإنسان تعذب في سنوات اقامته في لبنان وكذلك في وطنه سورية، لكن مصير الماغوط الذي عرفه كان مصير معظم المثقفين العرب.
أحمد عبد المعطي حجازي
كنا في مطلع العمر الشعري والحياتي نجتاز الارصفة والشوارع بين شتى العواصم العربية وغير العربية، مسكونين بأطياف الانقلابات والتمردات على كل الاصعدة، وكان طبق محمد الماغوط الشعري هو الاقرب الى ذلك التسكع الحالم والفجر والضيق من العالم السائد.
كان ? رحمه الله ? الاقرب الى شعر الحياة اليومية، ببساطته التركيبية الصافية والملثاثة بالهموم الصغيرة التي تنفجر من بؤرتها الهموم الكبرى، في سياق من التشظي يبتكر جماله الخاص.
كان الاقرب الى خيالنا وذاكرتنا الشعرية وبمحيط الواقع العربي والاحلام المجهضة، بنبرته التهكمية ورؤيته السوداء، يوم كان الكثير من الشعراء الرواد، يحملون نوعاً من نبرة نبوءاتية مبشرين بالمستقبل الذي يمكن ان يكون قريباً.
كان الماغوط الى جانب خليل حاوي، كل في طريقته التعبيرية، الاكثر حدساً بما سيؤدي اليه الوضع العربي والانساني من تدهور وانجراف الى اقاصي الهاوية والعذاب.
كان نبوءة الكارثة، الماغوط حمل الحياة الى الشعر، كما حمل الشعر الى الحياة من غير مسبقات معرفية ذات شأن ثقيل، فكانت تلك الدراما الحزينة لاطوار الكائن وهو يتلاشى في مهب الاضمحلال.
سيف الرحبي
كلنا ميتون بلا ريب ومع ذلك يبقى الموت خبراً رهيباً وبخاصة حين يأتي يحمل معه نبأ أكبر عدو للموت... محمد الماغوط.
سبحان الله يا محمد الماغوط، لقد كنت تسخر دوماً من الذين يخافون الموت، لأن امتلاءك الكبير بالحياة لم يكن يفهمه الكثيرون. وها أنت تفاجئني بهذه الصدفة، فلا أصدق ان محمد الماغوط يموت بهذه البساطة.
يا إلهي ماذا أصنع مع هؤلاء الراحلين... مع هؤلاء الراحلين الاعزاء، كيف أوقف الموت عند حده ولو بأيام كي اعرف كيف احتفل بحزني عليهم.
الى لقاء قريب يا محمد... الى لقاء قريب يا محمد.
شوقي بغدادي
لأعترف: لم يصعقني خبر موت الماغوط كما يزعم المنافقون عادة، لأنني كنت أؤمن على الدوام ان الشعراء ? اذ يستعيضون عن حياتهم بالحبر ? لا يفعلون شيئاً غير كتابة الشعر وحياكة قميص الموت.
ولأعترف: لم يفاجئني الخبر ايضاً. ذلك انني، قبل اسبوعين لا اكثر، كنت في زيارته.
كان كالعادة يشرب ويدخن. فيما كان ابن اخته وحارسه"محمد"يشكو من ان الخال، على رغم تدهور صحته، لا يتوقف عن الشراب والتدخين. قلت للشاب: حسناً يفعل، عليه ألا يتوقف عن شيء، اذ ليس من اللائق برجل مثل الماغوط ان يواجه الموت بجثة خاوية، بل عليه، قدر ما يستطيع ان يكون مملوءاً بالحياة التي التهمها.. وأجاد التهامها.
وأبداً، لم أشعر وأنا اتلقى خبر رحيله حتى بالحزن ولم يخطر لي حتى ان اقول: وا أسفاه!.. أو حتى"رحمة الله عليه"... ذلك لأن شيئاً لن يتغير بالنسبة اليّ، سواء مات الماغوط الآن أو بقي على قيد الحياة مئة سنة اضافية اخرى. ما أحببته فيه سيبقى:"شعره"وبالتالي سأظل قادراً على اشباع غرامي بقراءة شعره.. سواء كنت مضطجعاً على أريكة منزله في"المزرعة"أو ممدداً تحت بلاطة قبر هناك في بلدته السلمية.
ما أحزنني حقيقة أن ثمة وعداً صغيراً لم استطع الوفاء به، كنت أخبرته انني ذاهب الى مرمريتا قال: اذاً لا تنسَ، احضر لي من هناك بضعة اقراص من الشنكليش.
لم أقل له ان احداً في مرمريتا لم يعد يربي البهائم ذات الضروع. ولكنني طمأنته: لا تقلق، حال وصولي الى مرمريتا سأبحث عن أول امرأة مرضع لأصنع لك الشنكليش من حليبها. وكانت تلك آخر نكتة.
بعدها لم أذهب الى مرمريتا للبحث عن النساء المرضعات ولا عدت الى الماغوط لأوفي"نذر الشنكليش"أو لاعتذر عن تأخر ربيع الرعيان. طبعاً، ولا هو اتصل ليسأل لعله نسي ما اوصاني به، حال مغادرتي بيته.
مات الماغوط؟! وان يكن.
الأهم انه عاش جيداً: عاش كثيراً وعميقاً.
نزيه أبو عفش
ثمة شيء يصعب تصديقه في موت الماغوط. فهذا الذي حول الحياة الى قلعة محصنة من العناد والبسالة لم يترك للموت فسحة للتسلل او ثغرة للمباغتة. لم يكن الموت ابداً في حسبان ذلك الشاعر الذي خلخل مفاهيم البلاغة السائدة وفتح أمام القصيدة العربية أفقاً غير مسبوق وأرضاً لم تُحرث من قبل. بلا وزن ولا قافية تقدم محمد الماغوط الى حلبة الشعر أعزل الا من شياطين روحه المتوثبة، عارياً الا من الحقيقة ومضرجاً بالأخيلة مثل بطل هوميري أغفلته الملاحم.
كيف يمكن الموت ان يلم نثار ذلك الاسم الذي لم يعد ينطبق على احد بعينه بل بات رمزاً لكل ما تختزنه أمة بأسرها من احتياط الأمل والكرامة والتوق الى الحرية؟ كيف يمكن جمعه في قصيدة أو صرخة او جثمان لكي يدعي احد ان الطريق الى قبره لا ينقصها سوى المشيعين. ومن الذي يسقط الآن: الشاعر ام الناثر، المسرحي أم كاتب المقالة، المهرج أم الخشبة نفسها؟
منذ خمسين عاماً ونحن نختلف على معنى الشعر وشكل القصيدة ولا نتفق عليه. فهو، بموهبته النادرة، الذي هيأ لقصيدة النثر ان تنتزع مكانتها المرموقة في جغرافيا الشعر العربي. وهو الذي جعلنا ننحاز الى المغامرة والتجريب على رغم ما يحتملانه من مخاطر. وهو الذي ظلل بعباءته الواسعة مئات التجارب الرديئة والافلام القاصرة وأتاح لغير الموهوبين ان يجعلوا منه المسوغ والدريئة والذريعة.
لن يموت مع جسده شيء. وباستثناء هذا الجسد سيظل لنا التصاق شعره بالحياة الى حد التماثل. ستظل لنا قوة استعاراته وصوره المباغتة التي أعادت الاعتبار للتشبيه. ستظل لنا قدرته الهائلة على استنفار الحواس. سيظل لنا امتهانه للفرح، على رغم ادعاء العكس، وحزنه الثقيلل في ضوء قمر عربي لم يكتمل ابداً ولم يشاهده أحد سواه.
شوقي بزيع
أنا أخاف الموت ولا أحب أن أتحدث عنه ابداً الا ان موت الماغوط ليس موتاً عادياً انه الموت الثاني لأحد مؤسسي قصيدة النثر بعد موت توفيق الصايغ والثالث انسي الحاج الذي اتمنى له عمراً طويلاً قد صمت عن الشعر، لذا فموت الماغوط موت مؤسف في شكل مضاعف انا اتذكر الآن قصائده"الرجل المائل"وپ"منزل على البحر"وقصيدته عن"دمشق وبردة"وأتذكر سنية صالح زوجته وقصيدته ايضاً اتذكر بيروت كلها ولا املك كلاماً غير ذلك.
عبد المنعم رمضان
كنت في اليومين السابقين استعد لكتابة كلمة موجزة احيي فيها فوز جائزة العويس بمحمد الماغوط، واحيي فيها قصيدة النثر التي جعلها الماغوط تفوز بأكبر الجوائز على غير ما يهوى العموديون والسلفيون وأهل النقل.
لكن الماغوط صاحب المعاكسة والمفاجأة عاكسنا وفاجأنا، بآخر ما في جعبته من مخالفة ومباغته.
الماغوط هو الشاعر العربي الوحيد الذي بدأ حين بدأ بقصيدة النثر، وانتهى بقصيدة النثر، فلم يتسلل اليها كما فعل كثيرون بعد اقامة قصيرة في نص العمود، او بعد اقامة قصيرة في نص التفعيلة، من هنا، فهو عندي واحد من اكثر العشراء مبدئية في تاريخ الشعر العربي الحديث.
والماغوط هو شاعر النثر الوحيد الذي يستثنيه خصوم قصيدة النثر التقليديون حينما يصبّون طوفان اتهاماتهم الجائرة على شعراء قصيدة النثر: من مثل ركاكة اللغة او التغرّب أو الهروب من القيد او الاستسهال او العجز او انعدام الاصالة.
في كل هذه التهم بصرف النظر عن صدقها او كذبها فإن التقليديين يخرجون الماغوط من دائرة الاتهام، لانه تجربة أصيلة عميقة جارحة، ولأنه"نسيج وحده".
أعلم، الآن، كم سيحزن دريد لحام، وكم سيحزن ابو حيان التوحيدي فهو مثله غريب في وطنه، وكم سيحزن سعد الله ونوس وممدوح عدوان وأمل دنقل فقط كانوا جارحين مثله، وكم ستحزن السماء لأن دموع الماغوط لن تكون زرقاء من كثرة ما نظر إليها، وكم سيحزن الحزن لان حاجباً قديماً على بابه لن يغدو واقفاً:"ما دامت كل الكتب والدساتير والأديان / تؤكد انني لن أموت / إلا جائعاً أو سجيناً".
حلمي سالم
يختلف محمد الماغوط عن غيره من الشعراء العرب، انه أنجز نصه باكراً، ثم هجره الى هجاء العالم، كمن ترك قنبلة موقوتة في شارع مزدحم، ولم يقدّر حجم الدمار الذي ستتركه في الأرواح.
ولعل صاحب"الفرح ليس مهنتي"وجد نفسه أخيراً في فخ لغوي، صنعه بيديه، إذ انتسب الى الأرصفة والتسكع والترحال في نص عصي على التجنيس، ثم غادره الى ضفاف حياتية أخرى، لا تستدعي الألم ذاته، مما أوقع القارئ والشاعر في آن معاً في مواقف ملتبسة، فمحمد الماغوط في سنواته الأخيرة، كان يطلق"مانشيتات"متباينة في أهدافها ومقاصدها، الأمر الذي أربك الجميع. وربما علينا أن نتذكر أن هذا"البدوي الأحمر"ظل مخلصاً لحلم قديم في العودة الى الصحراء، مسقط رأسه، في مدينة"السلمية"، أو معقل القرامطة، كما كان يحب أن يسميها.
كنت في زياراتي اليه، قبل سنتين، أجده منتشياً في الاستماع الى شريط عتابا بدوية، وكأنه بذلك يلملم أحلامه القديمة المبعثرة بين دمشق والسلمية، منذ أن غادرها حافياً الى أرصفة الصخب.
بأية حال، لا يمكن لديوان الشعر العربي المعاصر، أن يتجاهل منجز محمد الماغوط، بكل بكارته ودهشته، وصوره المبتكرة. أما سنواته الأخيرة فكانت مزيجاً من التمرد والطمأنينة، من دون أن تخلو من صراخ مباغت.
كتب مرة يقول:"أخذوا سيفي كمحارب/ وقلمي كشاعر/ وريشتي كرسام/ وقيثارتي كغجري/ وأعادوا لي كل شيء وأنا في الطريق الى المقبرة/ ماذا أقول لهم أكثر مما يقوله الكمان للعاصفة؟"
هل هو حدس الشاعر؟
خليل صويلح
مبكراً خان محمد الماغوط رعب المفاهيم الإيديولوجية وسلطاتها، خان الوطن حين تحول الى سجن كبير واتخذ شكل هاوية، وخان ناسه حين تحولوا الى سجّانين وهتّافين يمجدون الهراوة وهي تتربع على كل شيء.
محمد الماغوط هو إعلان مبكر للحزن في جوقة الفرح الرسمية، وهو الشاعر الحياة الذي يعيش القصيدة قبل ان يكتبها، الكتابة بالنسبة إليه حياة أولاً.
لقد علّمنا ان نسخر من أنفسنا... من كل شيء، ومضى يحرّضنا ان نحيا حياتنا بالمقلوب.
محمد الماغوط شخصية انقلابية بامتياز في الثقافة العربية إلا انه لم يسمح بأن يكون له شيعة يمجدونه في الصحف والإذاعات والتلفزيونات، ولهذا كان يشكك من نفسه اذا ما امتدحه المهتمون ببناء الدولة وهيبتها.
ويبدو لي ان تجربة الماغوط الشعرية والمسرحية بحاجة الى إعادة قراءة ومن ثم إعادة الاعتبار لهذا الكاتب الذي مكث في وطنه المجازي مضطراً، ربما. وبقي مع هذا يُجمّل بفوضاه كل شيء بما في ذلك الوطن، كفكرة.
عزاؤنا في رحيل الماغوط انه كان في كل حياته وممارساته اليومية وفي كتاباته يكافح لخيانة الموت، وإن ظن الأخير انه قد انتصر عليه.
علي المقري
لعل الميزة الأساسية للشاعر الكبير محمد الماغوط، هو ذلك الحضور الذي يلفت الانتباه الى آخر لحظة من عمره، على رغم الحياة المأسوية التي عاشها مدة طويلة وبخاصة بعد وفاة زوجته.
ومحمد الماغوط يعد حدثاً اساسياً في الشعرية العربية، وذلك بتأسيسه الملامح المهمة لقصيدة النثر، تلك القصيدة التي اخذت مشروعيتها وشرعيتها من خلال هذا الشاعر الكبير، الذي اجمع الفرقاء عليه، من يدافع عن قصيدة النثر، ومن يقف ضدها، كلهم أجمعوا على ان الماغوط هو العلامة الفارقة لقصيدة النثر.
وعلى المستوى الجماهيري، فالذين لا يعرفون قصيدة النثر، كان الماغوط حاضراً بمسرحياته العظيمة المتتالية، التي أتحفت الجماهير العربية مع النجم دريد لحام.
في الأخير لا يسعني إلا أن أدعو الله سبحانه وتعالى ان يتغمده بواسع رحمته.
حسن بافقيه
عندما يذهب شاعر مثل محمد الماغوط، سنعرف ان الشعر جاء في ذهابه.
ولا ننسى قوله مرة:"هذه الموهبة لن تمر من دون عقاب". وكنا، نحن قراءه، على انتظار طويل لمعرفة متى يكون ذلك.
كثيرة هي اعماله الشعرية التي مستنا في الصميم، وسيبقى دائماً قريباً حتى في قوله"احسد المسمار لأن هناك خشباً يضمه ويحميه". على مستوى تجربتي الشعرية، كان محمد الماغوط واحداً من الذين تعلمنا على يديه. فتنا بالصورة الشعرية التي لديه، لأنه كان من الشعراء المميزين الذين يصنعون صوراً فريدة ومختلفة. كانت حياته شعراً، حتى اشتغاله في الصحافة كان شعراً خالصاً. وكان يفاجئنا بقضايا مهمة، مثل قضية العناوين، وهذا له علاقة بالصحافة، اذ كان صانعاً يتقن نسج الصورة الشعرية وكأنها مشهد يتشكل في اللحظة، وتعرف ان هذه الصورة فريدة من نوعها، ولا يمكن ان تكون لها سابقة.
احمد الملا
"عندما أتعب أضع رأسي على كتف قاسيون وأستريح.ولكن عندما يتعب قاسيون على كتف من يضع رأسه؟!"
هذه بداية الفيلم الذي سجلته مع محمد الماغوط منذ سبعة أشهر لشركة هوت سبوت فيلم لصالح"قناة الجزيرة"ضمن سلسلة"أدب السجون"حيث روى الماغوط حكايته مع السجن والابعاد في خمسينات القرن الماضي.
الجمعة الفائت هذا صباحاً، اتصل بي وقال: هالا أريد ان أرى الفيلم الآن. ذهبت الى بيته. وبدأنا الفرجة. حين لمح جبل قاسيون وضجيج الجبل والمنازل المترامية أمامه وشمس دمشق الساحرة وسمع صوته يهدر بأنشودة الحب والتعب هذه. بكى. اهتز جسده كطفل. وبكينا الدكتور محمد بدور وأنا.قال: هذه سورية يا الله... وهذا نحن كما نحن. دخن الكثير من السجائر. ورفض مسح دموعه فتبللنا بالدمع. لم أره في حياتي يبكي ويضحك هكذا. أمنيته كانت:"ألا يبقى على وجه الارض جائع أو سجين".وكان يعرف انها مجرد أمنية لشاعر حر لم تستطع السلطات تدجينه على رغم كل ما أبدته له من حفاوات وعلى رغم كل التكريمات في ارجاء الوطن العربي. كان يقول:"لا اعرف سبب هذا الاهتمام المفاجئ يبدو انهم يساهمون فيّ كمشروع قبر...".
مات وحيداً في بيته الذي احتضن كآبته اكثر من عشر سنوات. واحتضن دفاتر اشعاره المبعثرة كأعقاب السجائر في كل مكان. تمنى في احدى قصائده ان يلمح يداً او محرمة في هذا الكون تومئ له كشاعر من الشرق في وطنه البعيد ومنفاه البعيد. ستلوح لك آلاف الايدي والمحارم لأجيال وأجيال. أنت تعرف ذلك في قرارة روح شعرك.
هالا محمد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.