في ظلّ حربٍ مفزعة استحال فيها المتعاركون وحوشاً، يقف العالم مكتوف اليدين يراقب سقوط ما تبقّى من قيمٍ أخلاقية وإنسانية. يوماً تلو الآخر تتفاقم ضراوة الحرب السورية وتشتدّ. قتل، جوع، تدمير، تهجير... وأمام هذه النوائب، لا شيء يغدو مهماً. الأرواح هي الأهم. البحث عن اللقمة، السقف، السرير، الدواء... هي جلّ ما يشغل بال السوريين، وكلّ ما عدا ذلك كماليات. المشهد لا يتسّع لغير المعذبين. هم صاروا القصّة والقصيدة، اللوحة والمقطوعة. فأيّ صوتٍ يُمكن أن يطغى على أنينهم؟ وأيّ كلمة تواجه دموعهم؟ هذه ليست تساؤلات شعرية، إنما حقيقة جعلت من الفنّ ترفاً أمام هول المأساة. نعم، في ظلّ كلّ ما يحدث اليوم، قد نطرح سؤالاً ملحاحاً: ماذا يبقى من الفنّ في وطن آيل الى الانهيار؟ وقد نجد صدى هذا السؤال يتردد في كلمة كتبها الشاعر السوري- المقيم في باريس منذ العام 2000، صالح دياب كمقدّمة لملفّ خصصته مجلّة «صحيفة الشعراء» (تصدر بالفرنسية عن دار «لو تاييس بريه» البلجيكية) للشعراء السوريين. أراد دياب أن يُقدّم الشعر السوري في الملف الذي انكب على تحضيره مع الشاعرة والمترجمة آنّي سالاجيه، لكنّ مهمته لم تكن سهلة . لذا، راح يطلق أسئلة تعكس قلق الفنان السوري -مهاجراً كان أم متواجداً- إزاء كلّ ما تعيشه بلاده. «كيف يُمكن أن نُقدّم شعراً في وطن على شفير الانقراض؟ ما هي العناصر الفنية الرئيسة التي تختص بها القصيدة السورية؟ هل ثمّة تيّار شعري خاص يُميّز الشعر السوري عن الشعر العربي المعاصر في دول عربية أخرى؟»... يربط صالح دياب بين الشعر في سورية وتاريخ الحداثة الشعرية في العالم العربي، موضحاً أنّ للشعراء السوريين جانباً لا يُمكن إنكاره في ما يُعرف بالحداثة العربية. ويُضيف: «في خمسينات القرن العشرين، جدّد الشعراء الروّاد في العراق الشعر العربي، معتمدين قصيدة التفعيلة بدلاً من القصيدة الموزونة والمقفاة... ومن ثمّ جاء الديوان الأول للشاعر السوري محمد الماغوط «حزن في ضوء القمر» في عام 1959، ليومئ إلى نوع شعري جديد في الأدب العربي. وأطلق على هذا النوع في بدايته تسميات ملتبسة كثيرة، إلى أن اتُفق أخيراً على تسمية قصيدة النثر. وقد عمدت شعرية الماغوط الى قطع العلاقة نهائياً مع الوزن والقافية... وتميزت قصائده برصدها التفاصيل اليومية للإنسان العادي، ونزاعه مع النظام القائم. وفي السبعينات، برز منذر المصري ونوري الجرّاح وغيرهما ممن انفتحوا على تحديثات واستكشافات جديدة تتواءم مع نظرة فردية الى العالم. هو الفرد يعود مجدداً ليحتلّ جوهر القصيدة، مع الاهتمام بفنية الصور وشعريتها من غير أن تنفصل مع الواقع اليومي المعيش... وفي الثمانينات، ساهم الملحق الأدبي في جامعة حلب في تطوير القصيدة السورية، بل العربية، وتحديثها. ومن بين الشعراء حسين بن حمزة ولقمان ديركي ومحمد فؤاد، وقد عملوا على تجاوز الموضوعات المعروفة والجاهزة سلفاً، فكتبوا عن حيواتهم الشخصية مسطّرين تفاصيل من يومياتهم. وبقيت لديهم قناعة راسخة في أن الهوية الشعرية والفنية هي في تغيّر وتطوّر مستمرّين. لذا لم يكن الشاعر في أذهانهم بطلاً أو متنبئاً، والقصيدة ليست بالضرورة تجسيداً لأفكار سياسية أو ميتافيزيقية، بل فنّ ينفتح دوماً على اللغة والترجمة. وفي التسعينات، ولد جيل جديد من شعراء أخذوا يكتبون قصائد تتكئ في معظمها على المعطيات الفنية والجمالية التي توصّل إليها أسلافهم. أمّا في السنوات الأخيرة، وتحديداً سنوات الحرب الثلاث في سورية، فلم نلحظ ولادة جديدة لشعر يختلف عما سبق أن عرفناه»... يضمّ ملف «الشعر السوري» تعريفات لعدد غير قليل من شعراء سوريين ينتمون إلى أجيال وتيارات شعرية مختلفة، إضافة إلى ترجمات لبعض قصائدهم التي تختصر في شكلها العام المدرسة الشعرية التي انتموا إليها. ومن هؤلاء محمد الماغوط، نوري الجرّاح، منذر المصري، محمد فؤاد، حسين بن حمزة، عمر قدّور، لقمان ديركي.