جاءت زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى أكبر بلدين في آسيا، وهما الصينوالهند، لتصحح النظرة العربية القديمة القائلة أن منطقة الخليج والجزيرة العربية ذات دور محدود في التفاعل العربي مع قوى آسيا الجديدة، كما ذهب إلى ذلك - مثلاً - باحث ومفكر عربي متمكن من موضوعه"الآسيوي"في جوانبه الأخرى د. مسعود ضاهر، اليابان بعيون عربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، تشرين الثاني/ نوفمبر 2005. فما زلت على قناعة كما ذهبت إليه قبل عشرين عاماً من الزيارة الحالية للعاهل السعودي إلى"آسيا الجديدة"، بأن منطقة الخليج والجزيرة العربية هي المرشحة، بحكم صلات تاريخية وبشرية واقتصادية عديدة، لأن تكون الجسر المستقبلي بين النهضة الآسيوية والعرب، هذا مع عدم إغفال ما للمناطق العربية الأخرى من أدوار مكملة في تعزيز قواعد ذلك الجسر. حيث أن المصالح، خصوصاً الطاقة في يومنا، هي المدخل الرئيس لما يليها من علاقات سياسية وثقافية... وإن جاءت تالية، فهي وخصوصاً"الثقافية"منها في غاية الأهمية بالنسبة لتشكيل الوعي العربي الجديد، وذلك ما نريد أن نلفت إليه في هذه المقالة. وبلا جدال، فإن الحراك العربي نحو الشرق الجديد مسألة مصير، والخليج معبر هذا الحراك. وبإمكان القوى الآسيوية الناهضة، مواجهة اختلال التوازنات في حوضه في حال تراجع القوى الغربية واتساع دائرة الهيمنة الإيرانية. هذه قراءة لا مفر منها وهي مسألة وقت. واعتقد أن ما حققه الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مبادراته الدولية المتميزة أخيراً، يمكن أن يتحقق ما يماثله في زياراته الآسيوية الجارية. إنه بلا شك موسم التوجّه شرقاً من دون أن ننسى أن تجربة الغرب لا يمكن إسقاطها من وعي البشرية!.. وإذا كان العرب قد هتفوا يوماً ما"لا شرقية ولا غربية"حرصاً على الاستقلال، فهي اليوم"شرقية وغربية"معاً من أجل الاستقلال... كذلك! ويبقى من أصح ما قيل في زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، إن هذه الزيارة الآسيوية لا تأتي بديلاً عن علاقات دولية أخرى، بل تكملة للعلاقات العربية مع العالم الذي لم يعد غرباً أحادي البوصلة، لكنه غرب وشرق بحكم مستجداته والتي لا يملك عرب اليوم تجاهلها. وإذا كانت زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى"آسيا الجديدة"أو إلى"الشرق الآخر"- شرق النهوض والتقدم والوحدة - قد تخطت حواجز كثيرة، ذهنية ونفسية وعملية للتحرر من التوجه المنفرد نحو الغرب في علاقات عربية كثيرة، فإنها تأتي استمراراً لديبلوماسية القفز العالي في العلاقات الإقليمية والدولية التي أثبت الملك عبدالله قدرته عليها منذ زياراته ومبادراته السابقة من طهران إلى واشنطن إلى موسكو... ولا بد من قراءة أخرى، غير اقتصادية، لهذه الزيارة على صعيد الوعي العربي والفكر العربي. فآسيا هي جديد العالم رغم أنها المعقل التاريخي للعالم القديم، وأعني بجديد العالم النهوض اليابانيوالصينيوالهندي المتمثل في قوى دولية صاعدة ونماذج للتحديث القومي الناجح الذي استطاع بنهجه الخاص وأسلوبه المتناسب مع خصوصيته، في كل حالة، تحقيق النهضة القومية مع استيعاب حداثة العصر العلمية والتنظيمية والفكرية. بدأتُ الاهتمام بالظاهرات الآسيوية مطلع الثمانينات من القرن العشرين. قرأت عنها بالإنكليزية والعربية وبالفرنسية وأنا أتعلم قراءة نصوصها ما استطعت ترجمته عن نهضة اليابان في كتاب العالم والعرب سنة ألفين، بيروت 1988. لم يكن ذلك فضولاً أكاديمياً... كان أكثر من ذلك. ففي تلك السنوات بدأت مظاهر التصدع العربي وأخذ اليأس يتسرب إلى نفوس العرب. أردت فتح ثغرة في الجدار بالانفتاح على الشرق الجديد، الشرق الآخر، شرق النهوض القومي والعمل المنتج والإقبال على التحديث من خلال تجديد الذات القومية لا على الضد منها ولا على الضد من الآخر، إلا فيما تقتضيه استراتيجية التحرر القومي من مواجهة حيال ارادات الهيمنة أياً كانت. كان القصد من هذه الإطلالة تعزيز الدراسات المقارنة في الفكر العربي والإسلامي للاستفادة من تجارب الشرق الناجحة. وعندما أقول"مقارنة"أعني أن تجربتنا التاريخية كبشر تلتقي مع تجارب الآخرين في القوانين العامة، وتختلف عنها في ما هو خاص. وأنه لا داعي لهذا الشعور القاتل الذي يكتسح اليوم غالبية العرب وهو إننا مختلفون تماماً عن بقية خلق الله! وظهور القوى العظمى في الشرق الآسيوي هو جديد القرن الحادي والعشرين وهو ما يفسر القلق الفكري الغربي بعنوان"صدام الحضارات"، كما أشرت إلى ذلك عام 1988 في كتاب"العالم والعرب سنة ألفين"، وبمعزل عن نظرية هنتغتون التي لم تكن قد ظهرت. فالحاصل أنه للمرة الأولى في العصور الحديثة تتقاسم قمة العالم قوى من الشرق والغرب - معاً - ويفقد الرجل الأبيض هيمنته باسم الحداثة وقوتها... وهذا ما ينتظر الولاياتالمتحدة في المنعطف القريب المقبل! ومن الواضح أن الاتفاقات التي أسفرت عنها هذه الزيارة مهمة وغير مسبوقة وسيفرض التعامل الاقتصادي منطقه إعلامياً وسياسياً. لكن من المهم أيضاً تفعيل البعد الثقافي والفكري بشأن آسيا الجديدة في الوعي العربي خصوصاً في ما يتعلق بالدرس الذي يمكن للعرب أن يتعلموه من تجربة الصين الحديثة في المئة سنة الأخيرة. فالعربي الذي يقرأ تاريخ الصين مطلع العصر الحديث سرعان ما يجد نفسه وجهاً لوجه أمام مشاهد من حاضره العربي الراهن من خلال تلك المشاهد الصينية ، فالتشابه يدعو للدهشة مع فارق الزمن... الذي يساوي مئة سنة! الجيوش الأجنبية في"تحالف دولي"تحتل عاصمة الحضارة القومية وتهين الأمة المنكوبة والدولة المنهارة... والمصالح الأجنبية تتبع تلك الجيوش حيثما ذهبت، أو تمهد لها الطريق كما فعلت الشركات البريطانية في هونغ كونغ قبل احتلالها عام 1839. واليابان التي كانت لقرون جاراً جانبياً تتلمذ على الصين في الحضارة، تسبقها الآن في التحديث واكتساب القوة وتشارك في غزوها بقسوة اعتذار رئيس الحكومة اليابانية اخيراً، كاشفةً ضعفها أمام نفسها قبل الآخر، كما تفعل اليوم القوة الإسرائيلية بالعرب، مع الفارق الكبير من جميع الأوجه بين القوتين. ومقابل هذا العجز يلجأ الشباب الصيني التائه إلى أعمال الإرهاب... نعم أعمال الإرهاب! حيث انسدت أمامه السبل ففقد الأمل، وقاده الإحباط المزمن والمظلم إلى أنه خيار إلا الإرهاب الذي لا يجلب في واقع الأمر غير المزيد من الويلات والهزائم ومبررات التدخل من جانب القوى الطامعة، كما تمثل ذلك في تنظيمات"الملاكمين"ومغامراتهم الدموية البشعة التي أدت في النهاية إلى احتلال بكين يراجع بحث الكاتب في مجلة"حوار العرب"، عدد 2، بعنوان:"رؤية للإرهاب خارج نطاق المواجهة بين الإسلام والغرب". والصين التي عاشت موحدة عبر قرون طويلة من تاريخها الامبراطوري والحضاري تتجزأ إلى دويلات وكيانات هزيلة يحارب بعضها بعضاً بقيادة المافيات وأفراد العصابات... والحضارة الصينية العريقة تبدو وكأنها أصيبت بالعقم واصفرار الخريف فلا تقدم جديداً أمام حضارة"البرابرة"الجدد التي بعكس ذلك تثبت كل يوم تفوقها في الأسلحة والمخترعات والتنظيمات والأفكار وإن حاول حكماء الصين الإيحاء، مخادعةً للنفس، بغير ذلك! والعقل الصيني، الذي طالما اشتهر بالحكمة، عاجز عن إدراك كنه هذه التحولات التي لم تعد تحمل أنباء سعيدة لمملكة السماء الوسطى! غير أن"النبأ السعيد"بالنسبة للقارئ العربي المهموم بالمقارنة بين حاضره العربي وماضي الصين القريب يأتي في ذروة المأساة. فبعد هذا كله يتجلى فعل الإرادة، فيتم تجاوز كل هذه الويلات، وتستعاد الكرامة من جديد، وتنطلق"المسيرة الطويلة"نحو غد التوحيد والتحرر والبناء العملاق، كما هي الصين اليوم... نعم رغم كل الإحباط والتراجع، ينجح عقل الأمة من خلال المعاناة الأليمة في إدراك ما حدث تاريخياً، ويعمد إلى معالجة ضعفها بالنهج العلمي والعملي الصحيح... والماركسية التي تبنتها الصين تمت اعادة صياغتها قومياً، وبنفس الأهمية وجدت فيها الصين فلسفة حديثة من الغرب مناهضة للغرب! هكذا بدأت عملية الاستعادة والتصحيح بعد تجارب"نهضوية"مجهضة أحدثت خيبات ولكنها لم تخلف يأساً قاطعاً، فتنصهر العزيمة القومية في الوعي التاريخي السليم، ويتحد القول والفعل ويتم الانتصار على المأساة... حتى في المرور بالنهضات المجهضة تتشابه تجربة الصين وتجربة العرب... إلى أن يأتي الحسم التاريخي... بانتظاره عربياً. نعم هذا ممكن، يستنتج القارئ العربي لتاريخ الصين القريب... ليس مستحيلاً... وليست هزيمة دائمة في لوح القدر لا يمكن تجاوزها. وإنما هو فارق الزمن، وفارق المراحل والتطور التاريخي النهضوي بين من سبق وبين من سيلحق. معجزة التاريخ ممكنة بإرادة الإنسان إذا اتبع سنن الله في خلقه التي لا تبديل لها... ولكن حذار من التوهم... توهم إن مثل هذا سيحدث تلقائياً وبصورة آلية إذا تم نقل التجربة الصينية إلى واقع العرب كما تصور"الماويون"، أو كما يتصور على صعيد آخر بعض دعاة الديموقراطية اليوم اعتماداً على تجارب الغير. الانتصار ممكن. والاستعادة ليست مستحيلة، ولكن ليس حرفياً ولا بالتقليد الأعمى. ثمة ظروف عربية خاصة لا بد للعقل العربي أن يدركها، ويأخذها في الاعتبار. ليس العقل العربي وحده، وإنما الإرادة العربية أيضاً... إرادة العمل! ويبقى للرؤى المقارنة، في واقع العالم، بمنطق العلم ، دورها في الإيحاء. فهي تمثل للعربي عزاءً كبيراً في المحنة الراهنة، لكن ينبغي أن تمثل عبرة أكبر للعمل... إنها من مخزون الأمل الذي يحتاجه العربي في يومه هذا. ولابد لليل من آخر... إذا أصرت الأمة على صنع فجرٍ جديد... ولا بد من القول في النهاية أنه لا يمكن تصور وقتاً أفضل لزيارة"آسيا الجديدة"من قبل قائد عربي كزيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز إليها. وثمة دروس جديدة أخرى على الطريق في آسيا المسلمة، أعني ماليزيا بصفة خاصة، سواء في تجربتها الديموقراطية المتصالحة مع إسلامها المتحضر، أو في نموذجها الاتحادي بين سلاطين مسلمين في ما ينبغي أن يثير لدينا في الخليج العربي والجزيرة العربية خاصة السؤال الملح الأصعب: ألا يمكن أن يتطور مجلس التعاون لدول الخليج العربي كما تطور اتحاد ماليزيا؟! أعلم هذا طموح كبير وقد يعتبره البعض مثالياً في ضوء واقع مجلس التعاون... ولكن هل هو مستحيل؟ ولماذا؟ وسؤال أوسع وأعم، من واقع زيارة الهند: ألا يمكن للعرب تطوير وحدة قومية فيديرالية في ظل ديموقراطية دستورية كما في الهند؟!.. أعني تجربة مقاربة... لا مطابقة! سيكتب المحللون الاقتصاديون عن النتائج الاقتصادية والتجارية والتقنية لهذه الجولة الآسيوية للملك عبدالله. ولكن الأهم، في تقديرنا، أن نطرح أسئلة الدراسات"المقارنة"هذه... وأن نرى، فكرياً ومعرفياً، كيف يمكننا كعرب الاستفادة منها... على صعيد التدبير، وليس التنظير... وحده! كاتب من البحرين.